سأبدأ حديثي بالمقدمات الآتية:
أولاً – ثمة أمور عندي غير قابلة للنقاش، منها الإيمان. فالإيمان بالله عندي تسليم وأنا مسلّم بوجود الله واليوم الآخر. وهذه مسلّمة. والمسلّمة هي أمر لا يمكن البرهان عليه علميا، كما لا يمكن دحضه علميا. ولهذا لا يجوز للملحد المنكر لوجود الله أن يقول: أنا ملحد لأن الإلحاد موقف علمي، ولا يجوز للمؤمن بوجود الله في المقابل أن يقول: أنا مؤمن لأن الإيمان موقف علمي. وعندي أن الإلحاد أو الإسلام خيار يختاره الشخص بنفسه ولنفسه. وغير قابل لأن يكون موقفاً إيديولوجياً لقيادة دولة أو مجتمع وفي هذا الخيار أنا من المسلمين.
ثانيا – الإيمان بأن محمدا عبد الله ورسوله، وبأن الكتاب الذي نزل عليه وحي موحى من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وهذا عندي أيضا إيمان تصديق أنا به مؤمن كشأن إيمان التسليم الذي أنا به مسلم. وبهذا أنا من المؤمنين أتباع الرسالة المحمدية.
ثالثا– الكتاب الموحى لا يعتبر دليلا علميا، بل هو دليل إيماني. وعلى اتباع الرسالة المحمدية تقديم الدليل العلمي على صدقيته من خارجه. ولو كان القرآن دليلا علميا، لكفى أن نقول لأي إنسان قال الله تعالى كذا وكذا فيقبله. ومن هنا فان على اتباع الرسالة المحمدية عندما يخاطبون العالم أن يقدموا الدليل على صدقية ما ورد في المصحف من خارجه وليس منه. فالعقل كالمظلة لا يعمل إلا مفتوحا، فإذا أغلق توقف عن العمل، وتسبب في قتل صاحبه. وعلينا أن نفتح عقولنا حتى لا نموت. لكن الثقافة العربية الإسلامية الحالية ثقافة تقليدية تراثية نفتح الكتب والتلفزيونات والبرامج الثقافية، فنجد الثقافة العربية الإسلامية تعيد إنتاج نفسها، وتكرر نفسها. لماذا؟ لأنها ثقافة تقوم على القياس ولا تقوم على الإبداع، ونحن نحتاج إلى إبداع وليس إلى قياس. وهي بهذا الآن عاجزة عن إنتاج المعرفة.
نأتي الآن إلى المفاهيم والقيم. القيمة الأولى هي الحرية، والقيمة الثانية هي العدالة. هاتان القيمتان كامنتان وراء كل الثورات الكبرى في العالم، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية. فحتى في الثورات ذات الجانب الدنيوي نجد هاتين القيمتين الحرية والعدالة. ثورة أكتوبر الشيوعية قامت من اجل العدالة قبل أن تقوم من اجل الحرية، وأعلنت صراحة أنها ديكتاتورية. وثورة الزنج قامت من اجل الحرية قبل أن تقوم من اجل العدالة. وهناك ثورات قامت من اجل الاثنتين معا.
من الناحية النظرية، أين نجد مفاهيم الحرية والعدالة في تاريخنا العربي الإسلامي،؟. وأين نرى هذين المفهومين في كتاب الله الموحى وفي سنة نبيه محمد (ص) ؟ . وكيف مورس هذان المفهومان في تاريخنا العربي الإسلامي ؟ .
الحرية حتى هذه الساعة وعلى مر عصور التاريخ ليس لها وجود في الوعي الجمعي العربي والإسلامي.
هناك سببان: الأول معرفي بحت، والثاني سياسي. فالسبب المعرفي هو أن كلمة الحرية لم ترد في كتاب الله إطلاقاً، بل كل ما ورد في كتاب الله عن الحرية هو أنها ضد الرق. فقد ورد مصطلح (تحرير رقبة) خمس مرات في سور النساء والمائدة والمجادلة، وورد في سورة البقرة (178) مرة واحدة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد}. وما عدا ذلك فلا نجد لكلمة الحرية ومشتقاتها أي وجود في التنزيل الحكيم.
وإذا انتقلنا إلى الحديث النبوي فنجد فيه كلمة العتق وهو معنى مقابل للرق، ولا نجد أي شيء عن الحرية، بل نجد فيه عكس ذلك كحديث حذيفة بن اليمان الذي يقول في آخره (اسمع وأطع الأمير ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك} (مسلم 3435 – العالمية CD)، وقوله: (اسمعوا وأطيعوا ولو ولّيَ عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) (البخاري 7142) وقوله: (من بدّل دينه فاقتلوه) (البخاري 6411 – العالمية) وقوله: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرةٍ عليك) (مسلم 1836) وذلك يتعارض عمودياً مع حرية الاختيار.
والأدبيات الإسلامية التراثية وضعت طاعة أولي الأمر مع طاعة الله والرسول. وأبرزت مفهوماً تاريخياً مشوهاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا نجد أن الجانب المعرفي للحرية مفقود في الأدبيات مما يؤكد أن الحرية كقيمة ضعيفة في الوجدان العربي الإسلامي، هذا إذا كانت موجودة في الأصل. وهذا يؤكد أننا بحاجة إلى إبداع نظري حديث لتأصيل الحرية في هذا الوجدان، لأن الحرية في أدبياتنا التراثية لم ترد إلا بمعناها ضد الرق فقط، ولم تتحدث أبداً عن الحريات الاجتماعية والسياسية وما شابه ذلك. وهو السبب الأول الذي تم فيه ترسيخ مفاهيم الاستبداد، والمؤسسة الوحيدة التي وصلتنا سالمة تاريخياً هي مؤسسة الاستبداد وعلى رأسها الاستبداد السياسي (فرعون) يتبعها مؤسسة الاستبداد الديني (هامان).
أما العدالة فلها وضع آخر: فقد ورد الظلم مع مشتقاته في كتاب الله أكثر من ثلاثمائة مرة. والعدل الذي هو ضد الظلم (ويعرف الظلم بأنه وضع الشيء في غير محله) فهو موجود بشدة في الوجدان العربي الإسلامي.
وإذا قيل عن إنسان انه عادل منصف أعجبنا ولم نسأل عن القيم الأخرى فيه. حتى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين استعمل لفظ الحرية في موقع المساواة والعدالة حين قال عبارته المشهورة في حادثة القبطي مع ابن عمرو بن العاص “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”. قد يقول قائل: انه يذكر الاستعباد والأحرار. أقول: نعم، لكنه لم يكن يعني الرق ونقيضه. كان لا يعني العدل في المساواة بين العبد والحر، بل المساواة بين الحر والحر. والدليل أن الرق كان نظاما متبعا أيام عمر، وكان العبد يباع ويشترى ويؤجَّر، ولم يفعل عمر شيئا من اجل إلغائه. ولو كان يعني بعبارته الحرية لفعل شيئاً من اجل الرق، لكنه لم يتدخل.
ولكن ما الذي حصل بعدها؟ الذي حصل أننا من اجل العدالة قبلنا بعصا عمر، ومات عمر، وبقيت العصا. لا بل كبرت وغلظت. وصرنا نقرأ عن الرشيد أو المأمون انه كان ينزل متنكراً ليتفقد أحوال الرعية، فنمدحه ونترحّم عليه دون أن نسأل كم من المساجين كان في سجونه. صرنا نمدح الحجاج لأنه نقّط القرآن، وننسى انه كان في سجونه حين مات – بحسب رواية الأصمعي – اكثر من 66 ألف سجين. قبلنا ذلك كله لأن مفهوم العدالة هو المسيطر على رؤوسنا، قبلناه إلى حد أننا اخترعنا مفهوما جديدا هو مفهوم المستبد العادل، ومع ذلك كان هناك تجاوز للعدالة. فنحن حين ننظر في الإسلام التاريخي وفي أدبياته الفقهية التطبيقية، نجد أن مفهوم العدالة قد حل محله مفهوم المستبد العادل، وان الحاكم لا يعزل وإن جار أو ظلم. ولا يعزل حتى إن فسق أو أصيب بالجنون، لا يعزل ويحكم مدى الحياة. هكذا تبدو الحرية والعدالة في وعينا الجمعي وفي الكتب التي ما زالت تطبع حتى اليوم ونقبلها. ما زلنا نصفق للحاكم الذي يتنكر وينزل كي يتفقد أحوال الرعية، مع أنه لم يبق الآن ما يدعوه إلى التنكر بوجود مؤسسات مجتمع مدني وأهلي تقوم بهذا الدور.
ننتقل الآن لبيان الأساس النظري لمفهوم الحرية كما ورد في كتاب الله تعالى، وهل من المعقول أن الله سبحانه وتعالى لم يذكر هذه القيمة العظيمة ولم يهتم بها، ثم لنشرح بعده مفهوم الردة لما له من علاقة مباشرة بمفهوم الحرية. ففي كتاب الله مصطلحان: الأول هو العباد والثاني هو العبيد. فما الفرق بين العباد والعبيد؟ لقد ورد المصطلحان في كتاب الله، فهل نحن عباد الله أم عبيد الله؟ هذا هو السؤال. والجواب إن الناس هم عباد وليسوا عبيداً في كتاب الله تعالى.
لقد جاء المصطلحان من اصل ثلاثي هو “ع، ب، د” وهو من ألفاظ الأضداد في اللسان العربي التي تعني الشيء وضده معاً. وفعل (عَبَد)َ يعني أطاع كما يعني عصى في الوقت نفسه. أي أن العبادية تعني الطاعة والمعصية. وقد ورد هذا المصطلح بمعنييه في كتاب الله تعالى. فقال تعالى بمعنى الطاعة {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة 5). وقال تعالى بمعنى المعصية {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله…} (الزمر 53). وقال: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} (الزخرف 81). وقال تعالى بمعنى الطاعة والمعصية معاً {نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} (الحجر 49). وقال: {والنخل باسقات لها طلع نضيد، رزقاً للعباد} (ق،10 11). وقال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات 56). أي ليكونوا عباداً يطيعون ويعصون بملء إرادتهم واختيارهم. وليس كما يقول السادة العلماء أنه خلقهم ليصلوا ويصوموا ويكونوا عبيداً. فالعبودية غير مطلوبة أصلا. والله سبحانه لم يطلب من الناس أن يكونوا عبيداً له في الحياة الدنيا، بل خلقهم ليكونوا عباداً، فيهم من يطيع فيصوم ويصلي، وفيهم يعصى فلا يصوم ولا يصلي.
إن حرية الاختيار التي يجسدها مصطلح العبادية هي كلمة الله العليا التي سبقت لأهل الأرض، وقامت عليها حكمة الخلق بالأساس، في قوله تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم…} (يونس 19 وهود 110 وطه 129 وفصّلت 45 والشورى 14). ولهذا فحين نكره الناس على الإيمان أو نكرههم على الإلحاد تكون كلمة الله هي السفلى. ولهذا أيضا أمر رسول الله صلوات الله عليه بالجهاد من اجل أن تكون كلمة الله هي العليا. ولكن عندما يُكره الناس على الصلاة ولو في المسجد الحرام تصبح كلمة الله هي السفلى. وعندما نُكره النساء على الحجاب كما في أفغانستان أو نكرههن على نزع الحجاب تصبح كلمة الله هي السفلى. القضية إذن قضية “لا إكراه في الدين” وقضية حرية اختيار، لولاها لما بقي معنى ليوم الحساب ولا للثواب والعقاب. وتبين أن الحرية هي غاية الخلق في كتاب الله.
ننتقل الآن إلى المصطلح الثاني في كتاب الله تعالى وهو العبيد. لقد ورد هذا المصطلح في القرآن خمس مرات. {وأن الله ليس بظلام للعبيد} (آل عمران 182 والأنفال 51 والحج 10)، {وما ربك بظلاّم للعبيد} (فصّلت 46)، {وما أنا بظلام للعبيد} (ق 29). ونلاحظ أنها وردت كلها في مجال اليوم الآخر. لماذا؟ لأننا في اليوم الآخر عبيد ليس لنا من الأمر شيء. ولأننا في اليوم الآخر عبيد ليس لنا رأي ولا يحق لنا أن نتكلم أصلا. في الحياة الدنيا يؤمن الناس أو يلحدون يطيعون أو يعصون لأنهم عباد، أما في اليوم الآخر فلا وجود لحرية الاختيار، في اليوم الآخر هناك سَوْق. مثل السوق القسري إلى خدمة العلم. فيساق العصاة إلى النار تماماً مثلما يساق الطامعون إلى الجنة. يقول تعالى {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا} (الزمر 71)، {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا} (الزمر 73). ونفهم من هذا كله أن الناس عباد الله في الدنيا وعبيد الله في اليوم الآخر. كما يتضح لنا بكل جلاء أن مفهوم الحرية في كتاب الله تعالى سبق مفهوم العدالة، بدليل ورود الظلم مقرونا بالعبيد في الآيات الخمس. لماذا؟ لأن العبد المملوك لا يستطيع أن يقيم العدالة، ومن هنا اقترن الظلم بالعبودية. أما العباد الأحرار فلا حاجة لتذكيرهم بالعدالة لأنهم يستطيعون أن يقيموها بأنفسهم باعتبارهم أحرارا. وحين يملك المرء حرية الاختيار ويرتفع عنه سيف الإكراه يصبح قادرا على تحقيق العدالة وصنعها. وهنا أذكر أن لفظ العبد والأمه في كتاب الله لا تعني الرق، والتي هي مفرد عباد، أما مفرد عبيد فهي العبد المملوك كما ورد في قوله تعالى: {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء} (النحل).
ننتقل الآن لننظر كيف اخذ الفقه الإسلامي التاريخي بالحرية والعدالة في مسألة الردة. إنما علينا أولا أن نميز ونحن نتحدث عن الردة بين نوعين:
الردة السياسية، والردة العقائدية. فالردة السياسية هي محاولة خروج على الحكم للاستيلاء عليه. ففي بريطانيا مثلا، إذا أراد إنسان أن يصبح حاكما ورئيس وزراء فكيف يتصرف؟ انه ينتسب لحزب في بريطانيا ثم يسعى ليصل إلى رئاسة الحزب ثم لينتصر الحزب في الانتخابات… هذا هو الطريق. لكن الأمر مع الرسول (ص) مختلف. فقد بدأ نبيا ورسولا وانتهى مؤسسا لدولة مركزية في الجزيرة العربية عاصمتها المدينة المنورة. فترسخ في الوعي السياسي لدى الناس أن أي إنسان يريد أن يصبح له دور سياسي أو أن يصبح رئيس دولة يجب أن يدعي النبوة. أول من فعل ذلك في العصر النبوي هو الأسود العنسي فأمر الرسول بقتله. وعندما قام مسيلمة الكذاب وادعى النبوة ورفض أداء الزكاة للخليفة أبي بكر، كان هناك موقفان: موقف أبي بكر وهو موقف اقتصادي سياسي، وموقف عمر وهو موقف ديني يضمن حرية التصرف والممارسة. وقد انتصر وقتها موقف أبي بكر نظرا إلى أن الزكاة كانت الدخل المالي الوحيد للدولة. أما اليوم بعد اعتماد الأنظمة الضريبية من قبل الدولة فقد رجح عمليا موقف عمر، إذ لا يتم الآن دفع الزكاة للدولة بل يصرفها أصحابها بأنفسهم علي مستحقيها. ولكن لو جاء أهل الإسكندرية الآن ورفضوا أداء الضرائب المحصلة للدولة المركزية، فمعنى ذلك انهم انفصلوا عن الدولة. وهذه هي الردة السياسية.
والردة السياسية ليست حكرا على المجتمعات العربية والإسلامية، فنحن لسنا بدعة من الناس. فأكبر الحروب التي جرت في أميركا بين الشمال والجنوب هي حروب انفصال وردة سياسية.
أما الردة العقائدية، فمثالها أن يقول إنسان مسلم: أريد أن أصبح مسيحيا، أو بوذيا، أو أن يقول إنسان مسيحي: أريد أن اصبح مسلما أو يهوديا. وحكم هذا الإنسان في الإسلام التاريخي القتل. لماذا يقتلونه؟ ثمة من يقول: هناك حديث نبوي “من بدّل دينه فاقتلوه”. ونحن نقول، إذا كان الله سبحانه يقول: {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} (الكهف 29) ويقول: {لا إكراه في الدين} (البقرة 256) ويقول لنبيه: {إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} (الغاشية 22) فكيف يستقيم أن يأمر النبي بقتل المرتد؟ مع العلم أن هناك من ارتد عن الإيمان بالمفهوم العقائدي ولم يتصرف الرسول حيالهم بأية إجراءات. وثمة من يقول: أنت دخلت في الإسلام طوعاً ولم يجبرك أحد ولهذا لا تستطيع الخروج الآن. ونحن نقول: إن معظم المسلمين دخل في الإسلام في شكل آلي لا طوعا ولا كرها، ولدوا من أبوين مسلمين فكانوا مسلمين ولو ولدوا في بلاد البوذية لكانوا بوذيين.
إنني ألوم من يطالب بالإصلاح السياسي بدون إصلاح ديني. وهذا أمر صعب جداً. فلا يمكن (حسب رأيي) أن يكون هناك إصلاح سياسي منفصل عن الإصلاح الديني، فالعقلية التقليدية الموجودة عند الناس لا تهتم بأي إصلاح سياسي. سأعطي مثالا: هناك أبواب في الفقه الإسلامي التاريخي تحتاج إلى تغيير، منها باب سد الذرائع. وهو باب حسب المعنى السياسي يعني حالة الطوارئ والأحكام العرفية. مثلا: إذا خرجت امرأة إلى الطريق فيجب أن تلبس خيمة سوداء لأننا نخشى أن يقول لها رجل مرحبا. ولا يجوز أن تتعطر وإلا اعتبرت زانية، والأفضل للنساء أن (يقرن في بيوتهن) فلا يخرجن أبدا. باب آخر هو باب درء المفاسد خير من جلب المنافع. وهذا الباب حوّلنا إلى جبناء وبلداء وكسالى انحصرت علاقتنا بالدولة والحياة إلى درء مفاسد دون جرّ منافع، رغم أن قانون الوجود قائم على المفاسد والمنافع معاً، على الخير والشر معاً، ونفي أحدهما يعني نفي الآخر حتماً. يقول تعالى {كل نفس ذائقة الموت، ونبلوكم بالشر والخير فتنة، والينا ترجعون} (الأنبياء 35). باب ثالث هو “كل قرض جر منفعة فهو ربا” تشددوا فيه بتعريف “المنفعة” وبالغوا بتوسيع حدود “الربا”، وقرنوه بقواعد أخرى في تبديل الذهب بالذهب والفضة بالفضة والقمح بالقمح، حتى صارت المعاملات في الأسواق التجارية بالغة الصعوبة والتعقيد. ونسوا أن المنفعة هي أساس العلاقة بين كل أفراد المجتمع الإنساني أفراداً وجماعات ودولاً، حتى أن العلاقة مع الله قائمة على المنفعة. ومع ذلك نسمع خطباء الجمعة على المنابر، يتشدقون بأن الرسول (ص) مات ودرعه مرهونة عند يهودي. ونستغرب ونحن نتساءل: “أليس هذا إن صح أمرا معيباً، وفي الأمة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمرو بن العاص وغيرهم من مليونيرات قريش؟ ثم نتساءل: كم كان مقدار الفائدة التي تقاضاها هذا اليهودي؟ فالتاريخ لم يسمع من قبل بيهودي يقرض أعداءه اللدودين قرضاً حسناً. باب رابع هو باب التساهل في رواية الأحاديث الضعيفة في مجال الترغيب والترهيب. باب خامس خطير ومهم هو باب الشورى. قال تعالى آمراً نبيّه الكريم {وشاورهم في الأمر} (آل عمران 159). ثم قرن الشورى مع الصلاة ليدل على أهميتها في قوله تعالى: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى 38). ومع ذلك جعلوا الشورى للحاكم العادل الفقيه معلمة غير ملزمة، أي أنهم حولوه إلى ديكتاتور، ليس في الشرع ما يلزمه بآراء الآخرين. وهذا ما نراه في بعض الدول العربية في وضع مجالس الشورى. وإذا نظرنا إلى الشورى من الناحية التاريخية فهي فقيرة جداً وليس لها مؤسسات، ومن المجحف الآن مقارنة الديموقراطية بالشورى، لأن الديموقراطية لها تاريخ ومؤسسات، والشورى ليست كذلك، إلا إذا اعتبرنا أن الشورى قيمة تحتاج إلى مؤسسات حديثة. باب آخر هو باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما نعرفه اليوم باسم محاربة الفساد.
هذه المهمة الخطيرة وضعوها بيد الحاكم واسندوها إلى الدولة. في الوقت الذي يعلم الجميع أن الدولة بما لديها من أموال وجيش وأمن وشرطة وسلطة هي الأحوج من غيرها لأن تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. ثم مسخوا مسألة الفساد والنهي عن المنكر إلى حدود مضحكة. يقول أحد الدعاة الإسلاميين في كتاب له صدر بعد خروجه من السجن “كنا نتدرب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجامعة، فإذا رأينا أحدهم يقف مع فتاة، استوقفناه. فإن كانت أخته تركناه، وان لم تكن سألناه لماذا يقف معها ونهيناه عن المنكر”. في بعض الدول العربية الإسلامية يساق الناس إلى الصلاة في الأسواق بالعصا تحت عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن غياب الوعي بمفاهيم الحرية ووضع الدين في خدمة السياسة كما هي الحال في جميع بلدان العالم الإسلامي، وتخلف الوعي بدور مؤسسات المجتمع المدني في الشورى، والتشريعات الفقهية التراثية التي لا مكان فيها لآراء الناس ولا لمصالحهم، هو السبب الكامن وراء ظهور الأصولية الإسلامية السياسية اليوم والحركات المتطرفة التي تتطلع إلى الاستيلاء على الدين والحكم معا. أي دمج المؤسستين الدينية والسياسية في مؤسسة واحدة.
نحن أخيرا بحاجة إلى إصلاح سياسي، وإلى مؤسسات مجتمع مدني، فمجالس الشعب والأحزاب والنقابات والاتحادات والمنتديات والصحف موجودة وتحتاج إلى تفعيل ويمكن تفعليها بإصلاح فكري وديني وثقافي. وإلى خلق الإبداع المتجدد، لتفعيل ما عندنا من مؤسسات موجودة. وأهم هذا التفعيل هو خلق وتفعيل مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا الخلق لا يكون إلا بالمعارضة السلمية والتي يقف على رأسها الأحزاب السياسية يليها النقابات المهنية وباقي مؤسسات المجتمع المدني. فالدولة هي المؤسسة القابلة للفساد فهي تحتاج لأن تُؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر. وخير آلية توصل إليها الإنسان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي المعارضة السياسية وحرية الصحافة وحرية التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي. وفي هذا المفهوم، المعارضة وحرية الصحافة هي جزء أساسي من الممارسة الإسلامية وهي تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان. والدولة الديموقراطية بمؤسساتها المختلفة تمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد، أي أنه إن وجدت الدولة مؤسسة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي فرع إضافي للأمن. من هذا المفهوم لا يوجد حزب إسلامي وآخر غير إسلامي، أي أن أية جهة ترفض المعارضة وحرية الصحافة وتداول السلطة هي جهة تقف ضد الإسلام كثقافة ومفهوم الحزب الإسلامي هنا لا معنى له. فإذا كان الحزب الإسلامي في السلطة، فهل أحزاب المعارضة لا إسلامية. أي أن علاقة السياسي بشعبه تقوم على المثل العليا الإسلامية التي هي إنسانية شمولية.
أي علينا أن نفصل بين الديني والسياسي، كما على الحركات القومية اليسارية أن تفصل بين الوطني والسياسي. فإذا أردنا أن نصل بين الدين والسياسة وأخذنا الجانب السياسي في التاريخ الإسلامي نجد فيه الاغتيالات والسجون والحرب الأهلية والسم وقطع الرؤوس مع مؤسسة استبدادية عريقة بقيت على قيد الحياة حتى يومنا هذا. وهكذا نرى أن الدولة العلمانية الديموقراطية هي أحسن دولة يستطيع فيها الإسلام أن يظهر وجهه الحضاري الإنساني.
أما أسس الإصلاح الديني فهي تقوم على الأسس التالية:
1 – تبني نظام معرفي جديد نتعامل معه مع الكتاب والسنة، أي أننا بحاجة إلى قطيعة معرفية مع التراث، لا قطيعة تاريخية. ضمن هذا النظام نعيد النظر في كل آيات الأحكام، وبالذات أحكام القتال الواردة في سورة التوبة والأنفال ومحمد. ونميز بين النص التاريخي وتاريخية النص. ومثال على النص التاريخي، القصص القرآني (مثال قصة يوسف) فتؤخذ منه مواعظ وقوانين تاريخية، ولا تؤخذ منه أحكام شرعية. ومثال على تاريخية النص (علم المواريث – علم الفراض) فآيات الإرث في سورة النساء ليست نصاً تاريخياً وهذا العلم الذي هو من صنع الفقهاء يحمل الصفة التاريخية وضعه النظام المعرفي المستعمل آنذاك. فما علينا إلا إعادة قراءة هذه الآيات بنظام معرفي جديد لينتج لدينا علم مواريث جديد. أي أنه لا يمكن أن يكون هناك أي تجديد بدون أن يكون هناك اختراقات للثوابت التاريخية للإسلام والتي وضعت من قبل الناس.
2 – على ضوء هذه المنظومة نعيد النظر بمركبات الأحكام الفقهية وهي الواجب والمحرم والحلال والمندوب والمكروه. علينا إيجاد تصنيف جديد وتعريف جديد لهذه المركبات وخاصة المحرم على أساس أن الحلال لا يحتاج إلى أي بينات أو براهين. وعلى هذه المنظومة تخليص الناس من الشعور بالذنب صباح مساء.
3 – إعادة النظر في أسس الفقه الإسلامي وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وتقديم تعاريف جديدة لهذه المصطلحات الأربعة وخاصة السنة والإجماع والقياس. وإعادة تعريفها يسمح بوجود برلمانات وانتخابات وتعددية.
4 – إعادة النظر في أركان الإسلام والإيمان وتحويل الخطاب الإسلامي إلى خطاب عالمي.
5 – يجب أن لا ننسى أن أسس الفقه الإسلامي وكل هذه التقسيمات تم وضع أسسها في العهد الأموي ودونت واكتملت في العصر العباسي، أي أنها تقسيمات تاريخية غير مقدسة.
6 – إلغاء بنود كاملة من الفقه الإسلامي كالقيود التي وردت سابقاً. (مثال باب سد الذرائع وغيرها).
7 – إنشاء فلسفة إسلامية معاصرة وعلم لاهوت إسلامي معاصر (علم كلام معاصر) قائم على أساس أن العمر غير مكتوب والأرزاق غير مقسومة وتضيق وتتسع وأن الأعمار تطول وتقصر. وأن كلمة الله التي سبقت للناس جميعاً هي حرية الاختيار.
8 – إنشاء نظرية في السلطة وفقه دستوري حيث لا يوجد في الإسلام التاريخي فقه دستوري وعلاقة السلطة بالناس على أساس العقد الاجتماعي، وأن تعيين السلطان ليس من مهام الله، وإنما هو من مهام الإنسان. وأن الدعاء (اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تولِّ علينا شرارنا) ليس له معنى.
9 – ترسيخ قيمة الحياة عند الناس لأن رجال الدين خلال قرون نجحوا في إقناع الناس بالنظر إلى الحياة نظرة ازدراء. واستعمل نهاية الحديث (يصيبكم الله بالوهن، قالوا ما الوهن يا رسول الله؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت) (مسند أحمد 21363).
فكل إنسان يحب الحياة ويكره الموت عليه أن يشعر بالذنب. فأصبحنا لا نستغرب القتل الجماعي والمجازر كما لو أنها في وجداننا. وفي حقل الإصلاح الديني الثقافي الدولة هي أضعف حلقة هي في مواجهة المؤسسة الدينية والمجتمع قبل مواجهة الدولة.
وأختم كلامي هذا بالمقولة التاريخية التي تقول (سلطان تخافه الرعية خير للرعية من سلطان يخافها) ورسخت هذه المقولة في وعينا الجمعي. ولكي نبدأ بالإصلاح الديموقراطي في وعي الناس علينا أن نقلب هذه المقولة بشكل تصبح فيه (سلطان يخاف من الرعية خير للرعية من سلطان تخافه) وهذا هو عمل كل الديموقراطيات في العالم حيث السلطان يخاف من الرعية. وعلينا أن نسير تجاه هذا الهدف ونجعله جزءاً من عقيدتنا ووجداننا. وأريد أن أؤكد أن تقديس الحرية ووعي الناس لقيمتها لا يأتي بالقوة ولا يفرض، وإنما ينتج عن إصلاح ثقافي ديني. وإن فكرة الديموقراطية بالقوة لا تختلف بالمحتوى عن فكرة المستبد العادل.
والحمد لله رب العالمين.