الاتــحــــــاد مـــن أجـــــل الـــمستقبـــــل
الاتــحــــــاد مـــن أجـــــل الـــمستقبـــــل محمد الأشعري، العربي عجول، علي بوعبيد
الـــفهــــــرس:
I -تحديد مستلزمات إنجاح المؤتمر التاسع للاتحاد………………………………………..3 II- قراءة في الوضع السياسي بعد المصادقة على الدستور الجديد…………………………..4 محددات المعادلة السياسية الجديدة……………………………………………6 III- القواعد المؤسسة لخطنا السياسي……………………………………………………8 IV- قراءة في واقع الحزب بعد المؤتمر الثامن……………………………………………12 V- أداة حديثة لحزب حديث…………………………………………………………..18
الاتــحــــــاد مـــن أجـــــل الـــمستقبـــــل
ونحن نتهيأ لعقد المؤتمر التاسع للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لا ينبغي أن تشغلنا النقاشات المرتبطة بتحضير المؤتمر عن نقاش العمق، سواء في ما يتعلق بالخط السياسي أو بشروط وضعه حيز التطبيق، ذلك أن هذا النقاش الأساسي هو مرتكز التعاقد بين المناضلين وبين كل مرشح للكتابة الأولى للإتحاد. لقد أظهرت تجربة المؤتمر الأخير أن اقتصار المقررات على العموميات قد يؤدي إلى إفراغها من كل محتوى بل وإلى تحريفها، لذلك يتوجب على الاتحاد أن يقطع بصفة نهائية مع ثقافة “الشيك على بياض” المسلم دوما إلى القيادة، ففي هذه القطيعة ضمان لتحديث الحزب، ولاستعادة الثقة بين المناضلين والأجهزة القيادية. هناك من يعتبر أن إخفاقاتنا السياسية المتوالية ترجع إلى “استهلاك” الأشخاص، وإلى هيمنة الطموحات الشخصية لبعض أعضاء القيادة على المصلحة الحزبية وعلى مصلحة البلاد. إنه نقاش مشروع وله ما يبرره ،غير أنه لا يجب أن يطمس النقاش الضروري حول الرؤية السياسية وحول الخط السياسي الذي ينتظر المواطنون من خلاله عودة الاتحاد إلى موقعه الأساسي في الساحة الوطنية، فغياب هذه الرؤية السياسية وضبابية الخط السياسي هما السبب الجوهري في إخفاقاته. لذلك إذا لم يؤد التنافس بين المرشحين إلى الدفاع عن مشاريع سياسية مدققة، مصاحبة بالتزامات واضحة لتنفيذ هذه المشاريع في إطار تعاقد يغطي مدة الانتداب الحزبي، فإن الاتحاد سيظهر مرة أخرى أنه قد أصبح هيكلا فارغا بدون روح. انسجاما مع هذه القناعة ستحاول هذه الورقة تقديم عناصر الرؤية السياسية التي ستؤطر سعينا إلى الحصول على ثقة المناضلين من أجل قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وذلك: 1- من خلال تحديد مستلزمات إنجاح المؤتمر التاسع 2- من خلال قراءة للوضع السياسي بالبلاد بعد المصادقة على الدستور الجديد 3- من خلال قراءة في تجربة الاتفاق والاختلاف داخل المكتب السياسي منذ المؤتمر الأخير. وتأسيسا على ذلك ستقدم هذه الأرضية تصورا أوليا لعناصر الخط السياسي الذي نقترحه للمستقبل، وتصورا لمشروع تحديث الحزب بما يتلاءم ومستلزمات تطبيق هذا الخط السياسي. ومن الواجب أن نؤكد اليوم أن كل ما نعبر عنه في هذه الورقة هو على صلة وثيقة بالأفكار والقناعات والاقتراحات والتحليلات التي عبرنا عنها داخل المكتب السياسي، وأمام الرأي العام منذ المؤتمر الثامن، والتي جعلتنا نختار منذ البداية أن نبقى منسجمين مع قناعاتنا وأن لا نسكت على أي شيء اعتبرناه مخلا بالتزاماتنا أمام المؤتمر الثامن.
I -تحديد مستلزمات إنجاح المؤتمر التاسع للاتحاد: إن الهاجس الأول للمناضلين اليوم هو إنجاح المؤتمر التاسع، أي جعله في مستوى انتظارات المواطنين من جهة، وتمكينه من جهة أخرى من تجاوز أزمة الحزب ومن استعادة قدراته السياسية. وحتى لا نخذل انتظار المناضلين الذين يعتبرون هذا المؤتمر مؤتمر الفرصة الأخيرة، فإن من واجبنا فرديا وجماعيا أن نوفر الشروط التالية: 1) جعل المشاريع السياسية محور النقاش داخل المؤتمر، وتحمل المرشحين أخلاقيا لمسؤوليتهم ليس فقط في الدفاع عن مشروعهم المستقبلي ولكن أيضا لتقديم تقييم واضح لتدبير الخط السياسي ولحكامة الحزب منذ المؤتمر الأخير. إن أول مستلزم لإنجاح المؤتمر يتعلق باستناد الترشيح الى مشروع سياسي، وليس فقط إلى طموح شخصي، احتراما لقيم الحداثة ولذكاء المناضلين الرافضين للواءات الشخصية، واعتبارا لضرورة ارتباط المرشح بقدرة شخصية أولا وقبل كل شيء على بلورة رؤية سياسية وعلى تعبئة واسعة حولها، مما سيمكنه من تعاقد واضح مع المناضلين. 2) التوجه نحو مؤتمر يستجمع الطاقات ويتوجه نحو المستقبل، يتعلق الأمر هنا بالحرص الجماعي على فتح أبواب المؤتمر لكل الاتحاديين، وللمنخرطين الجدد ولمناضلي اليسار الراغبين في ذلك، فهذه هي الرسالة الأولى التي يجب أن يبني الاتحاد على أساسها إعادة ربط جسوره بالمجتمع. وفي نفس الوقت فإن الاتفاق على قواعد تنظيمية تكرس قيم الديمقراطية، وتربط بين المسؤولية والمحاسبة، وتفرز قيادة قوية ومنسجمة، وهو الأمر الذي سعت اللجنة التحضيرية إلى توفيره بعد نقاشات خصبة، يجب أن يرتبط ارتباطا وثيقا مع قواعد الشفافية سواء في ما يخص العمليات الانتخابية كلها من المؤتمرين إلى الأجهزة، أو ما يتعلق بتحديد واجبات وحقوق كل مناضل وكل جهاز بما يضمن توزيعا متوازنا للمسؤولية الحزبية، ووضوحا كاملا لهذه المسؤوليات. 3) وأخيرا فإن إنجاح المؤتمر يتوقف الى حد بعيد على استعادة الاتحاد بهذه المناسبة لدوره الطليعي في حمل مشروع الحداثة، ليس فقط لارتباط ذلك بجوهر مشروعنا المجتمعي ولكن أيضا لارتباطه بمضامين الخط السياسي، وبمجمل ممارستنا الفردية والجماعية. لذلك يتوجب على كل الذين يطمحون إلى قيادة الاتحاد، أن يقدموا للمناضلين مقاربتهم الإجرائية في هذا المجال، وأن يشرحوا ما يعنونه بالحداثة السياسية ليس فقط كمنظومة قيم، بل أيضا كخط سياسي، لأن القيم لا معنى لها إلا إذا ارتبطت بخط سياسي.
II- قراءة في الوضع السياسي بعد المصادقة على الدستور الجديد: دخل المغرب في دورة سياسية جديدة مباشرة بعد انتفاضات الربيع العربي، فكانت المصادقة على الدستور الجديد، ثم تنظيم الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها والتي حملت إلى الحكم أغلبية جديدة يقودها حزب العدالة والتنمية. إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي كان تاريخيا في طليعة القوى المناضلة من أجل الديمقراطية مدعو لمتابعة التطورات المرتبطة بهذا الوضع الجديد، من أجل إعادة تموقعه في الساحة السياسية والحفاظ على دوره في بناء وترسيخ الحياة الديمقراطية. إلا أن هذه المتابعة لن تكون ذات مرد ودية إلا إذا انطلقت من تشخيص واضح يواجه أزمة اليوم بتبصر وشجاعة. لابد إذن في البداية من الاعتراف بأن تشخيص الوضع الحالي يفضي إلى ملاحظتين أساسيتين: – فعلى مستوى المجتمع المغربي، تشكل إخفاقاتنا الانتخابية المتتالية تنبيها قويا يتوجب علينا أن نقف عنده. فقد أصبح ذلك يعني ببساطة أن المكونات الاجتماعية والترابية التي يفترض أن تعطي قاعدة انتخابية شعبية لصلح مشروع مجتمعي حديث وديمقراطي، قد ابتعدت عن حزبنا بحيث أصبح الاتحاد الاشتراكي بفعل ذلك لا يجسد الطموح الذي يحمله. إنه تشخيص قاس، ولكنه هنا، واقع لا يرتفع. لقد عاقب الناخبون حزبا لم يعد خطه السياسي يعبر عن تطلعاتهم وعن غضبهم، ولم يعد بإمكانهم التعرف عليه، حيث بدا فاقدا للبوصلة، وغير قادر على تجسيد الحداثة التي ينادي بها، وقد حاولت مقررات المؤتمر الثامن أن تستفيد من الإخفاقات، وأن تعيد ربط الجسور مع المكونات الاجتماعية التي فكت ارتباطاتها بالحزب، إلا أن بقاء هذه المقررات حبرا على ورق، واصطدامها بجدار الاستراتيجيات الفردية أضفى مزيدا من الخلط والغموض على الخط السياسي. – وعلى مستوى الحزب فقد أصبح واضحا أن هذا الإطار التاريخي الذي كان على مدى نصف قرن محدداً أساسيا في الحقل السياسي المغربي، مهددا بالانهيار تحت ثقل تناقضاته التنظيمية، التي جعلت منه حزبا يتجاذبه خطاب حداثي وممارسات متخلفة،حيث يفقد في كل يوم بفعل هذا التجاذب جزء من مصداقيته وتأثيره في المجتمع. لذلك يعتقد الاتحاديون أننا اليوم أمام مؤتمر حاسم، إما أن ينقذ الحزب من هذا الانهيار المعلن، أو يجعل منه حزبا في طريق الانقراض، ولذلك تصر كل الإرادات النضالية في اليسار عموما، وكل الإرادات الغيورة على مستقبل الديمقراطية في المغرب على ضرورة إنقاذ الاتحاد الاشتراكي، وعلى ضرورة الإقدام على قرارات شجاعة سياسيا وتنظيميا، قرارات تحدث قطيعة مع أنصاف الحلول، وتضع حدا للجمود والتردد، وتقدم أجوبة ملموسة على أوضاع مغرب اليوم في مستوى التحديات المطروحة عليه. إنهما معطيان أساسيان في وضعنا الحالي، ويضاعف من أهميتهما أنهما يأتيان في سياق تحول سياسي عميق يهم الرهان الديمقراطي الذي أصبح بالغ التعقيد، ويتوجب علينا أن نعي ذلك جيدا لنتمكن من تحديد خط سياسي يناسب الرهانات الجديدة، ذلك أن مسألة الديمقراطية في المغرب وإن كانت ما تزال مطروحة بقوة فإنها أصبحت اليوم مطروحة بمقتضيات جديدة. وحتى نتبين عناصر هذا التحول سيكون من المفيد أن نستحضر هنا مختلف المستويات التي مر منها مسار نضالنا الديمقراطي، والتي يمكن أن نجملها في أربع مراحل: المرحلة الأولى الممتدة من سنة 1975 إلى التسعينيات والتي توجت بمجيء حكومة التناوب سنة 1998. ويمكن القول إن هذه المرحلة اتسمت بالصراع الذي تواجهت فيه الملكية مع القوى الديمقراطية في نضالها من أجل ملائمة الشرعية الملكية مع الشرعية الديمقراطية المنبثقة من الإرادة الشعبية. وقد كان الإصلاح الدستوري في صلب هذا الصراع للحد من التحكم الملكي، ولإحداث توازن أفضل بين السلط ولوضع اللبنات الأساسية لدولة الحق والقانون. وقد قاد الاتحاد الاشتراكي هذه المعركة في كل الجبهات، على المستوى السياسي والنقابي والبرلماني والثقافي والجمعوي، واستطاع أن يرسخ مصداقية نضاله الديمقراطي من خلال الخطاب المحرر الذي يحمله، ومن خلال النموذج الأخلاقي الذي جسدته القيادة بالتزامها وشجاعتها السياسية. المرحلة الثانية الممتدة من 1998 الى 2002، وقد توجت مسلسل الانفتاح السياسي الذي أثمرته المرحلة الأولى، وتزامن مع انتقال ملكي، عملت حكومة التناوب في إطاره وخدمة للمصالح العليا للبلاد على بناء علاقة ثقة مع الملكية حفاظا على استقرار البلاد. لكن حكومة التناوب التي غيرت صورة البلاد في الداخل والخارج، ورسخت مكانة المغرب دوليا كديمقراطية فتية، كان عليها أيضا أن تستجيب للآمال العريضة التي فتحتها بتحملها للمسؤولية، وإذا كانت قد نجحت إلى حد بعيد في تدشين عهد إصلاحي كبير في المغرب، فإن انتخابات 2002 جاءت لتكسر الأمل في تدشين دورة جديدة من دورات الانتقال السياسي. المرحلة الثالثة من 2002 الى 2011 وقد استمر الاتحاد فيها سجينا لمشروع انتقال مجهض، حيث انغمر في مشاركة حكومية بتبرير حول مواصلة أوراش الاصلاح لم يقنع كثيرا من الناس، وأدى به ذلك إلى نوع من الانطوائية جعلته عاجزا عن التواصل مع المجتمع، وعلى تجديد مشروعه السياسي، فكان عقاب الناخبين سنة 2007 والضعف الخطير في نسبة المشاركة تعبيرا عن رفض لالتباس المرحلة ولتنازل الحزب عن عناصر أساسية في هويته السياسية، وقد كان ممكنا بعد القرارات التي أسفر عنها المؤتمر الثامن أن يستعيد الحزب مصداقيته، وقوة خطه السياسي. عندما سجل توجها استراتيجيا للمطالبة بإقامة ملكية برلمانية، لكنه لم يقم بالمبادرات الضرورية سواء داخل الحكومة أو خارجها، ولم يستلهم مضامين “المنهجية الديمقراطية” التي نادى بها، وتجاذبته مواقف متباينة ومنتاقضة حول التحالفات والتموقعات، ولم يستطع القيام بمعركة حقيقية حول الإصلاح الدستوري تليق بتاريخه ورصيده، الشيء الذي قاد الناخبين مرة أخرى إلى حكم قاس على الاتحاد مكانة وأفقا سياسيا. وأخيرا مرحلة تمتد من الربيع العربي إلى المستقبل وهي المرحلة التي تتسم بتغير المعطيات السياسية في بلادنا وبالخصوص في ما يتعلق بمستقبل الديمقراطية. لقد تميز حزبنا تاريخيا بقدرته على تطوير مفهوم خاص به للمصلحة الوطنية، ووضع الاختيار الديمقراطي في قلب هذا المفهوم معبرا دائما عن قناعته بأن الديمقراطية ليست قرارا فوقيا، ولكنه بناء يحتاج إلى الصبر والمثابرة والتراكم والرؤية السياسية النفاذة، واليوم يتوجب على الاتحاد الاشتراكي أن يفكر مليا وبكل مسؤولية في التحولات التي تعرفها بلادنا سواء في ما يخص إمكانات التقدم أو في ما يخص مخاطر النكوص، وأن يعتمد على هذا التفكير لبناء تموقعه السياسي. إن المشروع البديل الذي نقترحه يستند بالأساس إلى فهم الرهانات الاستراتيجية التي تحملها هذه التحولات بخصوص مستقبل الديمقراطية في المغرب، لأننا نعتبر أن استمرار الاتحاد يكمن بالأساس في استمرار دوره في الدفاع عن الاختيار الديمقراطي، لكن قبل عرض التوجهات الأساسية لهذا المشروع لابد أن نحلل بكل ما يمكن من الوضوح ملامح هذه التحولات. محددات المعادلة السياسية الجديدة 1- إن الربيع العربي بغض النظر عن تمظهراته وامتداداته المختلفة، يعبر بشكل عميق عن رفض المجتمع لمنطق السلطة في مختلف تعبيراته القمعية ضد الفرد، إن هذا الرفض ولو أنه تعبير عن وعي تحرري فإنه يطرح مع ذلك إشكالية ترجمته في تطور المؤسسات وفي استجابتها لتطلعات التغيير، ومن الواضح أن سياق المواجهة مع المؤسسات السياسية الذي يطبع التحولات التي نعيشها، ما يزال قائما، لم يحفف منه لا الإصلاح الدستوري ولا الاستفتاء المرتبط به، ولا أدل على ذلك من محدودية المشاركة في انتخابات 2011 قياسا إلى أهميتها في الاستفتاء، ومن استمرار التوتر الاجتماعي الكامن أو المعلن، إن هذه التجربة تعلمنا كل يوم أن الديمقراطية بكل ايجابياتها كأفق سياسي، فإن بناءها لا يخلو من تناقضات وتوترات تهم وضعها حيز التطبيق، فالحل الديمقراطي ليس وصفة جاهزة، إنه يخضع أيضا للتقلبات والأهواء، ولا يستجيب دائما للعقلانية سواء لدى الشعوب أو لدى الحاكمين. لذلك ينبغي أن نفكر في المستقبل، بكثير من التبصر، بعيدا عن كل ملائكية ساذجة، أو ديماغوجية سهلة. 2- لقد رسخ الدستور الجديد التوجه نحو الخيار الديمقراطي، ولكن ذلك ليس ضامنا لتجسيد هذا الخيار في الحياة السياسية، فقد ترك الدستور هذا الأمر للقوانين التنظيمية التي أصبحت وظيفتها تبعا لذلك هي استكمال المسلسل التأسيسي من الناحية الدستورية، ومن جهة أخرى فإن الدستور الجديد يحتفظ للمؤسسة الملكية بمكانة مركزية في اللعبة السياسية. وإذن فإن الدستور الجديد يريد أن يكون مؤسسا، مؤسسا لنظام سياسي ومؤسسي جديد يتم في إطاره التداول السياسي دون الإخلال بأسس النظام، ومع ذلك فإن الالتباسات المحيطة بالتجربة السياسية الحالية لا تضمن تجنب التراجعات. وبالفعل يحمل الدستور الجديد إمكانات هائلة لتطور واعد في بلادنا، لكننا نعرف أن تطبيقه سيظل مفتوحا على أكثر من احتمال، فالإجماع على الدستور يخفي في الحقيقة وجود تصورات مختلفة حول مشروع دمقرطة البلاد، فبالنسبة للبعض ليست الديمقراطية سوى مسطرة حسابية توفر الشرعية للحاكمين وفقا لقانون الأغلبية، بغض النظر عما ستفعله الأغلبية بهذه الشرعية، والمخاطرة هنا هي تقويض الديمقراطية باسم الديمقراطية وبوسائلها. وبالنسبة للبعض الآخر، فإن المغرب لم ينضج بعد للتوفر على نظام ديمقراطي، وفي وضع كهذا، فإن الديمقراطية بما تحدثه من توترات دائمة تكون تهديدا مباشرا للنظام الاجتماعي والاقتصادي، لذلك فإنها لا تكون حلا ناجعا إلا إذا خضعت “لتنظيم سلطوي” من قبل الدولة، يتحكم في مسارها وفي مضامينها، والمخاطرة هنا هي تبرير تصور اختزالي للديمقراطية بضرورة “حماية الديمقراطية” وهو ما يفتح الباب أمام احتمالات التراجع وتقليص الحريات والإخلال بتوازن السلط. وأخيرا فبالنسبة للبعض الآخر وللديمقراطيين على وجه التحديد، فإن الديمقراطية رغم كونها مسطرة حسابية لتحديد الأغلبية والأقلية فإنها أولا وقبل كل شيء نظام مجتمعي قائم على منظومة قيم ملموسة تهم الحريات الفردية والجماعية. كل هذه الرؤى توجد اليوم في بلادنا لدى فرقاء سياسيين مختلفين يجمعون على مضامين الإصلاح الدستوري، ولكن لكل تصوره الخاص في ترجمة الدستور إلى وضع ديمقراطي لا رجعة فيه. ولهذا فإن المصادقة على الدستور لا تكفي لتدشين صفحة جديدة في تجربتنا الديمقراطية، ولضمان استقرار المغرب بصفة دائمة في نوع من السلم السياسي. 3- لقد أفضت انتخابات 2011 إلى وضع أجندة البناء الديمقراطي بما في ذلك القوانين التنظيمية ذات البعد التأسيسي للوضع الدستوري الجديد، بين يدي أغلبية هجينة بقيادة حزب إسلامي لا تبعث “نواياه الديمقراطية” على الاطمئنان، ويستمد بعضاً من قوته الأساسية من انهيار مصداقية الطبقة السياسية. وهذا هو جوهر التناقض الذي يطبع الوضع السياسي في بلادنا حاضرا ومستقبلا، ويزيد من تقعد المعادلة الديمقراطية لحد يصبح معه نجاح التجربة الحكومية الحالية غير موصل بالضرورة إلى إنجاح الاختيار الديمقراطي. لذلك فإن معرفة من سيكون الرابح ومن سيكون الخاسر من التجربة السياسية الحالية ليست مسألة سهلة ولا بديهية ! وبالفعل من الممكن أن نعتبر أن نجاح هذه التجربة سيرسخ شرعية حزب العدالة والتنمية، الشيء الذي قد يدفعه إلى توسيع هيمنته الايديولوجية لحد منازعة الملكية نفسها في احتكارها لتدبير الحقل الديني، والى ارتهان المجتمع برمته في تصور حسابي للديمقراطية. وبالمقابل فإن فشل التجربة الحكومية الحالية قد لا يفهمها الرأي العام كنتيجة مباشرة “للتدبير السيء” للعدالة والتنمية، بل كنتيجة “للحرب المعلنة” عليه من قبل خصوم بدون مصداقية، وعند ذلك سنكون أمام ارتفاع مضاد لشعبية الحزب الإسلامي، بل إن هذا الفشل سيكون بمثابة إعلان عن فشل تطبيق الدستور، الشيء الذي سيفتح الباب واسعا أمام التشكيك في الاختيار الديمقراطي، وأمام تنامي المواجهة خارج المؤسسات. أمام هذه العناصر الثلاث التي تشكل قراءتنا الهادئة والمتزنة للوضع السياسي الذي نعيشه اليوم، فإن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية مدعو لتقديم أجوبة شجاعة تأخذ بعين الاعتبار مستلزمات الصراع السياسي الذي يجب أن نخوضه دفاعا عن الديمقراطية، ويأخذ بعين الاعتبار كذلك دوره في المجتمع دفاعا عن التقدم والحداثة.
III- القواعد المؤسسة لخطنا السياسي: إن مشروع الخط السياسي البديل الذي ندافع عنه يستند أولاً إلى القيم والمبادئ التي تشكل جوهر هويتنا، ويستند ثانيا إلى قراءتنا للوضع السياسي ولتحولاته. وقبل ذلك فإننا بصفة عامة نعتبر أن الثوابت المتعلقة بالدين والوطن والملكية، هي ثوابت في مرجعيتها وفي تأطيرها للأمة، وهي أركان أساسية لنظامنا الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولكننا ندعو إلى فهم ديناميكي لهذه الثوابت، لا تجعل منها خطوطا حمراء، بل مجالا للاجتهاد والتطوير والتكيف مع التحديات المستجدة التي تواجهنا. وانطلاقا من هذه الثوابت فإننا نعتبر أن قيمنا والاختيارات المرتبطة بها تتحدد فيما يلي: 1) في تمسكنا بالقيم الكونية لحقوق الإنسان كقيم مؤسسة للإنسية الديمقراطية، معتبرين أن مصداقية هذا الاختيار الذي يراهن على حرية الفرد وعلى تحديث المجتمع المغربي تواجه سؤالا مزدوجا يجب أن نجيب عليه بكل وضوح. سؤالا يرتبط بمكانة الدين في المجتمع، وسؤالا يرتبط بحضور المخزن وهيمنته في الحياة السياسية ففي ما يخص مكانة الدين في المجتمع فإننا نعتبر أن المعتقد هو بالأساس مسألة فردية ترتبط بمجال الحياة الخاصة، لكن على المستوى الجماعي نعتبر أن الإسلام بعد روحي وثقافي أساسي في تماسك الأمة المغربية، خصوصا وأنه بعد يحمل في طياته كل قيم المساواة والتضامن والعدالة التي نؤمن بها. لذلك فإننا نعتقد بوجود انسجام كامل بين القيم الكونية التي نتمسك بها، وبين القيم المرتبطة بثقافتنا وتراثنا كما نتمسك بها جماعيا في مجتمعنا. إن الرهان هنا ليس كما يبدو للبعض في إذكاء مواجهة عمياء بين كونية محررة وبين خصوصية مكبلة، بل في إيجاد توازن بين حرية الفرد وبين انتمائه إلى المشترك الجماعي الذي تجسده الأمة. فعلى هذا التوازن يتوقف انخراطنا الذكي في العصر الحديث عبر مسارنا الخاص. وفي هذا الإطار إذن نعبر عن رفضنا الحاسم لكل استعمال الدين لأهداف سياسية، لما في ذلك من نفي للدين نفسه من المشترك الجماعي. ونعتبر أن الملكية في خلال إمارة المؤمنين هي المطالبة بتدبير ذكي وحديث للحقل الديني حفاظا على تماسك المجتمع المغربي وعلى استمرارية تراثه الروحي والثقافي. إن اقتناعنا هذا متلازم إلى حد بعيد مع فهمنا للدور المدني للأحزاب السياسية التي يجب أن ترسخ في المجتمع ثقافة سياسية مرتبطة بالشأن العام، وهي ثقافة لا غنى عنه في بناء الديمقراطية، مثلما هو متلازم مع فهمنا لدور القيم في حياة الفرد وفي حياة المجتمع وارتباط هذه القيم بمفهوم أساسي هو مفهوم الكرامة الفردية التي لا يمكن أن نضعها على رأس ما نؤمن به من أهداف ونسمح من خلال طقوسية مخزنية متخلفة أن تمرغ في التراب. إن علاقة الاحترام والوفاء تتعارض كليا مع إهانة المواطن وإنكار الكرامة الفردية. ولذلك، فبقدر ما نحن مقتنعون بمركزية الملكية في نظامنا السياسي، كما يكفلها الدستور بمفهوم حديث للسلطة، يحررها من ” القداسة الاستبدادية”، بقدر ما نحن مقتنعون بضرورة تحريرها من ” التراث المخزني” المرتبط في ثقافتنا السياسية بمفهوم قسري للسلطة، وبعلاقة الملكية بالرعايا وليس بالمواطنين، الشيء الذي يلجم كل تحول نحو بناء” الملكية المواطنة” كما يدعو إلى ذلك ملك البلاد. 2) في مفهومنا الخاص للمصلحة الوطنية ولدور الملكية في الانتقال نحو الديمقراطية، إننا من خلال إعلائنا للمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، نعتبر أن الملكية في المغرب هي أساس النظام السياسي والضامنة لوحدة الأمة، وللوحدة الترابية للبلاد، وللمسار الديمقراطي. إنه اعتقاد مخلص لا يخضع لأي حساب سياسي ظرفي، وتأكيدنا على مركزية الملكية في الحياة السياسية لا يعني أننا لا نطالب بتطورها، بل إننا نؤكد اقتناعنا بما ورد في خطاب 9 مارس التاريخي والذي يرسخ توجها إلى تطوير الملكية المغربية في دورها ووظائفها بما يتلاءم والبناء التدريجي والحاسم للملكية البرلمانية التي ستظل دائما هدفنا الاستراتيجي ، لأنها مرتبطة ارتباط وثيقا بمفهومنا للديمقراطية. إننا في تأكيدنا على التمسك بالملكية البرلمانية أفقا لتطورنا السياسي، نعتبر ذلك من صميم تعلقنا بالملكية، واقتناعنا بضرورة تطورها في تنظيمها ووظائفها حتى تلائم المقتضيات المتقدمة للدستور الجديد. وتبعا لذلك لا نعتبر الملكية البرلمانية مجرد شعار مطلبي، بل تعاقدا مع المجتمع يفرض علينا في ممارستنا الفردية والجماعية. وفي تحالفاتنا ومشاريعنا السياسية منطقا جديدا في العمل السياسي. 3) في تشبثنا بقيم التعددية في كل تعبيراتها الدينية واللغوية والثقافية، واعتبار حمايتها وإغنائها مسؤولية جماعية، ومستلزما من مستلزمات الوحدة الوطنية،إن التعددية في نظرنا ليست حقوقا ثقافية فحسب بل نموذجاً سياسيا في التدبير الجهوي، ونموذجا مجالياً في إعداد التراب الوطني ، وتدبيرا عادلا للموارد وللمشاريع التنموية 4) في تموقعنا داخل الحقل السياسي، حيث نرفض أن نظل سجناء لذلك التصنيف الخاطئ والعقيم الذي يفصل بين “الديمقراطيين” “والظلاميين” فهذه المقاربة الثنائية السطحية هي سلاح الذين يلهثون وراء “الوصفة الرابحة”، يجب أن لا ننسى أن الخداع السياسي قد مس المعسكرين معا وتسلل إلى صفوفنا أيضا، وأنه مافتئ بتقويضه لمصداقية المجتمع السياسي يبعد الناس عن السياسة ويهين ذكاء المواطن، ويجر المؤسسات إلى الأسفل، والحال أن الوضع السياسي في بلادنا قد أصبح بالغ التعقيد كما أسلفنا، وأنه يدعونا حفاظا على المصلحة الوطنية ليس فقط إلى إيجاد حلول سياسية واضحة وجريئة، بل وإلى العمل على ترسيخ الروح الديمقراطية في المجتمع المغربي، في مواجهة خصومها المعلنين والمضمرين، من دعاة الفكر الرجعي. إننا منفتحون مبدئيا على كل القوى التي تؤمن بالتقدم والحداثة كمرجعية أساسية. ولكننا ضد التحالفات الظرفية ذات الأهداف الانتخابية العابرة، والتي لا تستند إلى وثيقة سياسية علنية وواضحة تنص على المبادئ والقيم المشتركة، وتضع مضامين وحدود عقد التحالف. لذلك نعتقد أن مرجعيتنا الحديثة يجب أن تقودنا منطقيا إلى عقد تحالفات تؤمن بأفق الملكية البرلمانية كمضامين وأهداف واضحة وليس فقط كشعار سياسي. إننا لن نتنازل عن دورنا التاريخي في توحيد اليسار الذي نتقاسم معه نفس مبادئ التقدم والحداثة والاشتراكية، دون أن نضحي بالتعددية التي تطبع تجربة اليسار في المغرب، حيث يتوجب علينا أن نعمل على تطويرها كعامل إغناء وليس كعامل تفرقة، كعامل تعبئة للطاقات الهائلة التي تدعم قيم اليسار دون أن تكون بالضرورة منخرطة في تعبيراته المختلفة. 5) في الدفاع عن وحدتنا الترابية. تأكيدا لاقتناعنا الراسخ بأن مشروع الحكم الذاتي في إطار الوحدة الوطنية يظل بالنسبة للاتحاد الاشتراكي موضوعا مركزيا، لذلك نعتبر أن تدبيرا تشاركيا لهذا الموضوع على أساس حوار وطني واسع لتحضير القرار السياسي، هو المقاربة الأكثر تعبيرا عن تعلق المغاربة بالتعدد داخل الوحدة. إن هذا الحوار يجب أن يمس الجوانب الدبلوماسية والأمنية، كما يجب أن يهتم بتفاصيل الحكامة الترابية لأقاليمنا الجنوبية بما يضمن ربط السكان بهذا المجال الترابي ليس فقط وفق الروح الوطنية العميقة التي تربط بين الصحراويين ووطنهم، ولكن أيضا وفق نموذج الديمقراطية الجهوية التي يتعين على الحكم الذاتي أن يجعل منها مثالا في محيطها الوطني والجهوي، سواء في ما يتعلق بالسياسات التنموية، أو في ما يتعلق بحماية الحريات والحقوق، أو في ما يتعلق بالحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية ضمن منظور تحديثي يساهم في ترسيخ المساواة والعدالة الاجتماعية وبناء اقتصاد تضامني فعال. 6) في رؤيتنا السياسية للمستقبل، حيث يتوجب على الاتحاد أن يسجل عمله اليومي في إطار رؤية شمولية لا تقتصر على نقد التجربة السياسية الحالية ومعارضتها بل تعمل كذلك على استعادة الثقة والمصداقية، وعلى بناء بدائل مقنعة. إن البعد الأخلاقي في السياسة مسألة أساسية، وهو اللبنة الأولى لإعادة بناء الجسور مع المجتمع،ولكن تطلعات الشعب المغربي تذهب إلى أبعد من ذلك، إنها تطالب المجتمع السياسي بإجراء إصلاحات قوية وباقتراح سياسات عمومية واضحة، وتطالب بنتائج ملموسة في الحياة اليومية للمواطنين وترفض أن يعوض الخطاب الأخلاقي الحسم في الاختيارات والكفاءة في التدبير. لذلك فإن الاتحاد الاشتراكي لن ينجح في ابتكار تعاقد جديد مع المجتمع إلا إذا نجح في تعبئة طاقات واسعة لوضع خريطة مدققة للإصلاحات وللسياسات العمومية بتصور جديد للأولويات وبالتزام واضح بالنتائج. وستكون هذه المقاربة على رأس التزاماتنا وتعاقدنا مع المناضلين، اقتناعا منا بأن احترام ذكاء المواطنين يقتضي منا أن نحدث قطيعة مع الابتذال السياسي ومع المشهدية الجوفاء، وأن نضع القواعد الأساسية لنقاش عمومي حول مضامين العمل السياسي وحول سبل تحقيقها. هذه هي ملامح الخط السياسي الذي نقترحه على المناضلين كأرضية لوضع برنامج عمل خلال مدة انتداب القيادة الجديدة وكتعاقد تتم على أساسه المحاسبة، وتبنى من خلاله القرارات السياسية والمبادرات التي من شأنها أن تعيد المعنى للسياسة والأمل للديمقراطيين في بلادنا. على أن هذا الخط السياسي لا يمكن أن يكون صفحة جديدة، لم يسبقها شيء منذ المؤتمر الثامن. فمن الواجب الأخلاقي على كل مرشح للكتابة الأولى أن يقدم للمناضلين تجربته في المسؤولية السابقة، وفهمه للأزمة التي يعيشها الحزب، وتصوره لعناصر الحكامة الحزبية التي لا غنى عنها في المرحلة المقبلة، لأن خطا سياسيا واضحا وقويا لا يمكن تطبيقه بقيادة ضعيفة ملتبسة ولابد أن نستحضر هنا أن من أسباب الأزمة الحزبية التي نعيشها وجود هوة سحيقة بين الأدبيات التي ننتجها، والآليات التي تتكلف بتدبيرها والتي غالبا ما نشكلها بتوافقات “مغشوشة”.
IV- قراءة في واقع الحزب بعد المؤتمر الثامن: يتذكر المناضلون جميعهم تلك الأزمة التي عاشها المؤتمر الثامن في شوطه الأول، والتي ترجمت في الواقع عجز الحزب عن تجديد مشروعه السياسي، وفتح أفق جديد أمام الصف الديمقراطي الذي تلقى نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2007 وما ترتب عنها كخيبة مريرة. لقد كان اقتراحنا مباشرة بعد إعلان تلك النتائج، هو عقد مؤتمر استثنائي للحزب لاستخلاص الدروس وللتفكير الجماعي في المستقبل، لكن انصراف القيادة إلى التفاوض حول الحكومة وكأن ما حدث لم يكن هزة عنيفة تخاطب ضمائرنا وقدرتنا النضالية على النقد الذاتي، دفع الحزب إلى مزيد من التأزم والتآكل فكان المؤتمر الثامن تمظهرا من تمظهرات هذه الأزمة العميقة. ولا شك أن إرادة عدد من المناضلين الأوفياء سارعت مباشرة بعد الشوط الأول من المؤتمر إلى إنقاذ الحزب من الانهيار، فكانت الأرضية السياسية التي حضرت لاستئناف المؤتمر، والبيان العام الذي انبثق منها محاولة لاستعادة الروح الاتحادية التي راهن الكثيرون على تلاشيها في خضم الغموض السياسي، والتنازلات المتتالية. ونجح المؤتمر إلى حد ما في هذه المهمة، مثلما نجح في اعتماد التنافس والتصويت المباشر في المؤتمر كأسلوب جديد في تطوير الديمقراطية الداخلية. لكن التساؤل الذي نطرحه اليوم هو لماذا رغم هذا التحول الإيجابي الذي دشنه المؤتمر الثامن ،لم ننجح في إحداث تحول نوعي في الحياة الحزبية، ولم نستطع ، وهذا هو الأهم، تمكين الحزب من العودة بقوة إلى الساحة السياسية. لا شك أن الطريقة التي نظمنا بها التنافس، وشكلنا بها المكتب السياسي حملت في طياتها بذور الأزمة التي استقرت داخل الأجهزة القيادية ، ولكن جزء كبيراً من الأزمة يعود بالأساس إلى الأخطاء المرتبطة بتدبير الخط السياسي، وبالحكامة الحزبية. لقد عشنا على هذين المستويين خلافات كثيرة كنا فيها أحياناً على طرفي نقيض،ومع ذلك استمر الحديث عن وحدة الحزب وتماسكه، واستمر البحث عن التوافقات في كل صغيرة وكبيرة تهم الحياة الحزبية والسياسية ولو أدى فشل التوافق إلى شل الحزب. وكنا نأمل بعد التعبير العلني عن هذه الخلافات أن يفتح نقاش حقيقي حول حقيقة الأزمة وحول سبل تجاوزها ولكن عوض الإنصات إلى المجتمع والحوار مع المناضلين تم الاحتماء دوما بخطاب “أخلاقي” حول الوحدة والتصالح،وهو خطاب تقليدي محافظ، يتوهم ترصيص الصفوف في مواجهة الخصم، ونبذ التفرقة والشقاق في المراحل الصعبة. ولكنه في الواقع خطاب لا يعني ما يقول، لأن أغلب مستعمليه لا يهدفون من ورائه سوى بناء واجهة براقة تخفي واقع الاختلاف العميق في الاختيارات السياسية وفي القيم والمبادئ، ولا يهدفون من تكراره إلا إلى تبخيس الرأي الآخر، وتلجيم الاختلاف واعتباره اعتداء على “الوحدة المقدسة” “وخروجا عن الجماعة”. إننا نعيش اليوم ونحن على أبواب المؤتمر التاسع استمرارا لهذا الوضع حيث يحاول فيه البعض إقناع المناضلين بأن الحزب ليس معطوبا، ولا في أزمة، إنه لا يحقق نتائج باهرة، ولكن لا يتراجع الى الوراء” ( !) إنه فقط حزب يعرف كباقي الأحزاب الأخرى “أزمة مسلكيات سياسية” وليس أزمة سياسية (!)، وأنه أخيرا حزب ابتلي بالصراعات الشخصية من اجل المصالح الخاصة لحد أعمى بصيرة المناضلين، فأصبحوا يمارسون نوعا من “الانتحار الجماعي”. سنترك جانبا ما في هذا الخطاب من استبعاد للقيم والمبادئ التي تشكل السبب العميق لانتماء المناضلين الشرفاء إلى حزب القوات الشعبية، وسنترك جانبا ما فيه من تبخيس للتنافس المشروع على خدمة الوطن من خلال الحياة الحزبية، سنكتفي بالقول إن أفضل طريقة “للوعظ” هي القدوة الحسنة، وأن القيادة كانت محط ثقة عمياء، عندما كانت فوق كل الشبهات، وعندما كان الحزب مركبا خطرا للنضال من أجل التغيير، وليس أيضا أداة منتجة للمصالح والمواقع. لقد قلنا غير ما مرة إن العودة إلى وحدة شكلية وغير صادقة هي تفقير للحياة السياسية، وجر إلى الأسفل بالاكتفاء بالحد الأدنى المشترك، بينما يتطلب الوضع حزبيا ووطنيا تعبئة الذكاء الجماعي لابتكار أفضل المشاريع من اجل المستقبل، ولتحقيق ذلك ليس مطلوبا وضع الاختلاف ضد الوحدة، بل المطلوب هو توظيف الاختلاف لإنتاج الأفكار والاقتراحات، وتوظيف الوحدة لتجميع الطاقات، ومواجهة التحديات. لأجل ذلك طالبنا منذ المؤتمر الثامن أن ينظم التنافس في الحزب على أساس أرضيات وليس على أساس الأشخاص، ليس لأننا نريد أن نختلق تباينا في الاختيارات، ولكن لأننا نريد أن يمتلك كل واحد شجاعة الدفاع عن أفكاره وأسلوب عمله وخطه السياسي، وطريقة تدبيره الحزبية، وأن لا نستمر في الخلط والغموض مختبئين وراء الاختيارات الكبرى التي تؤطر عملنا الحزبي. لقد عشنا قبل تجربة التناوب مخاضا سياسيا حول الإصلاح الدستوري، وحول المشاركة في الحكومة، وإذا كنا قد نجحنا في بلورة أغلبية واسعة حول فكرة التصويت الايجابي على الدستور، وحول فكرة المشاركة، فإننا لم ندبر بشكل منتج ما ترتب عن ذلك من اختلاف أدنيا ثمنه غاليا من قوة الحزب، ومن قدرته على التكيف مع الوضع الجديد الذي تطلبه طي صفحة الماضي، وعوض أن نحصر “التوافق” في مقتضيات مرحلة الانتقال الديمقراطي، ويستمر الحزب في ممارسة نضاله السياسي من أجل الإصلاح وإنجاح الانتقال، وبناء مشروع المستقبل، سجنا أنفسنا في منطق “الوحدة” حول التوافق فلم يعد هذا الأخير أسلوبا سياسيا مرحليا لتدبير الانتقال، ولكن اختيارا قارا يطمس التمايزات ويكبل طاقات المبادرة والتصحيح، ويحفر هوة عميقة بين الحزب وعمقه الاجتماعي. لهذه الأسباب انتقدنا منطق التوافق الذي ابتكرته تجربة التناوب، للتغلب على عوائق التغيير، ولتجميع إرادات مختلفة حول فكرة الانتقال وتحضير المستقبل، وهو المنطق الذي تحول إلى آلية لتعطيل الانتقال وتأجيل الإصلاحات الجوهرية، بإصلاحات مبتورة يتم حولها التوافق المزعوم. وبنوع من التبعية العمياء استوردنا للحزب هذا الأسلوب التوافقي الذي أسس لقاعدة “الاتفاق على كل شيء أو لا شيء”. والحال أن الاتفاق على كل شيء لم يمنع المتفقين من التصرف وفق اقتناعهم الشخصي ليصبح الحزب الذي “توافق” حول قيادة واحدة وأرضية واحدة أصواتا واختيارات متعددة. تذهب بعض التحليلات إلى اعتبار الحزب ضحية الصراعات الشخصية بين أعضائه حول المواقع والمصالح، وأننا في حاجة إلى مصالحة داخلية لتجاوز هذا الوضع، والحقيقة أن ما يسمى بالصراع حول المصالح والمواقع ليس سوى عرض من أعراض العطب الحزبي. فقد تحول الحزب من تيار واسع في المجتمع إلى جسم متقلص تنخره الزبونية والولاءات الشخصية، وفي هذا المناخ تفشت قيم الريع الحزبي واستقرت في القيادة قبل القاعدة، وتوقف الانخراط في الحزب كما توقف الصراع حول الأفكار والمشاريع، وكما توقف العمل الميداني المرتبط بالناس وبمشاكلهم وتطلعاتهم، وقد أصبحت المفارقة أن قاعدة ” المواقع والمصالح” قد توسعت بينما ضاقت دائرة المتنافسين وهيمنت فكرة “المكاسب السهلة” على فكرة انتزاع مكاسب جديدة لصالح الحزب ومشروعه. كثيرا ما نتوقف عند التشخيص ونحن نتحدث في الأوضاع الحزبية، وكثيرا ما يتردد في القيادة الحزبية أننا متفقون على التشخيص، ولا ينقصنا إلا الاتفاق على الحلول. والواقع أننا غير متفقين على التشخيص. هناك من يقول إن الحزب يعيش أزمة صراعات شخصية، وأزمة مسلكيات سياسية. ونحن نقول إن الحزب يعيش أزمة سياسية حقيقية، منذ دخل منطق التوافق إبان تشكيل حكومة التناوب ولم يعرف كيف يخرج من عقم هذا التوافق وكيف يقترح رؤية سياسية جديدة، وكيف يبتكر أسلوبا جديدا للعمل السياسي وهذه هي الأزمة الحقيقية التي تنخره وتجعله عاجزا عن التطور وعن ربط صلات وثيقة مع أجيال جديدة، وعن استعادة الثقة والمصداقية أمام المواطنين. هناك من يقول إن الحزب يشتغل، بطريقة محدودة ربما، ولكنه سياسيا كان سباقا لرفع شعار الإصلاح الدستوري والملكية البرلمانية، وتنظيميا يحاول أن ينجز ما قرره المؤتمر الثامن. ونحن نقول إن الحزب لا يشتغل، فهو لم يستطع أن يحل أي مشكل تنظيمي في الأقاليم والجهات، ولم يستطع توسيع قاعدة الحزب، ولم يجد حلولا لا في مجال الحكامة الحزبية، ولا في الإعلام الحزبي ولا في مجال التواصل. وهو وإن كان يجمع أجهزته الوطنية في حين لآخر، فإن الجميع يعرف أن المجلس الوطني يشتغل بأسلوب غير منتج، وأن اللجن الوطنية رغم بعض الإرادات النضالية لا تشتغل بطاقاتها الكاملة ولا تحصل على المردودية المطلوبة. وهناك من يقول إن الحزب يحافظ على موقعه في الخريطة السياسية وأنه عزز هذا الموقع بعودته الى المعارضة. ونحن نقول إن الحزب يراكم الهزائم الانتخابية منذ 2003 وأنه تعرض لهزة عنيفة سنة 2007 عندما احتل الصف الخامس، ولم يمنع ذلك قيادته من التفاوض على المشاركة في الحكومة وبشكل بالغ السوء، أدى الى إقالة الكاتب الأول ونائبه. وأنه حصل على نفس الرتبة المهينة سنة 2011 وأن الأدهى من ذلك كله هو أن الحزب لم يعد له أثر بين في المجتمع، ولم يستعد شيئا من مصداقيته، بل لم يعد ذلك الاستثناء في الحقل الحزبي والسياسي، صار حزبا من بين الأحزاب، يهلل بمنطق التوافق للسياسة المهيمنة، ويقبل بتوافقات الحد الأدنى مع الأحزاب الأخرى، ويستدعي في القضية الوطنية رقما من بين الأرقام ليخبر بشكل بعدي بما استجد في الموضوع. هناك من يقول إننا متفقون على الخط السياسي، وكل تعبير عن الاختلاف هو تصرف مفتعل، “. ونحن نقول إننا غير متفقين، وهذا ليس هروبا ولا انشقاقا ولا خصومة شخصية. عندما أصدرنا البيان العام للمؤتمر الثامن المتضمن لمطلب الملكية البرلمانية لم نعتبر ذلك مجرد خطاب للخروج من أزمة المؤتمر، بل اختيارا للمستقبل، لأن التحليل الذي صدرنا عنه بين بالملموس أن بقاء سقف الإصلاحات تحت مطلب الملكية البرلمانية لن يؤهل الديمقراطية المغربية لتصبح منتجة لمؤسسات ذات نجاعة وذات مصداقية. وقد سعينا مباشرة بعد انتهاء أشغال المؤتمر إلى اتخاذ مبادرة بهذا الشأن تجسدت في المذكرة التي رفعناها إلى الملك واختلفنا في كيفية تصريفها، فبينما سعى البعض إلى إبقائها “مذكرة سرية” طالبنا بفتح حوار بشأنها مع المجتمع، الشيء الذي لم نتفق بشأنه فضيعنا على أنفسنا حتى قبل حركة 20 فبراير فرصة تعبئة قوية وواسعة حول مطلبنا. ويتذكر المناضلون كلهم أن الجواب “التوافقي” الذي وجدناه في المؤتمر على مطلب الخروج من الحكومة، هو أن يباشر الكاتب الأول الذي انتخب على وعد بالاستقالة منها، مباشرة بعد المؤتمر، مفاوضات مع الأغلبية الحكومية من أجل تحديد دقيق لمطالب الإصلاح الدستوري، وتحديد جديد للأولويات الاقتصادية والاجتماعية التي تفرض الأوضاع معالجتها. ويعرف الجميع أن هذه المفاوضات لم تجر أبدا وأن حزب الاستقلال لم يقبل بتوجيه مذكرة مشتركة بمطالب الإصلاح زعما منه أن الوقت المناسب لتقديمها هو ما بعد الانتخابات الجماعية لسنة 2009، فلم يمنعنا ذلك من البقاء في الحكومة، مثلما لم يمنع الالتزام الذي قطعه الكاتب الأول على نفسه أمام المؤتمرين من البقاء فيها. هل يمكن اعتبار هذه الخلافات مجرد خلافات شخصية؟ لقد اقترحنا على الكاتب الأول ، مادام الملك طالبه بالبقاء من أجل إصلاح القضاء، أن يشكل لجنة حزبية لبلورة مضامين هذا الإصلاح ومواكبة تطبيقه، لأن هذه المسؤولية الكبيرة يجب أن تؤدي إلى نتيجة مقنعة وحاسمة في تاريخ القضاء المغربي،نتيجة تحسب لصالح الحزب ولصالح رؤيته الإصلاحية لأنه هو المعني الأول بالمشاركة في الحكومة وليس الأشخاص المشاركون، لكن بعد صدور بلاغ المكتب السياسي الموافق على “التثبيت”، نسي الموضوع جملة وتفصيلا إلى أن استغني عن الكاتب الأول بدون اعتبار ولا إصلاح. هل نعيد للأذهان مسلسل التعديلات الحكومية وما نتج عنها من خلخلة كادت تعصف بالحزب؟ هل نعيد إلى الأذهان عودة الكاتب الأول إلى رئاسة البرلمان بنفس الأغلبية التي رفضته في بداية الولاية؟ هل نذكر بتطورات القضية الوطنية ودور الحزب الباهت في مجرياتها؟ هل نذكر بنتائج الانتخابات المحلية لسنة 2009 والتخبط المحيط بتحالفاتها؟ هذه هي القضايا السياسية وليست الشخصية التي دفعتنا إلى تعليق مشاركتنا في المكتب السياسي، والى الجهر برأينا ليس فقط أمام المناضلين ولكن أيضا أمام الرأي العام. ومع ذلك لم نسع لا إلى الانشقاق و لا إلى الحملات الشخصية بل ورفضنا أن نجعل من “الإطاحة بالأشخاص” و”التحامل” عليهم قضية حزبية أو أسلوبا لإصلاح الحزب. لقد دأب الحزب منذ المؤتمر الثامن على إنتاج رسائل متناقضة ومشوشة، وأصبحت الآراء الشخصية لأعضاء القيادة سواء في ما يتعلق بالحكومة أو التحالفات والقضايا العامة، وهي آراء مختلفة وأحيانا متناقضة هي الأكثر رواجا في الساحة عوض المواقف الجماعية الحاسمة لحزب يعرف ما يريد والى أين يتجه. ومن البديهي أن هذا الأمر هو أبلغ تعبير عن الخلاف السياسي وعن الأزمة السياسية التي يعيشها الحزب. فبعد سنوات من المشاركة في تدبير الشأن العام، وبعد تجربة التناوب، وتعثر الانتقال الديمقراطي، وبعد انبثاق حركة 20 فبراير، والإصلاح الدستوري الذي أعقبها، ومجيء الإسلاميين إلى الحكم إثر أول انتخابات يؤطرها الدستور الجديد، بعد كل هذه التحولات لا يمكن للإتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن يستمر حزبا مؤثرا وقويا وحاملا لتطلعات الشعب المغربي، دون مواجهة مع الذات ودون القيام بنقد جرئ لهذه التجربة. وعندما نتحدث عن النقد فإن الأمر لا يعني التنكر لتجربتنا السياسية الكبيرة، ولا تبخيس إنجازاتها في الحياة الوطنية. فقد تحمل حزبنا مسؤوليته التاريخية في إحداث تقدم نوعي في الحياة السياسية جعل من الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان أفقا لا يمكن التراجع عنه رغم كل التعثرات التي تعيق مسارته. ولكن الموضوعية تقتضي أن نعترف بأننا أخفقنا في جعل الانتقال الديمقراطي حقيقة لا يمكن التراجع عنها، مثلما أخفقنا في الخروج وفي الوقت المناسب من منطق التوافقات الذي طمس هويتنا، وأربك تميزنا وجعلنا نتنازل عن أكثر الأشياء جوهرية في تاريخ الاتحاد، وهو المواجهة عندما يقتضي الصراع السياسي ذلك، وعندما تستدعي المصلحة الوطنية أن ندافع عن اختياراتنا وأن لا نقبل بالتفاوض عليها وبأنصاف الحلول التي يفرضها التفاوض، ولا شك أننا أخطأنا في أشياء كثيرة ولكن قاعدتنا الاجتماعية ستتذكر محطات ثلاث لم تر فيها الاتحاد بوجهه الحقيقي وصدمها ذلك: – عندما قرر الحزب المشاركة في حكومة 2002 رغم ضرب المنهجية الديمقراطية – وعندما قرر الحزب المشاركة في حكومة 2007 رغم رتبته الخامسة واندحاره الانتخابي – وعندما لم يخض معركة الإصلاح الدستوري سنة 2011 بمنهجية ومضمون يناسبان تاريخه وطليعيته في النضال من أجل هذا الإصلاح، وكان حريا به أن يتحرر من أغلال التوافق العقيم ويحمل لواء المطالب الحداثية كلها وبدون تنازل. ومع ذلك فإن الشعب وهو يعيش اليوم بؤس السياسة وضحالتها وعجزها عن الاستجابة لإنتظارات الناس، ينتظر الاتحاد، لأنه يعرف أن القوة الكامنة التي يمكن أن تواجه المد المحافظ ولوبيات النفوذ والمصالح، توجد في روح الاتحاد وفي العائلة الاشتراكية التقدمية التي يمكن إذا ما اجتمعت على مشروع واضح أن تهيئ بدائل المستقبل. لكن الشعب الذي ينتظر الاتحاد يريد منه أن يعود متجددا معبئا للطاقات برؤية سياسية لا تردد فيها ولا لبس. اتحاد قادر على تجديد خطابه وقياداته وأساليب عمله، قادر على إنتاج خطاب الحقيقة ومشاريع المستقبل وقيم الاتحاد الأصلية تلك التي تجسدها جملة بسيطة قالها الراحل عبد الرحيم بوعبيد وهو يودع الاتحاد: “قد لا يكون كل ما قمنا به مكتملا، لكنه كان نابعا من صميم الفؤاد”. لذلك ما فتئنا نردد مباشرة بعد المؤتمر الثامن أن الاتحاد يجب أن يتجه نحو تعاقد مبني على القناعات وليس المصالح، على القيم وليس المواقع، وهذا التعاقد لا يمكن أن يتم بدون إعادة بناء الثقة وبناء جاذبية حديثة للاتحاد تقوم على الوضوح في الخطاب وعلى الصدق في الممارسة، وعلى الإنصات للناس والقرب منهم وعلى تحيين العرض السياسي بما يلائم أوضاع مغرب اليوم وتطلعات الشباب وحاجتهم الملحة إلى تعبير سياسي تقدمي يجدون أنفسهم فيه ويشعرهم بأنهم يواصلون رسالة حزب كبير يفتح لهم أبوابه ولا يصادر منهم حقهم في الانتماء والمشاركة. وتبعا لذلك اقترحنا غداة الندوة التنظيمية الوطنية يومية عمل تمضي بالحزب إلى مؤتمر وطني مبني على هذا التوجه، يومية تبدأ بمعالجة قضايا العضوية في الحزب ومسألة الانفتاح على الطاقات الجديدة، وتعطي أجوبة ملموسة على مطلب وحدة اليسار، وتنتهي بتنظيم ديمقراطي لقضية التنافس وتشكيل القيادة الجديدة بما يضمن النجاعة والفعالية، وبما يضمن أيضا الانسجام والربط بين المسؤولية والمحاسبة وهذا ما سميناه بالقواعد الأساسية التي يجب أن نتوحد حولها، حتى لا نجعل من الحياة الحزبية القضية الوحيدة للمؤتمر، في الوقت الذي نحن مطالبون فيه بتخصيص المؤتمر كاملا لعرض رؤيتنا للمستقبل ولإعطاء الثقة للمغاربة بأن هناك أفقا أخر لبلادنا غير أفق الجمود والتراجع الذي تنسجه قوى المحافظة والتحكم. هذا هو تشخيصنا للوضع الحزبي ونحن على أبواب المؤتمر، لا نريد أن نجمله بوحدة كاذبة ولا نريد أن نتستر عليه للإبقاء على سياسة التوافقات الفوقية التي تخنق حرية التفكير والمبادرة، ولا نريد أن نجعل منه مثبطا للعزائم، بل محفزا وباعثا على الأمل والتطلع بتفاؤل إلى المستقبل. وإذا كنا نعود لهذا التشخيص اليوم فليس لإثارة أزمة جديدة ولكن للتأكد مرة أخرى على أن نهوض الحزب يبدأ من هذه المكاشفة التي تؤسس لعلاقات جديدة داخل الاتحاد، علاقات واضحة تحترم المناضلين وتحترم الرأي العام. على أن التشخيص ليس هدفا في حد ذاته، بقدر ما هو وسيلتنا المشتركة لإعادة بناء الحزب على قواعد واضحة، وهذا ما يتوجب علينا تجسيده في تصور شمولي لحكامة حزبية حديثة.
V أداة حديثة لحزب حديث: من المؤكد اليوم أن جزءا أساسيا من أزمة الحزب يعود الى أعطاب الحكامة الحزبية، فالانحسار التنظيمي له أسباب موضوعية ترجع إلى التجربة السياسية للاتحاد والى الأوضاع السياسية العامة، ولكن له أسباب ذاتية تتعلق بالتدبير، وبأساليب العمل، وبآليات التأطير والتواصل. إن أول نقطة يجب أن يستحضرها الحزب وهو يضع اللبنات الأساسية لأداة حديثة هي المتعلقة بقدرة الحزب على تجميع الطاقات ، بعد فترة طويلة من التشرذم والبلقنة الداخلية. وفي هذا الإطار فإن الاتحاد مدعو إذا ما لم يتمكن من تحقيق ذلك قبل المؤتمر، إلى العمل سريعا على إعادة توحيد الحركة الاتحادية، والى تشجيع الوحدة النقابية ممثلة في إدماج الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل في مركزية واحدة. كما أنه مدعو إلى إعادة هيكلة الحزب وفق رؤية جهوية لا مركزية تعطي للجهة الحزبية مجالات واسعة لتدبير الشأن الحزبي. وبموازاة مع ذلك فإن الحزب يجب أن يعطي للقيادة الوطنية سلطة الإشراف على تطبيق الخط السياسي وعلى إعمال آليات المراقبة والمحاسبة بما يحفظ وحدة الحزب وتماسكه. إن الجهاز التنفيذي متمثلا في المكتب السياسي يجب أن يتوفر على التجانس والسلطة الضروريين لاتخاذ القرارات، وتطبيق السياسة العامة المنبثقة من قرارات المؤتمر،ومن قرارات الجهاز التشريعي الحزبي، وبما أن الربط بين المسؤولية والمحاسبة هي المبدأ العام في تقسيم السلط وفي توازنها فان الجهاز التشريعي للحزب يجب أن يتوفر على استقلاليته وعلى هيكلته الخاصة ليس فقط كسلطة للمراقبة والمحاسبة ولكن وبالأساس كمنتج لقرارات وتوجهات تؤطر عملنا السياسي وتحرص على ربطه بقيم الاتحاد ومبادئه، وبمصالح الناس اليومية. وفي نفس الوقت ، فان إنضاج الأفكار والمشاريع داخل الحزب، وتحقيق تعبئة فعالة ومنتجة، وإشراك الرأي العام في الحياة الحزبية، يقتضي جعل المجلس الوطني إطارا لإنتاج النقاش العمومي، وتحديد الاختيارات الإستراتيجية واعتماد المقاربة التشاركية في رسم توجهات المستقبل. على أن الهدف الأساسي في الربط بين هذه الوظائف الثلاث “التشاركية والتشريع والتنفيذ” هو أولا وقبل كل شيء بناء قوة سياسية مؤثرة ليس على المستوى السياسي فحسب، بل في نسيج المجتمع وفي تحولاته الحاضرة والمستقبلية. ولأجل ذلك يتوجب على الحزب أن يتوفر على سياسة إرادية في مجال العضوية تعتمد منهجية تواصلية، وتدبيرا معقلنا للانخراط وتضع لذلك هياكل قارة ورؤية واضحة لتدبير الموارد البشرية الحزبية. وفي تلازم مع ذلك تقتضي الحكامة الحزبية الحديثة عقلنة الإدارة الحزبية والتدبير الشفاف للموارد المالية واعتماد لامركزية واسعة لتسيير الشأن الحزبي. إن من واجب القيادة الجديدة أن تقدم لبرلمان الحزب في الأسابيع الاولى التي ستلي انتخابها لتصورات واقتراحات ملموسة في هذا الإطار إضافة للتصورات التطبيقية المرتبطة بالخط السياسي، وبالإعلام الحزبي، وبالعلاقات الخارجية الحزبية. لقد أثبتت تجربة الاتحاد أن العجز في تدبير الاختلاف والتنوع، كان سببا رئيسيا في التشرذم وتفشي ظاهرة الحلقية، لذلك ودون أن يكون مفروضا على الحزب أن ينظم نفسه في إطار تيارات، فإنه مطالب بوضع مقتضيات في التنظيم الداخلي للحزب مباشرة بعد المؤتمر، لتنظيم الحق في الاختلاف، وضمان حقوق المعارضة في برلمان الحزب. لقد أصبح الحزب منذ صار قوة انتخابية في الخريطة السياسية الوطنية، في حاجة ماسة إلى تعبئة واسعة لخوض المعارك السياسية المرتبطة بالانتخابات ونحن مطالبون في المستقبل، محليا وجهويا ووطنيا بمتابعة هذه الجهود، بل وبمضاعفتها عدة مرات الشيء الذي يضع على عاتقنا مسؤوليات جسيمة سواء فيما يتعلق بالمواثيق الأخلاقية والالتزامات المبدئية الأساسية التي يجب أن لا نتهاون فيها على الإطلاق أو في ما يتعلق بتأطير منتخبي الاتحاد ومتابعة عملهم الميداني وتوفير الدعم السياسي لتدخلاتهم، وتوفير شروط المراقبة والمحاسبة الضروريين للإبقاء على علاقة الثقة والمصداقية مع الناخبين. إننا نعرف جميعا محدودية العمل الحزبي، في بناء علاقة عميقة ومتواصلة مع المواطنين، العمل السياسي الحديث لا يمكن أن يقتصر على الممارسة الحزبية، إن مفاتيح المجتمع توجد بالأساس في الحياة اليومية للمواطنين من خلال الحاجيات الثقافية والرياضية، والاجتماعية، والبيئية من خلال قنوات التواصل الحديثة وشبكاتها الاجتماعية ولكن أيضا وبالأساس من خلال العلاقات المباشرة لذلك سيكون على الحزب أن يعيد ربط خيوطه الحزبية بالامتداد الاجتماعي الواسع الذي لا يحكم على التجارب السياسية من خلال خطاباتها ونتائجها الانتخابية فحسب ، بل أيضا وبالأساس من خلال حضورها المباشر في حياة الناس. هذه هي عودة الاتحاد كما ينتظرها الشعب المغربي، عودة من أجل بناء ملكية برلمانية حقيقية، عودة من أجل سياسات عمومية لصالح التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. عودة من أجل مصداقية العمل السياسي ومصداقية وفعالية المؤسسات السياسية، عودة من أجل ربط الناس بقضايا الشأن العام وربط الأجيال الجديدة بحاضر ومستقبل الوطن مساهمة منا جميعا في بناء وطنية جديدة منفتحة مؤمنة بقيم التقدم والعدالة والمساواة.