(1)
أول ما سيتبادر إلى الذهن ، عند الاستماع إلى بلاغ الديوان الملكي هو ما قاله ،جون لانغشاو أو ستين :»عندما يكون القول هو الفعل نفسه»!أي أن بعض الكلام يكون هو نفسه الفعل الذي يريد أن يسميه!
وهو ما قد يكون، من ناحية الفهم المؤسساتي «الذهني» للسياسة في المغرب، كل ما في البلاغ!
وبدون النزوع إلى تأجيج العاطفة الانتقامية أو استدرار الفهم المستعجل في قضية تفاعلاتها في بدايتها، يستوجب البلاغ الذي صدر عن الديوان الملكي حول الوزير نبيل بن عبد الله ، الهوامش التالية، وهي بلا شك في الشكل، قبل الخوض في الجوهر :
1 – محاولة للتصويب لم تنجح..
نشرت أسبوعية الأيام حوارها مع نبيل بن عبد الله في عددها الصادر يوم 8شتنبر، أي قبل 5 أيام من البلاغ الصادر عن الديوان الملكي.. يوم 13 شتنبر.
والحال أن الظاهر هو أن تفاعلات ما وقعت قبل البلاغ، تكشف عنها محاولة وزير السكنى وسياسة المدينة، والأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، التصويب في حينه.
فقد نشر موقع الأيام الالكتروني توضيحا نشرته في نفس اليوم من الأمين العام جاء فيه:»وقع عدم التدقيق في نقل جواب للسيد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب «التقدم و الاشتراكية»، خلال الحوار الذي أجراه مع أسبوعية «الأيام» في عددها الصادر اليوم الخميس، عند حديثه عن تأسيس حزب «الأصالة والمعاصرة».
وورد خطأ غير مقصود في حوار نبيل بنعبد الله عند قوله: «مشكلتنا ليست مع الأصالة و المعاصرة كحزب، بل مشكلتنا مع من يوجد وراءه ومع من أسسه، وهو بالضبط من يجسد التحكم». غير أن الصحيح، أن الأمر يتعلق بفكرة التأسيس والمؤسسين و ليس عبارة «المؤسس» كما أوردت الجريدة.
وتظهر جليا محاولة المحاور في»تعويم» المسوولية لنقلها من الواحد إلى الجمع .. وإلى الفكرة!
ويتضح أيضا أن التصويب لم يكن مقنعا لمن يهمهم الأمر، ولم يكن كافيا في طي الصفحة…
2 – اللغة والسياسة والدلالة في الحوار ، كلها قائمة على إدراج اسم مستشار الملك فؤاد عالي الهمة في بنية الحاضر السياسي، وتطويقه بمسؤولية «التحكم».. والحال أن نبيل بن عبد الله لم ينتبه إلى أن حليفه عبد الإله بنكيران تخلص منذ 2012، عن هذه الشرطية في ربط المستشار بـ» التحكم»، وحاول في أحيان كثيرة أن يجعله بنية «هلامية»، و تحويله إلى وجود شبه لاهوتي لا ملامح له ، وأحيانا أخرى جعله
«لا شخصيا impersonnel «عندما تحدث عن الوسطاء، والمحيط الملكي .. وبهذا الخصوص، من المثير للانتباه حقا أنه سبق له أن صرح في حواره ليومية الشرق الأوسط أن كون فؤاد عالي الهمة، خصمه السياسي اللدود سابقا ومستشار ملك المغرب حاليا، هو مخاطبه الرئيسي في القصر الملكي قد يصبح شيئا إيجابيا في النهاية، مشيرا إلى أن عالي الهمة لديه مرتبته ومكانته، وهو شخص متفهم، قبل أن يضيف أن «ما وقع بيننا في المرحلة السابقة طويت صفحته «….وأصبح يحظى بالاحترام منذ أن عين في منصبه هذا..
3 – يشير البلاغ إلى الصفة الحكومية للمعني به، وهو من الأشياء التي لا تخفى، إذ نكون أمام عضو في مؤسسة رسمية ، هي الحكومة، أمام عضو في مؤسسة رسمية بدورها تتجاوز الزمن السياسي ، هي الديوان. وقد ورد هذا التقابل بواضح العبارة :» الديوان الملكي(….) يحرص على رفع أي لبس تجاه هذه التصريحات، لما تحمله من أهمية ومن خطورة، لاسيما أنها صادرة عن عضو في الحكومة، وأن الشخص المقصود هو مستشار لجلالة الملك حاليا، ولم تعد تربطه أي علاقة بالعمل الحزبي».
وقد سبق أن حدث ،شكليا، هذا النوع من المناوشات بين الحكومة وبين بعض المستشارين ( قضية ازولاي في الحكم على حصيلة حكومة الأستاذ المجاهد عبد الرحمان اليوسفي، قضية مزيان بلفقيه ومعتصم اللذين اعتبرا أن المستشار «ليس فاعلا مستقلا ولا مجرد سلطة ولا حتى مؤسسة» ورد محمد اليازغي ، الكاتب الأول آنذاك للاتحاد عليهما..)…
4 – البلاغ لم يختر التلميح ، بل اعتبر أن الأمر يتعلق بمكانة المؤسسة الملكية في الحوار الدائر اليوم قبيل الانتخابات :
فهو من جهة قال بالحرف إن التصريحات « تتنافى مع مقتضيات الدستور والقوانين التي تؤطر العلاقة بين المؤسسة الملكية، وجميع المؤسسات والهيئات الوطنية، بما فيها الأحزاب السياسية.»
كما يؤكد من جهة ثانية أن «مستشاري صاحب الجلالة لا يتصرفون إلا في إطار مهامهم، وبتعليمات سامية محددة وصريحة من جلالة الملك…»
5- كل ما سبق من رسائل ، يكون مركزها الديوان الملكي، في سابق الحكومات، كان يدور ، في العمق حول مؤسستين من مؤسسات الدولة ، في حين الواضح الآن أن الشأن الحزبي، كان من ضمن المعضلة التي تستأثر بالحقل العام والرأي العام.
فقد وردت الحزبية المغربية لخمس مرات في البلاغ :
* مشكلة هيئته السياسية ليست مع حزب الأصالة والمعاصرة.
* الشخص المؤسس لهذا الحزب.
* العلاقة بين المؤسسة الملكية، و…. الأحزاب السياسية.
* مستشار لجلالة الملك حاليا، ولم تعد تربطه أي علاقة بالعمل الحزبي.
* هذه القضية لا تخص إلا صاحب التصريحات، وليست لها أي علاقة بحزب التقدم والاشتراكية ….
6- البلاغ يستعيد لنفسه ما سبق أن ورد في خطاب العرش الأخير ، عندما نبه الملك إلى مركزه الدستوري ومكانة الملكية في البناء المؤسساتي..في العلاقة مع الحزبية المغربية..إذ قال :»وبصفتي الساهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، فإنني لا أشارك في أي انتخاب ، ولا أنتمي لأي حزب. فأنا ملك لجميع المغاربة مرشحين، وناخبين، وكذلك الذين لا يصوتون . كما أنني ملك لكل الهيئات السياسية دون تمييز أو استثناء . وكما قلت في خطاب سابق، فالحزب الوحيد الذي أعتز بالانتماء إليه هو المغرب. ومن تم ، فشخص الملك، يحظى بمكانة خاصة في نظامنا السياسي. وعلى جميع الفاعلين مرشحين وأحزابا تفادي استخدامه في أي صراعات انتخابية أو حزبية …»
(2) ..موازين القوى … وموازين المعنى!
1) من البداهة السياسية أن نبيل بن عبد الله كان يدرك أنه يقوم بفعل سياسي : حوار، ندوات، جولات وضعها تحت شعار التحكم ..وهو يدرك أيضا بأن هذا الفعل السياسي يستوجب منطقيا رد فعل..ما هي حدود الرد، ما هي جدواه، وما هي نجاعته؟
يخضع ذلك لترتيبات التأويل والموقع الذي نقارب به هذا الرد..
هناك من اعتبر بأن الأمر يتعلق بموقف دفاع من طرف الذين لا يتم تحديد ماهيتهم، “هادوك” كهُلاٍم ، وهناك من اعتبر المشكلة إيذانا بإعلان نهاية رجل أو حزب، والحال أن أية نهاية لا تكون ببلاغ…
وهناك من اعتبر أن الموقف من نبيل بنعبد الله هو موقف من ابن كيران ، وأن الرسالة موجهة لرئيس الحكومة، وأنه يجب دفع التقدم والاشتراكية إلى فك الارتباط ، لغة ومصطلحا، مع حزب العدالة والتنمية، والحال أن الخصومة السياسية لا تكون توشية لبيان سياسي مهما كانت قوته…وهناك في المقابل من اعتبر أن الخصومة مع الدولة، توجب بالضرورة الصداقة مع نبيل بن عبد الله والدفاع عنه..
ويمكن أن نقول مع دافيد هيوم أنه” ليس هناك ما هو مثير للمفاجأة، لكل من ينظر إلى الشؤون العامة البشرية بعين الفلسفة، أكثر من أن يلاحظ الاستسلام الضمني الذي يطرد به الناس عواطفهم الخاصة وشغفهم الخاص لفائدة عواطف وشغف الحاكمين”!
وهو ما يجعل “دافيد هيوم” يقول أنه” على الرأي تتأسس الحكومة”… ويصدق ذلك على الحكومات الليبرالية والديمقراطية والاستبدادية على قدر المساواة..فهو ليس ميزة خاصة بحكم معين!
فلا مجال إذن لفكرة المؤامرة في شيء يخص المؤسسات بل هناك منطق خاضع للسوسيولوجيا السياسية..
2) سيكون “كوجيطو” سياسي غير موفق … ألا نتكلم تحت سقف الدستور، جميعا، فالدستور هو السقف الذي يتكلم من تحته المنتقدون والموافقون والممارسون والحالمون بالحكم الخ : وهذا الدستور كتعاقد ، ألا ينسحب عليه ما قاله عالم الاجتماع دوركايم: “ليس كل ما في العقد هو ….. تعاقدي” !
!tout n’ est pas contractuel dans un contrat
وهو ما يعني أن المهم والأساسي يظل خارج العِقد..أحيانا!
3) كل انتخابات هي لحظة ميزان القوة، وميزان القوة هو أيضا ميزان تواصل… وميزان معنى ، ولا شك أن جزءا من المعنى يصنعه الموقف من تجربة الحكومة ! و مآل الحزب الذي يقودها بعد اقتراع 7 أكتوبر!
وعلى الذي يهمه مصير التعددية أن يتساءل عن معادلة ميزان المعنى، بعد أن ظل ميزان القوة مختلا لفائدة المحافظة ، بكل تلاوينها!
4) خاطئ من يعتقد بأنها المرة الأولى التي يكون فيها المحيط الملكي ضمن معادلة المعنى قبل الانتخابات..فقد كان النقاش حول هذا المحيط مقترنا دائما بالاقتراع.
حتى بالعودة إلى الحياة السياسية الجنينية، كان الزعماء منذ 1963 ينظرون إلى المستشار القوي في الهرم الراحل محمد رضى اكديرة بطريقة معينة:ففي استجواب لعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة عضوي الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية مع مجلة جون أفريك، نشرتها (التحرير) في عددها الصادر يوم 10 أبريل عن المستشار اكديرة ، أجابا بما يعني بأن الأمر بالنسبة لحزب كالاتحاد لا يتعلق بالتعامل مع المستشار بقدر ما يتعلق بالمؤسسة.
و المحيط كان موضع تراشق دوما قبيل الانتخابات 2011 إبان الحراك الفبرايري…
وقبله في 2009 مع ظهور البام، 2007 مع محمد اليازغي… وتصريحات الفقيد مزيان ومعتصم2002 وقبلها مع اليوسفي .. وتصريحات أزولاي..
وقد كان موقعهم ، كرجال الدولة personnel de l’ état موضع تفكير في الإصلاح، منذ دستور 2011، وقد تقدم الملك بوصفة للإصلاح الشامل، صارت الدولة بهذا المعنى المنتج الأساسي لأدوات بناء الواقع السياسي بعد الربيع المغربي…وبناء المعنى السياسي، كما أن الفاعلين السياسيين يؤسسون معنى السياسة في الموقف من الدولة والمؤسسات… لهذا يجب انتظار رد فعل حزب التقدم والاشتراكية، ليكتسي البلاغ معناه الكامل.
4) لغة البيان، جاءت في فضاء بدأ يفقد لغته السياسية لفائدة قواميس متنافرة :قاموس القباج،(الشرع والدين ) قاموس رئيس الحكومة،( التحكم والتبشيرية الرسالية ) …..وبالتالي فالمعنى السياسي قد يميل لفائدة اللغة الأقرب للسقف الإصلاحي الذي بنته الدولة نفسها من خلال إصلاحها الدستوري..
لقد قيل الكثير حول البلاغ الصادر عن الديوان الملكي، ولعل المرحلة مواتية الآن لرفع سقف التفكير وتعميقه بعيدا عن المواقف المباشرة، أكاد أقول الغريزية، التي تنتهي بعد انقشاع السحاب!