” لا حقيقة دون خطأ مصحح…ولا يتم الاعتراف بالخطأ إلا بعد حين. فالعقل هو الذي يعود إلى ماضيه في حد ذاته من أجل الحكم عليه” – غاستون باشلار-
تعاني السياسة من تكاثر الأمراض وتزايد الآفات ويمكن ذكر رذائل الطغيان والاستبداد والشمولية من جهة ممارسة الحكم في علاقة بالمحكومين والعنصرية والاستبعاد والاحتكار والتمركز من جهة ذهنية الحكام وبنية السلطة القائمة وكذلك العنف والكذب والجهل في علاقة بأخلاقيات النظام السياسي الحاكم.
لقد دنس التملق والطمع والنية السيئة قداسة القيم المدنية وعفن التسلق والأنانية والوصول الجو السياسي وتم حشر الخطأ في دائرة الأمراض التي تعاني منها الحاضنة الشعبية وتم اعتباره أحد الرذائل التي عرقلت تقدم الحراك المواطني ووقع الاتفاق لتأثيمه واستبعاده من حيث هو عيب ونقص وارتجال وتعثر.
غير أن واقع الممارسة ومحمول النظرية يثبتان خلاف ذلك ويدعوان الذهن المتبصر إلى مراجعة هذا الموقف والكف عن إصدار الأحكام المسبقة على الأخطاء باعتبارها فرصة بغية تربية الشعور السياسي وفرصة للتمرين والاختبار والاستعداد والتدرب على الفعل وتكرار الممارسة ونيل الثقة والنجاح المتأني.
لو قام الفكر الحاذق بدراسة تحليلية نقدية لأشكال حضور الأخطاء في الحقل السياسي منقبا في رمزيتها ووظائفها وباحثا في دورها الإجرائي في تشكل السلطة وإعادة إنتاجها في صورة قوانين وتدابير وتوزيعها بطريقة منصفة على الأفراد والمجموعات فإنه يقر بصعوبة الظاهرة وواقع تعقد التكوين وطابعها الخلاق وصيرورتها المولدة ويستوجب السير في جملة من التمشيات التطهيرية ومعالجة استراتيجية للمشكل تميز بين العاجل والآجل وبين العلل المستعصية والعلل التي يمكن التخلص منها.
فماهي المنزلة الابستيمولوجية التي يبدو عليها الخطأ في المجال السياسي؟ هل هو علامة على غياب الكفاءة ونقص الخبرة وطريق نحو الفشل والتردي والعجز أم أنه يخفي التقدم بصورة معينة ويمثل حقل التجربة الحاسمة وشرط إمكان تحقيق النجاح وبلوغ الحقيقة ومراكمة المهنة وتجويد القدرات؟ وبأي معنى يهتم الفكر الفلسفي السياسي بالأخطاء راهنا ؟ هل من جهة رصدها واقتناصها وتفاديها أم من جهة صناعتها وتنميتها واستثمارها؟ هل يكفي الانخراط في تجربة الفهم وتفعيل المعقولية العلمية من أجل مقاربة جذرية للظاهرة أم أن ألمر يقتضي القيام بالتشريح وإجراء التفكيك من أجل الاستشراف والخلق؟
تكاثر الأخطاء في المجال السياسي يؤدي حتما إلى استفحال الأزمات وتوتر العلاقة بين المجتمع والدولة وانتشار الفساد في البني العميقة للمؤسسات ويجلب نتائج كارثية على التربية والثقافة والاقتصاد والحياة.
إذا كان مصدر الأخطاء في المجال السياسي هم الأفراد باعتبار قلة من دوائر النفوذ هم الذين يصدرون الأوامر ويتابعون القرارات فإن الجميع يتحمل التبعات وعدد كبير من المواطنين يشاركون في الخسائر.
اللاّفت أن الخطأ ينتمي إلى حقل دلالي يضم المغالطة والتزييف والوهم والاغتراب والكذب والتشويه ويتنافر من جهة المنطق والأخلاق مع الصدق والصراحة والحقيقة والفضيلة والصواب والمصداقية.
في هذا الإطار كثيرا ما يلتجئ السياسي إلى استعمال المغالطات في خطابه بغية التأثير والهيمنة ويتعمد تحريف بعض الوقائع وممارسة الكذب من أجل تحقيق بعض المنافع والاستيلاء على السلطة والمحافظة عليها ويجانب الحقيقة والمعيار في الكثير من الأحيان تجنبا للمشاكل وقصد صناعة رأي عام موافق له.
المشكلة أن الأخطاء في الحياة اليومية تربي الناس وتثقفهم وتكسبهم الخبرة وتصحح لهم معلوماتهم وترشدهم إلى الخيار الأسلم بينما الأخطاء في الحياة السياسية تصيب القيم بالعديد من الأضرار وتمزق النسيج المجتمعي وتؤدي إلى ذهاب الديمقراطية وضياع علوية القانون وتدمير الأوطان وتخريب المدن.
بهذا المعنى يفضي الخطأ في الحقل السياسي إلى كوارث على الشعوب ويؤدي إلى إحلال الهمجية مكان التحضر واندلاع الخلافات بين الأفراد والحروب الأهلية والنزاعات بين الدول والتصادم بين الحضارات.
في الظاهر ينتج الخطأ عن التصحر المعرفي والتشنج السلوكي والانفعال العاطفي والضعف الوظيفي ولكنه يرتبط في مرحلة أولى بسوء التقدير وقلة التدبير وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة في الأوقات المناسبة وغياب التخطيط العلمي والنظرة الاستراتيجية وفي مرحلة ثانية وفي مستوى أعمق يرجع إلى خلل بنيوي في الذهنية وتراكم شبكة من المسلمات القبلية التي تعوق عن التقدم وتعيد إنتاج الفشل والتعثر. كما يجلب الخطأ رذائل اليأس من الآتي والخوف من المداهم وغياب الاستقرار وانعدام الطمأنينة ويصيب الإرادات بالشلل وتتضاعف الصعوبات والمشاكل وتهدر الطاقات وتضاع الفرص وتتعمق الفوارق.
لقد حادت الأنظمة السياسية عن المبدأ وتبخر حلم الشعوب في الحكم الصالح والدولة الحامية وتأخرت العدالة الاجتماعية والمساواة السياسة وتمتع الأفراد والجماعات بالحريات والحقوق داخل وحدة التنوع.
أين يسكن بالتحديد الخطأ السياسي ؟ هل ينبع من خواء في مجال النظرية أم عجز على مستوى الممارسة؟
والحق أن المصدر الذي ينحدر منه الخطأ يكمن في مرحلة أولى في وثوقية الأطر النظرية وشكلانيتها وفي مرحلة ثانية في انسيابية التجربة وتشتتها وفي مرحلة ثالثة عند المرور من المعرفة الى التطبيق.
إذا كانت السياسة من حيث هي فن تتحرك في دائرة الممكن وبعيد بالتالي عن العلم الضروري الذي ينطلق من مقدمات بديهية ويصل إلى نتائج منطقية وإذا كان رجل السياسية يتسلح بالحذر من أجل رصد الجزئي ومتابعة التفاصيل وتعقل الأحداث وإنقاذ الظواهر واستيعاب المداهم وقنص الفرص المتاحة فإنه من المفيد تغيير النظرة وتبديل الموقف النظري والالتزام العملي واعتبار الخطأ مفتاح تأويلي للمشهد السياسي يفتح الطريق نحو الرأي السديد والفعل الحصيف ويخرج المجتمع من القعود والانتظار إلى الفاعلية والإبداعية.
يمكن تقديم شبكة كاملة من الأخطاء التي تم ارتكابها في الميدان السياسي وتعكس الأمية المتفشية والتي ناتجة إما عن رواسب طفولية في الشخصية وإما أمراض المراهقة الدائمة والمتأخرة التي ظهرت عليها.
بأي يتم تقديم أولوية لقمة العيش على الكرامة وتقايض التنمية الذاتية بحتمية التبعية تجاه الخارج؟ وكيف تكون الحرية والتعددية هي المقابل المعنوي الذي يضحى بغية تعزيز الأمن وضمان الاستقرار والسلم؟ ولماذا توضع دائما السيادة في الباب الخلفي الذي يتم إغلاقه عند أول شعور بخطر ضياع المواطنة؟ ما وجاهة اعتبار القُطرية والتقسيم والتجزئة أفضل البدائل عن الوحدة والاندماج والتكتل والتكامل الوطني؟ وهل تتساوى شراكة الدولة الرخوة مع القيم التقدمية التى فرضتها إرادة الشعوب زمن ثورة الأمل؟
في الواقع لا توجد أخطاء بسيطة وتافهة تقبل التدارك بسرعة وتحتاج إلى الانتباه والحرص والمزيد من التركيز وأخطاء فادحة عادت على المجتمع بعواقب كارثية وأصاب ضررها البنى العميقة للدولة وأثرت على مصير الناس وبالتالي لا يمكن التخلص منها بسهولة وإنما يحتاج العلاج منها إلى التبصر والوعي.
لا يجب أن تترك الأخطاء تمر هكذا بلا رصد وتشخيص وإثارة ومراقبة وتحسس وتبيان وتطهير ونقد ومحاسبة ولا ينبغي الاكتفاء بإدانة مرتكبي الخطاء ولومهم ومعاقبتهم فقط بل يلزم الإصلاح والتصحيح والتقويم والتسديد وذلك بأخذ الحيطة والاعتبار والتوقي من تكرارها ومعاودة الهزائم والفشل والتفويت.
ليس ثمة خطاب سياسي لا يقع في الأخطاء والانتكاسات ولا توجد تجربة سياسية لا تتعرض للإجهاض والعرقلة والإخفاق وإنما السياسي الحاذق هو الذي يلتزم بالسير على طريق معرفة الأخطاء وذلك بالحذر من الوقوع فيها بحسن التدبير وجودة الروية والتحلي بالحكمة العملية والتعقل الإيتيقي والتدبير الإنسي.
ليس من المفروض أن يتعلم سياسيي المرحلة الراهنة من أخطائهم فحسب بل يجب عليهم أن يتعلموا من أخطاء الذين سبقوهم والذين قد يأتوا بعدهم وأن يتحملوا مسؤولية إزاء جيله والأجيال السابقة واللاحقة.
جملة القول أن الوقوع في الخطأ لا يمثل عيبا عضويا وليس قدرا محتما ولكن البقاء عنده وتكراره إلى ما لانهاية هو الدائرة المغلقة التي لا مخرج منها وبالتالي يمكن الإقرار ببنائية الخطأ وإبداعية المواجهة معه. فهل مشكلة السياسات الفاشلة ترجع إلى غياب بدائل صحيحة أم إلى انعدام نماذج عن أخطاء تكوينية ؟