تعيش بلادنا، هذه الأيام، على إيقاع صراع محموم بمناسبة الانتخابات التشريعية المقبلة (7 أكتوبر 2016). ويحتدم الصراع بشكل خاص، أو هكذا يراد له، بين وجهي العملة الواحدة؛ ونقصد بهما حزب العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة(انظر مقالنا بعنوان “هل قدرنا الديمقراطي وجهان لعملة واحدة؟”، “الحوار المتمدن”، 9 فبراير 2016) . ومرد الصراع وموضوعه ليس سوى الرغبة في تصدر نتائج الانتخابات المقبلة للظفر بمنصب رئاسة الحكومة وقيادة الأغلبية المقبلة.
فحزب العدالة والتنمية يريد ولاية ثانية ولو بالقوة وإثارة الفتنة بالبلاد حسب ما يتبين من تصريحات قياديين بالحزب وعلى رأسهم “بنكيران”، رئيس الحكومة الذي يتوعد الدولة بالعصيان المدني.
والمثير في الأمر هو أن هذا الأخير هو الذي يرأس اللجنة الوطنية لتتبع الانتخابات التي تضم، إلى جانبه، كلا من وزير الداخلية ووزير العدل. فكيف يمكن، إذن، والحالة هذه، أن لا نتخوف من استغلال هذه اللجنة من أجل الفوز بولاية ثانية؟ وما يعطي المشروعية لهذا التخوف هو ليس فقط الإصرار والرغبة في “الفوز” بولاية ثانية بأية وسليلة؛ بل وأيضا الاختفاء وراء ما يسمونه “التحكم” (وكأن ما يفعلونه هو غير ذلك) لتبرير ما يعتزمون القيام به- من قبيل العصيان المدني وغيره- في حال عدم فوزهم في الانتخابات بالمرتبة الأولى.
ويتبين من هذه المواقف وهذه التصريحات أن حزب العدالة والتنمية يلغي من حسابه، في المنافسة على المرتبة الأولى، باقي الأحزاب الأخرى سواء منها الوطنية والتاريخية أو تلك التي نشأت، مثلهما، في “دار المخزن” لمحاربة هذه الأخيرة. وهو ما يثير الكثير من التساؤل حول المشهد السياسي الذي يراد تكريسه نظريا وعمليا في الخارطة السياسية المغربية من خلال قطبية مصطنعة.
أما حزب الأصالة والمعاصرة فيبحث، من جهة، عن نفي تهمة التحكم التي يصر الحزب الأغلبي على إلصاقها به (وتجدر الإشارة إلى أن تبادل التهم بين الحزبين لا يتوقف)؛ ومن جهة أخرى، يبحث عن مرشحين قادرين على ربح الانتخابات لتصدر النتائج وترأس الحكومة، خاصة وأنه تبوأ المرتبة الأولى في انتخابات 4 شتنبر 2015؛ وهذا ما يقلق العدالة والتنمية ويجعله، في كثير من الأحيان، يخرج عن جادة الصواب.
ويبدو أن الصحافة الورقية والإليكترونية قد استمرأت هذه اللعبة (لعبة القطبية المصطنعة) بحيث بقي اهتمامها بالأحزاب الأخرى، سواء الموجودة في الأغلبية أو الموجودة في المعارضة (المعارضة البرلمانية، أقصد)، في حده الأدنى؛ وغالبا ما تكتفي بتتبع بعض الصراعات الداخلية التي تعرفها هذه الأحزاب بسبب حروب التزكيات أو الترتيب باللائحتين الوطنيتين (النساء والشباب).
وبما أن بلادنا ليس بها قانون ينظم استطلاعات الرأي التي تهتم بتوجهات الناخبين ونية التصويت لديهم، فمن الصعب، منطقيا، التكهن بمن سيؤول إليه منصب رئيس الحكومة المقبل.
لكن الأقلام المسخَّرة لبيع الوهم والتدليس على المواطنين، من أمثال “تلفيق بوعشرين”، لا تعدم الوسيلة للتحايل على القانون وعلى “الرأي العام” من خلال تقديم قراءات مُوَجَّهة وموَجِّهة، تقوم مقام استطلاع الرأي وتعتمد على بعض المعطيات المخدومة والمموِّهة للحقيقة، خدمة لأهداف الجهة التي تُسخِّرها من أجل العمل على توجيه الرأي العام والتأثير على الناخبين المحتملين؛ وذلك بتلميع صورة المتاجرين ببؤس الفقراء والمحتاجين، سواء كان هؤلاء المتاجرون من الذين يشترون الذمم بأموال، الله وحده يعلم مصدرها، أو من الذين يستغلون الدين الإسلامي الحنيف ويستغفلون الناس بمظاهر التدين الكاذب بقصد إرضاء نزواتهم الشخصية وتحقيق مطامحهم ومطامعهم السياسية.
وما الفضائح المتناسلة داخل حزب العدالة والتنمية(الجنس والحشيش والخمر والقمار وتبذير المال العام واستغلال النفوذ) إلا دليلا على الفساد الذي يدعون، نفاقا ورياءا، محاربته. وتلك آية من آيات الله الذي يمهل ولا يهمل. فتوظيف المقدس للفوز بالمدنس (أي بملذات الدنيا، المشروع منها وغير المشروع) فيه كذب على الله وعلى العباد “والله لا يحب الفساد”.
ورغم كل هذا، فحظهم من الوقاحة السياسية والأخلاقية يتزايد ويتعاظم إلى درجة نسيان أنفسهم ومنشئهم، فيلجئون إلى ابتزاز الدولة وتهديد المجتمع، حبا في السلطة وامتيازاتها. ومن وجهة نظر هذا العبد الضعيف، الذي واكب بالنقد والتتبع تجربة السيد “عبد الإله بنكيران” كرئيس للحكومة وزعيم لحزب العدالة والتنمية، لا أعتقد أنه سيكون هناك أسوأ منه (ومن حزبه) تدبيرا وتفكيرا وإنجازا وسلوكا ومعاملة…، كائنا من كان رئيس الحكومة المقبل.
فكل القرائن والمعطيات (تفاقم البطالة، ضعف نسبة النمو، ارتفاع المديونية الخارجية بشكل غير مسبوق، تجميد الأجور، ضرب القدرة الشرائية للمواطنين بسبب توالي ارتفاع الأسعار، انهيار القطاعات الاجتماعية وخاصة الصحة والتعليم، ملف التقاعد، التراجع عن المكتسبات في المجال الاجتماعي والحقوقي والثقافي، سد باب التوظيف أمام المتخرجين من مؤسساتنا الجامعية، ما عدا بالنسبة لأبنائهم…، الخ) تؤكد أن الحكومة الحالية بقيادة “عبد الإله بنكبران” قد أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار.
ولا أعتقد أن هناك زعيما سياسيا بمثل قدرة “بنكيران” على ردم ودك مكتسبات الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة وأصحاب الدخل المحدود؛ تلك المكتسبات(المادية والمعنوية منها) التي تطلب تحقيقها نضالات مريرة وتضحيات جسام. لذلك، فلا أرى، شخصيا، أسوأ من “بنكيران” على رأس الحكومة. فحتى ولو كان الشخص الذي سيخلفه في هذا المنصب الهام في الدولة من فصيلة الأستاذ “محمد زيان”، فلن يفعل بالمغاربة ما فعله صاحب التماسيح والعفاريت ومُلاعب سبحة “التقوى والورع” على طريقة أصحاب البيترودولار. وأعتذر للأستاذ “زيان” على تقديمه كمثال، رغم أني أعلم أن حزبه، عفوا، أنه قرر مقاطعة الانتخابات المقبلة.
وما تشكي السيد “بنكيران” من التحكم وتخوفه على شفافية ونزاهة الانتخابات، وهو المشرف الرئيسي عنها، إلا أسلوبا للتمويه والضحك على الذقون. فلو كان رئيس الحكومة يهمه، فعلا، أن تكون الانتخابات شفافة ونزيهة، لكان اجتهد وعمل، قانونيا وتنظيما، على إيجاد آليات تصون أصوات الناخبين وتضمن شفافية ونزاهة الانتخابات؛ وبالتالي، تدعم البناء الديمقراطي ببلادنا (وأعتقد أن في مذكرة الاتحاد الاشتراكي، التي لم يعرها أي اهتمام، ما يكفي من اقتراحات وأفكار تساعد على إيجاد مثل هذه الآليات). لكنه، بدل ذلك، راح يبتز الدولة ويتوعدها بالعصيان المدني إذا لم يفز بالانتخابات التي تنظمها حكومته ويشرف عليها هو بنفسه.
ويحق لنا، بعد كل الخراب (الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والثقافي، وحتى السياسي) الذي تسببت فيه حكومة بنكيران، أن نتساءل، في الأخير: “ما ذا يريد حزب العدالة والتنمية؟”.