لم يسبق في تاريخ المغرب الحديث أن حظي مشروع قانون، كيف ما كانت طبيعته أوالقضايا التي يتناولها، سواء تعلق الأمر بموضوع فكري أوثقافي أوسياسي أوقانوني مثل ما حظي به مشروع مدونة الأسرة وذلك قبل أن يصوت عليه البرلمان ويصبح قانونا ساري المفعول بعدما تم نشره أخيرا بالجريدة الرسمية.
ومن المفيد دائما محاولة تلمس مقومات الفكر الذي يؤسس لقانون معين سعيا وراء معرفة الغاية والأهداف التي يرمي إليها، ومدونة الأسرة هو قانون يتجاوز كونه قانونا عاديا ينظم حالة معينة من حالات المجتمع وإنما هو قانون يبشر لمشروع مجتمعي له سيمات مختلفة عن تلك التي عاشها مجتمعنا لحد الساعة.
وفي تقديري، فإن الفكر الذي أسس لمدونة الأسرة كان يرمي إلى إعادة تشكيل العلاقات الزوجية في المجتمع المغربي، بكل ما يعني ذلك من مخاطرة ومن شجاعة في اقتحام أهم القضايا و تقديم أجوبة على الأسئلة الكبرى التي كان المجتمع يطرحها في تفاعله اليومي ومخاضه الدائم وتجاذبه الثقافي والفكري وأيضا السياسي بل وفي الإفصاح عن المسكوت عنه ومعالجة الظواهر التي بحكم تكرارها دخلت في العادة، أصبحت الجراح التي تتركها كأنها هي طبيعة الأمور ولا راد لقدرها.
إن إعادة تشكيل العلاقات الأسرية هذه لم تكن عملية تبسيطية ولا سهلة على مستوى التنظير الفكري والثقافي وكذا السياسي، ولا على مستوى الهندسة القانونية، التي نجحت الصياغة المعتمدة فيها على المساعدة في الوصول إلى أجوبة لاعقد المشاكل المطروحة.
وأعتقد أن الفكر الذي أسس لمدونة الأسرة ما كان له أن ينجح في هذه المعالجة الصعبة لقضية مركزية مثل قضية الأسرة التي هي في الواقع قضية مجتمع بكامله لولا إعماله لآليات الفكر الحداثي من جهة واستحضاره للحاجيات المجتمعية الملحة من جهة أخرى في مثابرة حثيثة للبحث على قواعد الربط بين هذا وذاك رغبة في صياغة وتشكيل جديد للعلاقات الأسرية التي هي في الواقع إعادة تشكيل للعلاقات المجتمعية في نهاية المطاف.
*فما هي الآليات الفكرية المستعملة في ذلك؟.
إن المطلع على مدونة الأسرة سيلاحظ أن لمدونة الأسرة سيمات محددة أهمها :
-تدبير جديد لقواعد الدستور
-مبادئ وقواعد جديدة في الفكر القانوني والحقوقي.
-استعمال اللغة كوسيلة لتقديم بعض الأجوبة على إشكالات صعبة.
-اعتماد فكر المساواة بين الزوج والزوجـة.
-استعمال مؤسسة القضاء ونتاج الفكر العلمي الحديث.
هذه الآليات جميعها سيلاحظها المتتبع والمتفحص لمدونة الأسرة تلعب دورها في تناغم وانسجام، وأحيانا نستنجد بعضها بالبعض الأخر لتقديم جواب على إشكال عويص.
وسأحاول ملامسة الفكر المؤسس لمدونة الأسرة، أملا في استشراف آفاقه والأثر المجتمعي الذي سيحدثه متناولا أولا سمات التدبير الجديد لقواعد الدستور وثانيا مبرزا المبادئ والقواعد الجديدة في الفكر القانوني والحقوقي.
أولا : تدبيـر جـديـد لقـواعـد الدستـور :
1-عندما اختار المغرب، بعد حصوله على الاستقلال، أن يخرج من وضع مركزة السلط في يد السلطان، إلى توزيع معين لتلك السلط بين عدة مؤسسات في البلاد ترجم ذلك بإقرار دستور 1962، ذلك الدستور الذي سيوزع سلطة سن القوانين بين مؤسسة الملك وبين مؤسسة البرلمـان.
وهذا التوزيع ستؤكده جميع الدساتير التي سيعرفها المغرب إلى حدود دستور 1996 الذي أجمع عليه الشعب المغربي بالمقارنة مع الدساتير السابقـة.
غير أنه إذا كان البرلمان يدخل في اختصاصه سن القوانين التي تنظم الحقوق الفردية والجماعية للمواطنين، فإنه، ومع ذلك، لم تتح له الفرصة لتناول موضوع مثل موضوع مدونة الأسرة، إذ أن قانون الأحوال الشخصية لم يصوت عليه البرلمان لأنه لم يكن المغرب سنة 1957 يتوفر على برلمان كما أن التعديلات التي أدخلت عليه في سنة 1993 تمت بمقتضى ظهير، ولم يبث فيها مجلس النواب، وذلك بعدما طلب تحكيم ملكي في الموضوع.
وإن كان من حدث يمكن تسجيله بخصوص مدونة الأسرة، فليس فقط هو نص مدونة الأسرة في حد ذاته، الذي لن يخرج، في نهاية المطاف، عن كونه نصا قانونيا، ولكن الحدث المؤسسي والحقوقي في المغرب هو المبادرة الملكية بعرض المدونة على البرلمان للمناقشة والتعديل والتصويت، أي نقل موضوع طلب فيه تحكيم ملكي من المال الخاص للملك إلى مجال المؤسسة الدستورية للدولة المؤهلة للتشريع وهي البرلمـان.
فهذه المبادرة شكلت بالفعل حدثا جديدا في الفكر الحقوقي والمؤسساتي والدستوري، أي اعتبرت ونظر إليها كتدبير جديد لقواعد الدستور بخصوص نص طلب فيه تحكيم ملكي، وشددت الجميع سواء تعلق الأمر بالعلماء أوتعلق الأمر بالجمعيات النسائية على استثناء البرلمان من التداول في هذا النوع من القوانين وحصر ذلك في المجال الخاص للملك أوكما يجب البعض أن يسميه بالمجال المحفوظ للملك، ولقد سجل الخطاب الملكي أمام البرلمان في افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية السابعة، هذا التدبير الجديد لقواعد الدستور، إذ ورد فيه ما يلـي :
“وإذا كانت مدونة 1957 قد وضعت قبل تأسيس البرلمان وعدلت سنة
“1993 خلال فترة دستورية انتقالية، بظهائر تشريعية، فإن نظرنا السديد “ارتأى أن يعرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان لأول مرة لما “تضمنه من التزامات مدنية، علما أن مقتضياته الشرعية من اختصاص “أمير المؤمنين”.
فمبادرة عرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان أفصحت عن فكر حداثي يؤمن بدور مؤسسات الدولة، وهو الذي أطرها بتفعيل المؤسسات الدستورية للدولة.
2-غير أن عرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان، لم يكن كذلك، عرضا عاديا مثل عرض أي قانون كيف ما كان، بالرغم عن أهمية كثير من القوانين التي درسها وناقشها وعدلها وصوت عليها البرلمان، وإنما كان عرضا له خصوصيته الدستورية والمجتمعية.
وتتجلى الخصوصية الدستورية في طريقة عرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان، في كونه يعتبر مشروع القانون الوحيد، في علمي، الذي سيوضع للبرلمان إطارا للتعامل و سترسم محددات لعملية التشريع وهو ما ترجمته الأفكار الإحدى عشر الكبرى التي جاءت في الخطاب الملكي، تلك الأفكار التي اعتبرت صلب النص وعموده الفقري.
وأنه إذا كان معلوما أن الخطاب الذي يوجهه الملك للأمة والبرلمان ويتلى أمام المجلسين لا يمكن أن يكون مضمونه موضوع أي نقاش طبقا لأحكام الفصل 28 من الدستور، فإنه من المعلوم كذلك أن الدستور يقضي بكون الملك هو الممثل الأسمى للأمة طبقا لأحكام الفصل 19 من الدستـور.
وبهذا يكون مشروع مدونة الأسرة عند عرضه على البرلمان مؤطرا دستوريا ومحددا لمهام أعضاء مجلسي البرلمان الذين هم نواب عن الأمة طبقا لأحكام الفصل 36 من الدستـور.
فالقضايا الكبرى التي حسم فيها الخطاب الملكي انطلاقا من مؤسسة امارة المؤمنين من جهة وبالصفة الدستورية للملك التي تجعل منه كذلك الممثل الأسمى للأمة من جهة اخرى اعتبرت كإطار عام للمناقشة التي دارت في قلب البرلمان بين نواب الأمة لكنها لم تمنع البرلمان من التدارس والتحليل والمناقشة وحتى التعديل لتلك النصوص.
ولهذا نقول بأن القانون المتعلق بمدونة الأسرة كان قانونا مؤطرا دستوريا.
كما أن مشروع مدونة الأسرة عرف تأطيرا من نوع آخر وهو التأطير المجتمعي وتجلى ذلك في النقاش الديني والقانوني ثم السياسي والمجتمعي الذي عرفته قواعد قانون الأحوال الشخصية وبعد ذلك مشروع مدونة الأسـرة.
لقد كانت قضايا الأحوال الشخصية وخصوصا منها ما له ارتباط بنشوء العلاقة الزوجية وفسخها حضورا قويا في النقاش العام الذي عرفه المجتمع المغربي منذ بداية الثمانينات، عندما تصاعدت المطالب النسائية من أجل إحداث تغييرات في قانون الأحوال الشخصية نتيجة بعض المشاكل الخطيرة التي عرفتها المحاكم، وكانت الزوجة ضحية لها.
غير أن حدة هذا النقاش طفت على السطح بشكل غير مسبوق عندما سيتم تداول ورقة حول أفكار لحكومة التناوب، سميت بمشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، تلك الورقة التي كانت تتكلم على أفكار عامة حول المرأة في المجتمع المغربي، سرعان ما سيتم استعمال هذا النقاش لأغراض سياسية وسيتجسد ذلك فيما عرف بمظاهرة الدار البيضاء في مواجهة مظاهرة الرباط.
ومن الإنصاف العلمي، القول بأن ما قدمته مدونة الأسرة للمرأة وللطفل وللرجل وللأسرة بصفة عامة لم تكن تحمله تلك الخطة، التي وعلى محدوديتها، لم تكن تتجاوز مرحلة الأفكار في مقابل مدونة انتهت إلى نصوص قانونية هي اليوم سارية المفعول، غير أن قوة وعنف الاعتراض على ما عرف بخطة إدماج المرأة في التنمية والتي لم يكن، كما سبق بيانه، إلا أفكارا، سيقابله قبول وترحيب لقواعد قانونية، أي لآلية ملزمة أخذت حقوقا وواجبات، مست عمق العلاقة الزوجية وهزت بعض أركانه الباليـة.
وهذا التقابل هو الذي استوقف انتباه المتتبعين، وخصوصا منهم السياسيين وأصبح التساؤل مشروع كيف يمكن الاعتراض على مجموعة أفكار وبعد ذلك القبول والترحيب بقواعد قانونية سنت حقوقا وواجبات أتت متقدمة، بل وثورية بالمقارنة مع ما سبقهـا.
ومع ذلك، فقد صاحب ميلاد المشروع نقاشا ثريا جادا عميقا هيأ المجتمع لاستقبال قواعد قانونية جديدة على ثقافته وعلى فكره ومؤشره على تحول نحو المستقبل وكان ذلك النقاش بمثابة تصويت للمجتمع على ذلك المشروع قبل أن يصوت عليه البرلمان.
ثانيـا : المبادئ والقواعد الجديدة في الفكر الحقوقي والقانونـي :
تجلت مظاهر الفكر الحداثي والمجتمعي في أحداث مبادئ جديدة في الفكر الحقوقي والقانوني المغربي وحملتها مدونة الأسرة فشكلت بذلك إضافة نوعية في النسق العام للقانون أي في إعادة صياغة حقوق وواجبات أطراف العلاقة الزوجية حتى بالمقارنة مع التعديلات التي أدخلت على الأحوال الشخصية سنة 1993، آخذة ومطبقة قواعد المساواة بين الزوجين وقواعد العدل وستظهر هذه القواعد في عدة مقتضيات أن الفكر المؤسس لمدونة الأسرة وضع قطيعة فكرية وثقافية وقانونية مع الوضع الذي كان عليه في قانون الأحوال الشخصية.
ونحن نقوم بسرد هذه القواعد سيلاحظ أن في سنها اعمال متوازن لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، اعمال لقواعد اللغة كوسيلة لتقديم أجوبة بعض الإشكالات العويصة اعمال وتفعيل لدور القضاء وأخيرا الاستفادة من نتاج البحث العلمي الحديـث.
وسيقوم بتحديد أهم المقتضيات القانونية الحديثة التي حملتها مدونة الأسرة والتي أتت لتترجم المبادئ المشار إليها أعلاه.
+حق الورثة في المطالبة بما لا يدخل في تركة الهالـك :
سيلاحظ عند قراءة المادة 9 من مدونة الأسرة أنه أصبح ممكنا للورثة المطالبة بحق لم يطالب به الهالك قيد حياته، إذ تنص تلك المادة على ما يلـي :
“إذا قدم الخاطب الصداق أوجزء منه وحدث عدول عن الخطبة أومات “أحد الطرفين أثناءها فللخاطب أوورثته استرداد ما سلم بعينه إن كان “قائما وإلا فمثله أوقيمته يوم تسلمه”.
وكما هو معلوم، فإن المبادئ الأصلية في القانون لا تعطي للورثة إلى الحق في تملك ما تركه الهالك من حقوق مالية، مع استحضار أن المطالبة القضائية أوشبه القضائية بالحق التي يحركها قبل وفاته تدخل في تركته وتورث كما يورث ماله، وبالتالي يحق للورثة مواصلة الدعاوي والمطالبات القضائية التي حركها الهالك قيد حياتـه.
لكن، إذا لم يطالب الهالك بحق شخصي قيد حياته، فإن ورثته لا يملكون إقامة دعوى باسمه للمطالبة بذلك الحق لأن الحق بالنسبة لهم محصور في مواصلة الدعوى التي أقامها الهالك، باعتبارها مال يورق كما يورق مال الهالك وليس في إقامة دعوى جديدة للمطالبة بالحق الشخصي للهالك، الذي لم يطالب به قيد حياته، ما عدا ما تعلق منها بما هو تابع لأموال المتروكـة.
ومع أن الصداق لا يعتبر دينا في مجال الخطبة، خلافا للزواج، كما سنرى، فإن مدونة الأسرة أعطت لورثة الخاطب في حالة وفاته المطالبة باسترجاعه هو الأمر الذي لم يكن ينص عليه الفصل 3 من قانون الأحوال الشخصية.
+إمكانية إبرام عقد الزواج دون حضور العدلين :
تتجلى مظاهر الفكر القانوني والحقوقي الجديد في كون مدونة الأسرة التي اعتبرت من شروط عقد الزواج سماع العدلين للتصريح بالإيجاب والقبول من الزوجين وتوثيقه، طبقا لما تنص عليه المادة 13 فقرة رقم 4، فإن مدونة الأسرة تنازلت عن هذا الشرط مع اعترافها بصحة ومشروعية عقد الزواج عندما يتعلق الأمر بإبرام عقد الزواج بالنسبة للمغاربة المقيمين في الخارج، إذ تنص المادة 14 من مدونة الأسرة على ما يلـي :
“يمكن للمغاربة المقيمين بالخارج أن يبرموا عقود زواجهم وفقا “للإجراءات الإدارية المحلية لبلد إقامتهم إذا توفر الإيجاب والقبول “والأهلية والولي عند الاقتضاء وانتفت الموانع ولم ينص على إسقاط “الصداق وحضره شاهدا مسلمان مع مراعاة أحكام المادة 21 بعـده”.
وهكذا يلاحظ أن مدونة الأسرة تخلت عن شرط سماع العدلين لتصريح الايجاب والقبول وتوثيقهما له وتم الاكتفاء بحضور شاهدين مسلمين.
وبهذا المقتضى عالجت مدونة الأسرة أشكالا كبيرة ووضعا صعبا تعيشه الجالية المغربية المقيمة بالخارج خصوصا في البلدان أوالمناطق التي لا يوجد بها عدول لتوثيق الزواج من جهة كما عالجت حتى إشكالية تدبير فك ميثاق الزواج مع ما طرحته أخيرا هذه العملية من مشاكل بين المغرب وعدد من الدول الأوربية.
كما أن الصيغة التي حررت بها المادة 14 وخصوصا فيما يتعلق بحضور شاهدين مسلمين أثارت عدة ملاحظات من المتتبعين.
وهكذا وإن سجل البعض أهمية هذه المقتضيات الجديدة بالنسبة لتسهيل عملية الزواج للجالية المغربية في الخارج، فإن الإشارة إلى حضور شاهدين مسلمين قد تثير بعض الصعوبات في الدول التي تمنع الإشارة في وثائقهما الرسمية لديانة المقيمين عندها، لذا فإن المشرع كان مستوعبا لهذه الصعوبة عندما لم يربط حضور الشاهدين المسلمين بإبرام العقد وإنما بالعقد فقط.
+خلق وسائل جديدة والإثبـات :
من مظاهر التجديد والتحديث خلق وسيلة جديدة من وسائل الإثبات فرضه التطور العلمي والتكنولوجي لم تكن معترف بها من طرف القانون كوسيلة من وسائل الإثبات بل احتفظ لها المشرع بصفة وسيلة من التحقيق فقط، ألا وهي الخبرة.
وبالفعل، فإنه من المعلوم أن المشرع حدد بصفة حصرية، وسائل الإثبات في القانون إذ نص الفصل 404 من ظهير الالتزامات والعقود على ما يلي :
“وسائل الإثبات التي يقررها القانون هـي :
“1-إقـرار الخصـم.
“2-الحجة الكتابيـة.
“3-شهادة الشهـود.
“4-القرينـة.
“5-اليمين والنكول عنها”.
بينما الخبرة لن نعثر عليها من بين تلك الوسائل، وبالتالي لا يعتبرها القانون وسيلة من وسائل الإثبات وسننتظر إلى صدور قانون المسطرة المدنية الذي سيعتبرها إجراء من إجراءات التحقيق فقط، إذ نص عليها قانون المسطرة المدنية الجاري به العمل منذ 1974 في الفرع الثاني من الباب الثالث الخاص بإجراءات التحقيق كما نصت عليها قواعد المسطرة المدنية السابقة.
وهكذا نخلص إلى أن القانون المغربي لم يعترف للخبرة كوسيلة من وسائل الإثبات إلا عندما سن مدونة الأسرة إذ نصت المادة 16 منها على ما يلي :
“تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة للإثبات الزواج.
“إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في “سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة”.
وهكذا أدخل مشرع مدونة الأسرة الخبرة كوسيلة من وسائل إثبات دعوى الزوجية، وهو الأمر غير الموجود سابقـا.
وبهذا، أصبحت المنظومة القانونية في المغرب تعرف وسائل إثبات قانونية هي تلك المنصوص عليها حصرا في الفصل 404 المشار إليه أعلاه ووسائل الإثبات الشرعية وهي التي نصت عليها قواعد مدونة الأسـرة.
ويتجلى ذلك بالرجوع إلى المادة 156 من مدونة الأسرة التي تتكلم في السطر الأخير منها عن الوسائل، بالتعريف وليس بالنكرة، الشرعية لإثبات النسب، إذ ورد في تلك المسطرة ما يلـي :
“إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع “الوسائل الشرعية في إثبات النسب”.
فجملة “الوسائل الشرعية في إثبات النسب” تعني أن أية وسيلة قانونية نصت عليها مدونة الأسرة لإثبات النسب، هي بقوة القانون وسيلة إثبات شرعية.
وعندما نبحث كيف يمكن إثبات النسب في مدونة الأسرة، سنجد أن الفصل 158 من المدونة قد حدد وحصر تلك الكيفية، إذ ورد فيه ما يلـي :
“يثبت النسب بالفراش أوبإقرار الأب أوشهادة عدلين أوبينة السماع وبكل “الوسائل الأخرى المقررة شرعا بما فيها تلك الخبرة القضائية“.
وهكذا، يتبين أن الخبرة القضائية المأمور بها في إطار مدونة الأسرة أصبحت وسيلة من وسائل الإثبات الشرعية المعتمدة في الإشكالات والخلافات المعروضة أمام القضاء في نطاق مدونة الأسـرة.
+أهليـة أداء ووجــوب جـديـدة :
تجليات التحديث والتجديد في الفكر القانوني تظهر كذلك في اقتحامه لإشكال صعب تخبط فيه القضاء لعقود طويلة يتمثل في اصطدام الزوجة القاصرة مدنيا عند المطالبة بحقوقها أمام القضاء بعدم أهليتها المدنية في إقامة الدعوى في قضايا متعلقة العلاقة الزوجية، مما وجدت معه أوضاع يستعصى استيعابها بين حالة أمره قاصرة مدنيا، أي أقل من سن الرشد القانوني حملت مسؤولية زواج برجل، تحملت بعده تدبير حياة أطفال، لكنها ليس لها الحق في أن ترفع دعوى على زوجها لتطالبه، مثلا، بالنفقة أولنطالب بحقوق أبنائها من أبيهـم.
فكان جواب مدونة الأسرة على هذا الإشكال الصعب، هو سنها لمبدأ أهلية مدنية جديدة للزوجين، كيف ما كان سنهما، ما دام أن مدونة الأسرة حسمت بزواج من هو أوهي أقل من 18 سنة في إطار أحكام المادة 20، في ممارسته حق التقاضي في كل ما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات إذ تنص الفقرة الأولى من المادة 22 من مدونة الأسرة على ما يلـي :
“يكتسب المتزوجان طبقا للمادة 20 أعلاه الأهلية المدنية في ممارسته “حق التقاضي في كل ما يتعلق بآثار عقد الزواج من حقوق والتزامات”.
وهكذا أصبحت للزوجة القاصر أوالزوج القاصر الحق في إقامة دعوى للمطالبة بحق ترتب على عقد الزواج بدون الالتفات إلى توفر سن الرشد المدني، وإنما تتحقق الأهلية في التقاضي بواقعة الزوج وليس ببلوغ سن الرشد القانوني.
+الولايـة نصـا ومفهومـا :
إذا كان من قضية استقطبت حظا كبيرا من النقاش، ذو الطبيعة الدينية والثقافية والقانونية، أوحتى السياسية، فهو ذلك الذي هم إشكالية الولاية في الزواج بالنسبة للمـرأة.
والجواب على سؤال الولاية في الزواج بالنسبة للمرأة هو جواب صعب دينيا وهو جواب صعب مجتمعيـا.
وليس غريبا، ولا غير معروف، شدة الخلاف وتعقده ذلك الذي شغل الرأي العام، وكذا أعضاء اللجنة المختلطة التي شكلت لتهيئ مشاريع التعديلات على قانون الأحوال الشخصية.
ومصدر التعقيد في ذلك النقاش نابع من مبدأ الدونية الذي كان أساسا للتصور الذي كان هو الخلفية الفكرية للنصوص القانونية التي نظمت الولاية في الزواج بالنسبة للمرأة في قانون الأحوال الشخصية، وما ترتب عن ذلك من تحديد للحقوق والواجبات لكل واحد من طرفي عقد الزواج.
وهكذا نلاحظ في قانون الأحوال الشخصية أن القبول بالزواج يجب أن يسمعه العدلين من الولي ولا يسمع من طرف الزوجة مباشرة وإن احتفظ لهذه الأخيرة بموافقتها وكذا بتفويضها للولي في ذلك وفق ما كان ينص عليه الفصل 5 من قانون الأحوال الشخصية الذي ورد فيه ما يلـي :
“1-يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين عدلين سامعين في “مجلس واحد الإيجاب والقبول من الزوج أونائبه ومن الولي بعد موافقة “الزوجة وتفويضها له”.
إن هذا المقتضى الذي وضع قبول الولي على الزوجة شرط صحة في العقد، لم ينحصر أثره في إبرام عقد الزواج وإنما المنظور الفكري للمرأة الذي هيمن عليه التصور بالدونية للمرأة في مقابل الرجل، سنجد آثاره في ترتيب حقوق وواجبات كل من هذه وذاك.
وهكذا، بالرجوع إلى الفصل 35 من قانون الأحوال الشخصية، سنلاحظ أنه نص على حقوق المرأة على الزواج وحصرها فـي :
1-النفقة الشرعية من طعام وكسوة وتمريض وإسكان.
2-العدل والتسوية إذا كان الرجل متزوج بأكثر من واحدة.
3-السماح للزوجة بزيارة أهلها واستزارتهم بالمعـروف.
4-للمرأة حريتها الكاملة في التصرف في مالها دون رقابة الزوج إذ لا ولاية للزوج على مال زوجته.
بينما حصر الفصل 36 من نفس القانون حقوق الرجل على المرأة فـي :
“حقوق الرجل على المـرأة :
“1-صيانة الزوجة نفسها وإحصانها (وهو التزام لا ينص عليه قانون “الأحوال الشخصية بالنسبة للرجل).
“2-طاعة الزوجة لزوجها بالمعروف.
“3-إرضاع أولادها عند الاستطاعة.
“4-الإشراف على البيت وتنظيم شؤونه.
“5-إكرام والدي الزوج وأقاربه بالمعروف”.
وأن أية قراءة للفصلين المشار إليهما أعلاه يتأكد أن التصور النظري الفكري لهما ينطلق من دونية الزوجة للزوج بل من كون الزوجة هي مهيأة لإرضاء حاجيات للزوج.
هذا الوضع القانوني سيعرف تعبيرا يكاد يكون جذريا في التصور النظري والفكري، وبالتالي الديني، لقضية ولاية المرأة في الزواج وسيترتب على هذا التصور الجديد إعادة صياغة للعلاقات المنظمة للحقوق والواجبات لكل من الزوج والزوجة، أي إعادة صياغة قواعد التعامل في المجتمـع.
فمظهر الإيداع الفكري والحقوقي سيتبين في كون مدونة الأسرة لم تلغ مؤسسة الولاية من النسق القانوني، وإنما أبقت عليها وهو ما يظهر واضحا من صياغة المادة 24 التي تتكلم عن الولاية كحق للمـرأة.
غير أن المجهود الفكري لمن شرع لمدونة الأسرة سيظهر في كونه استطاع أن ينقل النقاش حول مؤسسة الولاية، هل تبقى أوتلغى، ويجعله، أي النقاش، ينصب على كيفية التعامل مع مؤسسة الولاية، فالمجهود الفكري المشار إليه أعلاه تجلى في كونه نقل النقاش من دائرة الابقاء على الولاية أوإلغائها، إلى دائرة أخرى حصرت في كيفية ممارسة مؤسسة الولاية، وهكذا تم تحويل النقاش الذي كان يدور حول إلغاء الولاية إلى نقاش حول كيفية ممارسة تلك الولاية.
ومن المفيد الإشارة إلى أن مدونة الأسرة لم تلغ الولاية على المرأة، وإنما إعادة صياغة كيفية ممارسة المرأة لتلك الولاية، ومما يؤكد ذلك هو أن المدونة لا توجد بها أية مادة تقول بأن الولاية حق للرجل، يمارسها بنفسه، وإنما هذه القاعدة تضمنتها فقط المادة 25 من المدونة، وأتت لصيغة وخاصة بالمرأة وحدها.
غير أن التقدم الذي سجلته مدونة الأسرة تجلى في الإبداع الفكري الذي استطاع أن يوفق بين مؤسسة الولاية للمرأة من جهة، وبين تحقيق مبدأ المساواة من جهة ثانية واسترجاع الثقة في المرأة من جهة ثالثة.
وهكذا، فإن مدونة الأسرة وإن أبقت على القاعدة القائلة بالولاية بالنسبة للمرأة، إلا أن التقدم سجل في كيفية التعامل مع هذه الولاية، هل سيتم الإبقاء عليها بالشكل الذي نص عليه قانون الأحوال الشخصية، أم أننا سننتقل بها إلى مرحلة أخرى ووضع قانوني آخـر؟.
وأعتقد أن نجاح الفكر القانوني المؤسس لمدونة الأسرة تجلى في الطريقة التي عالج بها هذه الإشكالية الدينية والثقافية والمجتمعية، وذلك عندما أبقى على الولاية بالنسبة للمرأة وسعيا منه لتدقيق تلك المعالجة فضل تناولها في مادتين، الأولى وهي المادة 24 والثانية وهي المادة 25.
وبالرجوع إلى المادة 24، نجد أن المشرع يقر بالإبقاء على مؤسسة الولاية، وذلك بالنص عليها بالتعريف أي أنها “الولاية” أي أنها قائمة وباقية بالنسبة للمرأة إذ نصت المادة المذكورة على ما يلـي :
“الولاية حق للمرأة تمارسه الرشيدة حسب اختبارها ومصلحتها”.
إن قراءة تلك المادة توضح أن المشرع أبقى على مؤسسة الولاية بالنسبة للمرأة، لكنه تدخل في إطار المعالجة المشار إليها أعلاه على مستويين :
المستوى الأول : عندما اعتبر الولاية حق للمرأة وليس واجبا عليها، وبذلك أسقط من جانب الصياغة كلمة الولاية على المرأة إذ أن هذه الصيغة التي تفيد الواجب لا وجود لها في المدونة، بعد أن اعتبر أن الولاية لم تبق واجبا من واجبات المرأة، وإنما أصبحت حقـا.
المستوى الثاني : هو أن مدونة الأسرة نصت على أن ممارسة المرأة للحق في الولاية، وليس للولاية نفسها، وذلك بالنص صراحة على إمكانية أن تعقد الرشيدة زواجها بنفسها.
فالتقدم الحاصل في التصور الفكري لمفهوم الولاية ستترجمه المادة 25 من مدونة الأسرة التي نصت على ما يلـي :
“للرشيدة أن تعقد زواجها بنفسهـا……..”.
وتظهر قيمة ذلك التطور عندما نعود إلى الفصل 12 من قانون الأحوال الشخصية في صيغته بعد تعديل 1993، والذي ورد فيه :
“1-الولاية حق للمرأة فلا يعقد عليها الولي إلا بتفويض من المرأة على “ذلك إلا في حالة الإجبار المنصوص عليها فيما يلي.
“2-لا تباشر المرأة العقد ولكن تفوض لوليها أن يعقد عليها”.
وهكذا يتضح التطور الذي عرفه الفكر المؤسس لمدونة الأسرة في تعامله مع إشكالية صعبة دينيا وصعبة مجتمعيا وبالتالي صعبة ثقافيـا.
+الصـداق دين لا يتقـادم :
أقرت المدونة نوعا من الأحكام المتعلقة بالصداق في مرحلة الخطبة وهو ما نصت عليه المادة 9 أوأحكام تتعلق بمرحلة الزواج.
وأنه إذا ما أعطت مدونة الأسرة للورثة استرجاع الصداق المقدم في مرحلة الخطبة، فإن هذه المدونة اعتبرت أن الصداق الذي لم تطالب به الزوجة قبل الدخول بها، ترفع عنه الصفة القانونية كصداق وتصبح له الصفة القانونية للدين، إذ تنص الفقرة الأخيرة من المادة 31 على ما يلـي :
“إذا وقعت المعاشرة الزوجية قبل الأداء، أصبح الصداق دينا في ذمة “الـزوج”.
غير أن المدونة لم تضف على الصداق، باعتباره دين، الطابع المدني في الالتزامات، وإنما احتفظت له بطابعه الخاص وطابعه الرمزي وقيمته المعنوية المنصوص عليها في المادة 26، تلك المادة التي رفعت عن الصداق طابعه المادي.
وأن تأكيد المدونة على خصوصية هذا النوع من الدين هو الذي دفعها إلى استثنائه من التقادم باعتبار أن آلية التقادم هي آلية لإسقاط المطالبة بالحقوق عند عدم القيام بها داخل أجل محدد.
وهكذا اعتبرت المدونة على أن الصداق، وإن كان دينا، فإنه لا يسقط التقادم، إذ تنص الفقرة الأخيرة من المادة 32 على ما يلي :
“لا يخضع الصداق لأي تقـادم”.
+الانتقال من مبدأ الإباحة في التعدد إلى مبدأ المنع فيـه :
كان من مظاهر نجاح الفكر المؤسس لمدونة الأسرة في معالجة القضايا الكبرى التي كانت تطرحها إشكالية العلاقة الزوجية هو الطريقة التي عالج بها قضية أريد لها أن تكون قضية كبرى وهي قضية التعدد.
من المفيد الإشارة أن قضية مجتمعية ما تظهر كمشكلة عندما يتعدد المعنيون بها بشكل ملفت للنظر، وهو الأمر الذي لم ترق له إشكالية التعدد، إذ أن الرجال الذين يبادرون إلى التعدد هو في تناقص متزايد، ليس بسبب عدم توفر العدل بين الزوجات، وإنما بسبب الضغط المادي من جهة والتحول الثقافي الذي يعرفه المجتمع المغربي من جهة أخرى.
وكما تمت الإشارة إلى ذلك أعلاه، فإن تلك المعالجة نجحت عندما توفقت في استحضار عدم نفيها أوإلغائها لمبدأ التعدد كما هو منصوص عليها شرعا أي كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم، من جهة ووضعها لقيود قانونيا من أجل ترجمة ما ورد في القرآن الكريم من قيود عندما نص على : “ولن تستطيعوا أن تعدلوا” من جهة أخرى.
إن المجهود الفكري والتنظيري لمعالجة هذه القضية تجلى في كون المدونة أبقت على مبدأ التعدد في عدده المنصوص عليه في القرآن وهو أربعة، ويظهر ذلك من الفقرة 2 من المادة 39 من المدونة التي تتكلم على موانع الزواج الموقتة، إذ ورد فيها الزيادة في الزوجات على العدد المسموح به شرعـا.
وهنا اختارت المدونة أعمال آلية اللغة كوسيلة من الوسائل الأخرى لمعالجة بعض القضايا الصعبة التي تطرحها العلاقات الزوجية وفي قضية التعدد، مثلا، ويتبين ذلك من كون الفقرة المشار إليها أعلاه أقرت :
أولا : بمبدأ التعـدد
ثانيا : بكون عدد الزوجات هو 4 وهو المسموح بها شرعـا.
فمن جانب المبدأ، لم تلغ المدونة التعدد من جهة ولم تنقص من العدد المحدد شرعا من جهة ثانيـة.
لكن الفكر المؤسس للمدونة اشتغل في الشق الثاني للنص القرآني، والذي ورد فيه “ولن تستطيعوا أن تعدلوا” وذلك بعدما ربط التعدد بتوفر العـدل.
وهذا الاشتغال الذي سينتهي به إلى قلب، عند التطبيق، مبدأ اعتبار التعدد هو الأصل ليصبح هو الاستثناء.
وبالفعل، فعندما نعود إلى الفصل 30 من قانون الأحوال الشخصية نجده كان يعتبر أن الأصل هو التعدد، لهذا اختار الفصل المذكور صيغة قانونية تؤكد على ذلك المبدأ، إذ ورد في ذلك الفصل ما يلـي :
“1-إذ خيف عدم القبول بين الزوجات لم يجز التعـدد.
“2-للمتزوج عليها إذا لم تكن اشترطت الخيار أن ترفع أمرها للقاضي لينظر “في الضرر الحاصل لها”.
وأنه يظهر من هذا الفصل أن مشرع قانون الأحوال الشخصية كان يعتبر أن التعدد، وهو في أصله حق للرجل لا تملك الزوجة منعه من ممارسته.
وبالفعل، فإن الزوجة الأولى لا تملك منع زوجها من زواجه عنها، وإنما انحصر حقها في المطالبة بعرض الضرر الذي لحقها من الزواج على القضاء وبذلك أسند الأمر للقاضي بعد إثبات الزوجة الأولى للضرر أن يقرر ما يراه مناسبا من إجراءات وليس بالضرورة منع الزوجة من التعدد ولاتطليق الزوجة الأولى
بينما التحول الذي ستشهده مدونة الأسرة هو نقلها لحق ممارسة التعدد من الزوج إلى المحكمة أي أنه لم يبق الحق في التعدد يمارسه الزوج بكل حرية، وإنما أصبحت ممارسة ذلك الحق الشرعي مرهونا بموافقة المحكمة، علما أن مدونة الأسرة انطلقت، في قضية التعدد، من مبدأ المنع خلافا لقانون الأحوال الشخصية، ويتجلى مبدأ المنع ذاك من الصيغة التي كتبت بها المادة 41 من المدونة، إذ ورد في الفقرة الأولى فيها ما يلـي :
” لا تـأذن المحكمة بالتعـدد”.
وهكذا نرى التطور الذي عرفت معالجة قضية التعدد، فالمدونة نقلت ممارسة التعدد :
-من حق للزوج إلى حق للمحكمة.
-من مبدأ الإباحة إلى مبدأ المنـع.
وحرصا من مدونة الأسرة أن لا تخرج ممارسة التعدد من سلطة الزوج وتسقطه في سلطة المحكمة، حددت لهذه الأخيرة شروطا تكاد تكون صعبة، لا بد من توفرها للإذن بالتعدد، تلك الشروط التي نصت عليها الفقرتين 2 و3 من المادة 41 واللتين ورد فيهما ما يلـي :
“لا تأذن المحكمة بالتعـدد إلا :
“-إذا لم يثبت لها المبرر الموضوعة الاستثنائي.
“-إذا لم يكن لطالبه الموارد الكافية لإعالة الأسرتين وضمان جميع “الحقوق من “نفقة وإسكان ومساواة في جميع أوجه الحياة”.
وأنه يظهر من الفقرة الثانية للمادة المذكورة أن التعدد لا يأذن به إلا إذا كان هناك مبرر موضوعي واستثنائي، لكن، المهم هو أن المدونة نقلت عبء إثبات تحقق ذلك المبرر إلى الزوج إذ أن الفقرة الثانية كتبت بصياغة “النفي” إذا لم يثبت…..” مؤكدا بذلك مبدأ المنع في التعـدد.
غير أن ما يشد النظر في المادة 41 هو كلمة “الأسرتين” الواردة في الفقرة الثالثة من تلك المادة، هذه الكلمة التي فهمت أن إذن المحكمة إذا ما توفرت شروطه، لا يمكن أن يتجاوز الإذن بالزوجة الثانية فقط أي أن التعدد المسموح به شرعا، لا يكون مسموحا به فعلا، نظرا لعدم تحقق شرط العدل المطلوب شرعـا.
وأن ما يؤكد أن المشرع اتجه نحو المنع المبدئي للتعدد يتجلى مرة أخرى في صياغة المادة المتعلقة بالإرث تلك المادة التي تتحدث عن أصحاب فرض الربع، إذ ورد فيهـا :
أصحاب الربـع إثنـان :
1-الزوج إذا وجد وارث للزوجـة.
2-الزوجة إذا لم يكن للزوج فرع وارث.
فهذه الصيغة أسقطت تصور كون الزوج قد يترك بعد موته زوجتان.
ومما يدفع إلى هذا الفهم، هو أن مشرع مدونة الأسرة استعمل الصيغة التي تفيد تعدد وجود المرأة، بصفة عامة، أخت كانت أوبنت، عندما استعمل عبارة “يشترط انفرادها” وهو يتحدث في المادة 345 عن بنتا الابن أوالشقيقتان أوالاختان للأب.
وأكد مشرع المدونة هذا الفهم في المادة 346 في الفقرة 2 التي نص فيها على “المتعدد من الأخوة”.
أو كما أكد مشرع المدونة على نفس التفسير في المادة 347 عندما نص على “بنت الابن ولو تعددت….”.
وأنه يظهر أن إبقاء المادة 343 على الحالة التي فيها ناتج إما عند تصور بكون التعدد آيل إلى الاختفاء، وإنما أن الأمر يتعلق بخطأ يجب تداركـه، بينما هذه العبارة لا وجود لها في المـادة.
فهل كان غرض مشرع ومحرر مشروع المدونة هو القطع مع التعدد، لذلك أسقطه من فكره عند تحريره للمادة المشار إليها أعلاه؟.
وبهذا يمكن القول بأن الفكر المؤسس للمدونة نجح في معالجة إشكالية التعدد، دون تخليه على المبادئ الشرعية، ولكن بتصرفه في شروط ذلك التعدد من داخل جوهر الشرع نفسه.
+حق الزوجة عند الطـلاق في المال المكتسـب :
أحدث الفكر القانوني المؤسس لمدونة قاعدة جديدة في النسق القانوني والمنظومة القانونية في المغرب، وإن وجدت كممارسة في بعض الجهات في المغرب من جهة، كما أثبتها الاجتهاد القضائي في حالات معينة من جهة أخرى، ألا وهي حق الزوجة عند الطلاق في المال المكتسب في فترة الزواج.
لقد كانت هذه القضية من بين أهم القضايا التي اهتم بها النقاش الفكري والثقافي والديني بمناسبة طرح مدونة الأسرة، فلقد استطاعت المدونة أن تجيب من حيث المبدأ، على سؤال أحقية الزوجة في مال زوجها بعد الطـلاق.
إن الآراء حول هذه القضية توزعت ما بين من يطالب للزوجة بنصف مال الزوج عند الطلاق، كما هو الحال في بعض الدول الغربية، وبين من يطالب بالإبقاء على الوضع القائم كما هو، انطلاقا من أسباب ثقافية وأحيانا تبريرات ذات حمولة دينيـة.
ولئن كان النقاش الذي دار في البرلمان حول هذه القضية الشائكة نقاشا حادا وصريحا وهدد في إحدى مراحله بنسق جميع الجهود المبذولة لإخراج هذا المستجد المنصف والعادل للوجود، فإن المسؤولية العالية التي تحلى بها الجميع، وخصوصا من كان يدافع عن الرأي الأول المشار إليه أعلاه ساعد على الوصول إلى صياغة يمكن أن نصفها بالمهمة.
إن مبررات ذلك النقاش-الجدل فرضها وضعية بعض الزوجات اللواتي يبذلن سواء في العمل في بيت الزوجية أوخارجه، جهدا متواصل لبناء ثروة تكون في أغلب الأحيان في اسم الزوج، فيجدن أنفسهن بعد الطلاق، وفي سن متقدمة جدا بدون أي مورد للعيش.
ومعالجة لهذا الواقع المر أحدثت المدونة القاعدة أوالمنظومة القانونية المنصوص عليها في المادة 49 والتي اعتبرت جوابا على الإشكال المشار إليه أعلاه.
ولهذا، فقراءة المادة 49 المذكورة حسمت المشكل مستقبلا، عندما أعطت للزوجين الحق في الاتفاق في وثيقة مستقلة على عقد الزواج على كيفية استثمار الأموال المكتسبة في فترة الزواج وعلى كيفية توزيعها.
غير أن السؤال الذي طرح أثناء المناقشة والتداول بخصوص هذه المادة هو هل ستطبق هذه القاعدة بأثر رجعي، أي هل ستهم جميع عقود الزواج المبرمة قبل صدور مدونة الأسرة أم أنها لن تهم إلا عقود الزواج التي ستنجز بعد دخول المدونة حيز التنفيذ.
من المفيد الإشارة إلى أن مبدأ عدم رجعية القانون هو مبدأ يخص قوانين الموضوع ولا ينطبق على القواعد الإجرائية المسطرية وبالتالي فإن طبيعة القواعد القانونية المكونة للمدونة تطرح التساؤل التالي، هل تلك القواعد هي قواعد قانونية موضوعية أم هي قواعد قانونية إجرائيـة.
إذا كانت قواعد المدونة قوانين قانونية موضوعية، فإنها لن تطبق على عقود الزواج التي أبرمت قبلها، وإذا كانت قواعدها قواعد قانونية مسطرية إجرائية، فإنه لا مانع دستوري أن تطبق على جميع العقود الزواج السابقة على دخول المدونة حيز التنفيذ.
وفي تقديري، فإن مدونة الأسرة تجمع ما بين القواعد القانونية الموضوعية من جهة والقواعد القانونية الإجرائية من جهة أخرى، ويتعين والحالة تلك، فحص كل مقتضى من مقتضياته لكي تتبين الطبيعة القانونية لتلك المقتضيات.
وبخصوص المادة 49 المتحدث عنها، فإن الذي يطرح التساؤل ليس الفقرات الثلاثة الأولى منها وإنما الفقرة الرابعة التي تنص على ما يلي :
“إذا لم يكن هناك اتفاق فيرجع للقواعد العامة للإثبات مع مراعاة عمل “كل واحد من الزوجين وما قدمه من مجهودات وما تحمله من أعباء “لتنمية أموال الأسرة”.
إن هذه الفقرة أحدثت برغبة من المشرع لتجاوز الحالة التي قد لا تقوم الزوجة بإبرام الاتفاق المشار إليه في الفقرة الثالثة من نفس المادة بسبب من الأسباب، أي أن المشرع اعتبر أن مبدأ توزيع المال المكتسب في فترة الزواج هو مبدأ قانوني، وليس اتفاق، أي أن الاتفاق لا ينصب على المبدأ وإنما ينصب على تدبيره، لهذا نصت المادة 49 أنه في غياب اتفاق على توزيع الأموال يتدخل القضاء للقيام بذلك.
إن هذه الصيغة استعملت لحماية المرأة التي قد تخاف من أن تطالب، عند إبرام عقد الزواج، من زوج المستقبل بأن يتفق معها كيف سيتم تقسيم الثروة التي ستخلق في فترة الزواج أولا تجرأ على إثارة هذه القضية في يوم، هو يوم حفل وفرح وثقة، وليس يوم تشكك ومحاسبة.
ووعيا من المشرع بهذا الوضع النفسي للزوجة، استعمل اللغة، أي الصياغة القانونية لكي يقر أمريـن :
الأول : وهو أن مبدأ الاتفاق لا يعني مبدأ توزيع الثروة، وإنما الاتفاق يكون حول الكيفية التي سيتم بها ذلك التوزيع.
وأن هذا يفهم منه أن حق الزوجة في اقتسام الثروة بعد الطلاق لا يمكن أن يتم الاتفاق على الغائه وهذا يظهر جليا من سن المشرع للفقرة الرابعة المشار إليها، فتلك الفقرة أتت لتؤكد حق الزوجة في الثروة المكتسبة في فترة الزواج عندما لا يوجد اتفاق مكتوب بذلك قبل الـزواج.
الثانـي : وهو أن ذلك الاتفاق ليس شرطا في عقد الزواج ولا يجب أن يكون متلازما مع إبرامه، وإنما يمكن القيام به إما قبل الزواج أوبعده، لهذا نصت المادة 49 على أن ذلك الاتفاق يتم بواسطة وثيقة مستقلة عن عقد الزواج
غير أن جدة المبدأ وتشعب الاشكال الذي يطرحه دفعت بالفكر المؤسس للمدونة أن لا يغرق في التفاصيل وترك مجالا واسعا للقضاء ليقرر في قضايا متفرعة على المبدأ مثل :
-مفهوم استثمار الأموال، هل يعني ذلك المشاركة الفعلية والمباشرة للزوجة في عملية الاستثمار أم يكفيها الانشغال بالبيت والأطفال والعناية بحاجيات الزوج ليتحقق مفهوم الاستثمار، وكذا ما تعنيه كلمة الأعباء الواردة في الفقرة الأخيرة في المادة المذكورة.
-نسبة التوزيع هل هي مناصفة وإذا لم يكن كذلك، فما هي نسبة الزوجة، وما هو المعيار في تحديدها في أقل أوأكثر من النصف
إن كل هذه القضايا تركت للقضاء ليجتهد فيها، علما أن الاجتهاد هو نفسه حددت له المدونة الإطار الذي لا يجب أن يخرج عنه إذ عرفت الاجتهاد بكونه ذلك الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة بالمعروف، وهو الأمر الذي أكدت عليه المادة 400 من المدونـة.
+المسؤولية المشتركة للزوجيـن :
لقد كانت من مستجدات القواعد القانونية التي سنتها المدونة، هي إقرارها لمبدأ المسؤولية المشتركة للزوجين ، تلك المسؤولية التي وقع النص عليها في المادة 51 من مدونة الأسرة.
ولإن كانت قراءة تلك المادة قد لايظهر منها أنها قدمت شيئا ما للمرأة، إلا أنه عند مقابلة مقتضيات تلك المادة مع ما كانت تتضمنه المواد 34 و 35 و 36 عن قانون الأحوال الشخصية سنستبين التحول الكبير الذي أحدثة المدونة في علاقة الزوج مع زوجته. وبالفعل فإنه بالرجوع إلى قانون الأحوال الشخصية نجده نص في الفصل 34 على الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوج وزوجته وهي أربعة : إثنان منها حقوق شرعية كلية لا نقاش حولها وحقا هو أقرب للتعبير عن النوايا من النص على حقوق فعلية.
كما نص الفصل 35 على حقوق المرأة على زوجها وهي حقوق مرتبطة بالاطعام والكسوة والتمريض والاسكان، بل والسماح للزوجة بزيارة أهلها، فيما نص الفصل 36 على حقوق الزوج على زوجته والتي يظهر فيها التبعية المطلقة لهذه الأخيرة لزوجها، بل نصت المادة على مبدأ طاعة الزوجة لزوجها.
لكنه عند قراءة المادة 51 وما تضمنته من مقتضيات سنلاحظ التحول الكبير في صياغة العلاقة بين الزوج وزوجته، حيث اختفت كلمة “الطاعة” والتي كانت محل إنقاذ كبير من جميع الجمعيات النسائية بكل مشاربها.
إن المادة 51 فيها إعادة صياغة العلاقات الأسرية بين كل من المراة والرجل وجعلت مبدأ المساواة بينهما يدخل حيز التطبيق الفعلي.
+ولاية القضاء على الزواج والطلاق :
عندما تمت الاشارة سابق إلى أن الفكر الذي أسس هذه الدولة اعتمد على مقومات الفكر الحقوقي الحداثي، كان القصد من ذلك هو إعماله لقواعد تدبير جديدة معتمدا على مفهوم الدولة الحديثة الذي يعتبر دولة الحق والقانون، ودولة المؤسسات هو الشكل الشرعي للمدونة، أي الشكل الذي يعطي للدولة مشروعيتها اتجاه المجتمع.
لهذا سيترجم هذا المبدأ فعليا في مدونة الأسرة، عندما ستناط بمؤسسة القضاء مهمة كبيرة جدا يمكن تلخيصها في ولاية القضاء على إبرام عقد الزواج وانقضائه.
وبالفعل فإن من المعلوم أن إبرام عقد الزواج كان عملا فرديا, أي مبادرة من الزوج قبولا من ولي الزوجة، يتم توثيقه لدى عدلين، أي أن مؤسسات الدولة لم تكن طرفا في هذه العملية، ولم تكن تتدخل إلا بعد إبرام عقد الزواج عن طرق تأشيرة قاضي التوثيق على عقد الزواج.
أما اليوم، فإن مدونة الأسرة نصت على قاعدة جديدة مفادها إحداث ملف لعقد الزواج، كما تنص على تلك المادة 67 من مدونة الأسرة.
بل أكثر من ذلك، فلقد أصدرت مدونة الأسرة قاعدة جديدة تم بمقتضاها تحديد، بصفة قانونية، لمضمون عقد الزواج وهو الأمر المنصوص عليه في المادة 67 من المدونة.
إن قراءة للمادة 67 المذكورة تبين حرص مشروع المدونة على إظهار شفافية تكاد تكون كاملة حول وضعية وحقوق كلا الطرفين.
وقد شد الانتباه أكثر ما نصت عليه الفقرة رقم 8 من تلك المادة، والتي تشير إلى ضرورة أن يتضمن عقد الزواج الشروط المتفق عنها.
إن هذا المقتضى كان الغرض منه هو تجاوز ظروف المجاملة والتي تطبع مناسبة عقد الزواج والتي قد تؤدي إلى استحياء أو تساهل الزوجة في المطالبة بحقوق تضمنها لها المدونة مثل، حقها في اشتراط عدم التعدد، حقها في التمليك، حقها في المطالبة بوضع اتفاق حول تدبير الأموال المكتسبة خلال فترة الزواج.
وحتى ينقل مشروع المدونة هذه الحقوق من حقوق شخصية للزوجة إلى حقوق عامة تضمن استمرار الأسرة في شفافية ووضوح وتكون مبنية على قواعد واضحة، إلزام أن يتضمن عقد الزواج الشروط المتفق عليها.
وكلمة المتفق عليها، تعني بطبيعة الحال إبعاد ما لم يتفق عليه وبالتالي عدم إمكانية الاحتجاج به سواء من طرف الزوج أو الزوجة.
وإلى جانب ذلك، تضمنت المادة 67 المذكورة تفويضا للتشريع من البرلمان إلى الحكومة في شخص وزير العدل وذلك عندما رخصت لهذا الأخير أن يعين الشروط المنصوص عليها في تلك المادة.
وأن ما يدفعنا إلى القول بأن تلك المادة تتضمن تفويضا للتشريع من طرف البرلمان للحكومة هو أن شروط المادة المذكورة نصت عليها المادة المذكورة، أي دخلت في مجال التشريع، فمن المفروض دستوريا أن أي تغيير قد يطرأ عليها لا بد فيه من الرجوع إلى البرلمان.
لكن، عندما أدنت المادة المذكورة لوزير العدل، أي للحكومة، أن تعدل تلك الشروط، فإن ذلك يقر على أن السلطة التشريعية فوضت، في هذا الجانب، للحكومة أن تغير نصا تشريعيا لوسائل تنظيمية وليس بنص تشريعي.
لكن من المفيد الإشارة إلى أن تقنية التفويض هذه مارسها البرلمان في عدة قوانين أخرى، وعيا منه بتسهيل تدبير بعض الحالات المعينة التي لا تمس فيها حقوق الأفراد والجماعات.
+المنع المبدئي لحل ميثاق الزوجـية :
إذا كان قانون الأحوال الشخصية اعتبر أن الطلاق هو تصرف مشروع للزوج بانفراد من إرادته لا يسائله فيه أي أحد، بل وجعل محله هو المرأة، كما ينص على ذلك الفصل 45 من قانون الأحوال الشخصية، أي أن رأيها ليس له أي اعتبار، فإن التحول الذي أحدثته المدونة هو مراجعتها لهذا الحق المطلق للزوج وتغيير جوهري في منهجية وطريقة استعماله تجلى ذلك في نصها على المنع المبدئي بحل ميثاق الزوجية خلافا لما كان عليه الأمر في قانون الأحوال الشخصية.
وبالفعل فإن المادة 70 من مدونة الأسرة نصت على أن حل ميثاق الزوجية ما هو إلا استثناء وفي حدود الأخذ بقاعدة أخف الضرر به.
وأن المشرع عندما نص على هذه المادة يكون قد حث على مبدأ المسؤولية في حل ميثاق الزوجية، أي إقرار مبدأ التعويض في حالة التسبب في الضرر لأحد من الزوجين من طرف الآخر.
كما أن المدونة لم تبق على المبدأ الذي كان يضع المرأة محلا للطلاق، كما كان الشأن في الفصل 45 من قانون الأحوال الشخصية، وإنما طبقت مبدأ المساواة المتحدث عنه أعلاه عندما أحدثت القاعدة المنصوص عليها في المادة 78 والتي جعلت ممارسة الطلاق حق يمارسه الزوج أو الزوجة كل حسب شروطه وتحت مراقبة القضاء.
إن قاعدة مراقبة القضاء لحل ميثاق الزوجية سواء كانت المبادرة من طرف الزوج أو الزوجة هو ما ميز القواعد القانونية للمدونة عن تلك التي كان ينص عليها قانون الأحوال الشخصية وهو ما يؤكد طابع التجديد في القواعد القانونية وفي النسق القانوني في المغرب.
وهكذا سنلاحظ أن المدونة أوجبت على كل من يريد الطلاق، وبدون تمييز، أي سواء كان الأمر يتعلق بالزوج أو الزوجة، أن يطلب الإذن من المحكمة.
بل إن المدونة ذهبت إلى أكثر من ذلك عندما سنت مسطرة خاصة لا بد من المرور بها عند الرغبة في حل ميثاق الزوجية، تلك المسطرة التي تبدأ بالإجراءات المنصوص عليها في المادة 81 و82 و83 و84 و85 و86 ولا تأذن المحكمة بالطلاق إلا بعد استيفاء جميع تلك الإجراءات.
وهكذا أصبح الزوج الذي يريد أن يطلق زوجته ملزم باستكمال الإجراءات المنصوص عليها في تلك الفصول وأداء المستحقات المحددة فيها.
+الطلاق بالاتفاق :
أقرت المدونة وسيلة أخرى من وسائل حل ميثاق الزوجية، وهي وسيلة اتفاقية إن تم بعد اتفاق الزوج والزوجة على حل ميثاق الزوجة، فيتقدم أحدهما بطلب للتطليق لكنه يكون مرفق بذلك الاتفاق.
غير أن المادة التي تضمنت هذه الحالة وضعت فيها شرط جعلته من النظام العام ولا يمكن الاتفاق عليه، وكان هذا الشرط هو مبرر تدخل المحكمة في هذا النوع من حل ميثاق الزوجية، والشرط المقصود، هو عدم الإضرار بمصالح الأطفال.
لذا، عندما يقال بأن مدونة الأسرة أتت لتهتم ليست فقط بحقوق المرأة وحدها، وإنما بحقوق الأسرة بكاملها زوج وزوجة وأطفال، فلأن قواعده متعددة همت ما هو في حكم الحقوق الواجب ضمانها للأطفال، وحالة المادة 114 المتحدث عنها أعلاه معبرة على ذلك الاتجـاه.
*إلغاء حق الزوج في مراجعة زوجته إذا لم تقبل هي ذلك :
من القواعد التي كان ينص عليها الفصل 68 من قانون الأحوال الشخصية، هو حق الزوج في إرجاع زوجته داخل أمد العدة وهو ما يعرف بالطلاق الرجعي بدون رضاها وأحيانا يتم ذلك بدون علمهـا.
وأنه بقراءة للفصل 68 المذكور، سيلاحظ أن الزوجة داخل العدة، لم يكن لها أن ترفض الرجوع إلى زوجها، أي أن سلطة الزوج على زوجته تمتد، حتى بعد طلاقها، داخل فترة العدة.
غير أن مدونة الأسرة، وتفعيلا منها لمبدأ المساواة من جهة، وكون حل ميثاق الزوجية هو حق للزوج والزوجة على السواء، دفع بها إلى إقرار قاعدة جديدة مفادها الحد من الحق المطلق للزوج في إرجاع زوجته أثناء فترة العـدة.
إذ أن المادة 124 من مدونة الأسرة لم تبق على الحق المطلق للزوج في إرجاع زوجته بدون أية شروط، وجعلت ذلك الحق موقوف على معرفة رأي الزوجة، والتي أعطتها المادة الحق في حالة رفضها الرجوع لزوجها، أن تسلك مسطرة الشقاق، أي المسطرة التي تنتهي بتطليق الزوجة.
إن هذا التحول ذو أهمية بالغة، تلك الأهمية التي نلامسها في تفعيلها لمبدأ المساواة بين الزوج والزوجة، وهي الرغبة في الحد من شطط الزوج ورغبته في التنكيل بزوجتـه.
فهذه القاعدة هي اعمال ذكي للقاعدة الشرعية “أن الطلاق أبغض الحلال عند الله سبحانه وتعالـى”.
فهذه القاعدة كان الغرض منها هو تنبيه الزوج إلى أنه عندما يريد أن يطلق عليه أن لا يأخذ هذا القرار إلا في الحالات التي تستحيل فيها استمرار العشرة، وهذه الاستحالة تتنافى مع سرعة التراجع عن الطلاق خصوصا وأنه لوحظ على بعض الازواج أن ممارسة لحق الرجعة لا يتم برغبة في تدارك خطأ ارتكبه وإنما برغبة في الزيادة بالتنكيل بالزوجـة.
*المساواة في الأثر لحكم التطليق مع الطـلاق :
من المعلوم أن الحكم بالتطليق الذي كانت تصدره المحاكم بطلب من الزوجة، كان حكما ابتدائيا يكون قابلا للاستئناف من طرف الزوج، وبل وقابلا للطعن بالنقض من طرفه بل وأكثر من ذلك فإن طلب النقض موقف لتنفيذ الحكم بالطلاق.
وأن ذلك كان يعني أن الزوجة التي تحصل على حكم ابتدائي بالطلاق عليها أن تنتظر أن يصبح ذلك الحكم باتا، أي مؤيدا بقرار صادر عن المجلس الأعلى، آنذاك يمكنها أن تتحلل بصفة نهائية من علاقة الزوجية.
ومن غير الضروري الإشارة إلى ماذا يعني ذلك من الأم وظلم بالنسبة للزوجة، والتي عليها أن تنتظره مدة سنين، بعد حصولها على حكم ابتدائي، لتتحلل فعليا من علاقة الزوج الذي حكم القاضي الابتدائي بطلاقها منه، علما أن أثناء تلك الفترة، أي الفترة الفاصلة بين الحكم الابتدائي القاضي بالتطليق وصدور قرار من المجلس الأعلى تبقى الزوجة التي حصلت على ذلك الحكم، في نفس الوضعية القانونية للزوجة التي لازالت في ارتباط مع الزوج بجميع الالتزامات المعنوية والمادية أي تبقى متحملة لجميع واجبات الزوجية اتجاه زوجها الذي يوجد بين يديها حكم قضى بتطليقها منه.
غير أن مدونة الأسرة ستحدث تغييرا جدريا في هذه الوضعية، وذلك عندما لم تكتف بكون الحكم الصادر بالتطليق سيكون مشمولا بالنفاذ المعجل كما طالب بذلك البعض، دون استحضار المشاكل القانونية والتطبيقية التي تنتج عن القبول بهذا الأمر، بل ذهبت المدونة إلى حد الحسم في هذا النوع من الأحكام عندما اعتبرها غير قابلة لأي شكل من أشكال الطعن، إذ تنص الفقرة الأولى من المادة 128 على ما يلي :
“المقررات القضائية الصادرة بالتطليق أوبالخلع أوبالفسخ طبقا لأحكام “هذا الكتاب، تكون غير قابلة لأي طعن في جزئها القاضي بإنهاء العلاقة “الزوجية”.
إن هذا الانتقال بهذه الأحكام من كونها كانت تخضع لجميع أوجه الطعن العادية أوغير العادية، إلى جعل الحكم الابتدائي وحده فاصلا في الحسم في طلب التطليق أكد هو بدوره طبيعة الفكر المؤسس للمدونة وهو الفكر الذي ينحى إلى إعادة صياغة العلاقة الزوجية من داخل فكر المساواة.
ذلك أنه إذا كان الزوج عندما يقرر طلاق زوجته، فإنه لا يوجد أي نص قانوني يمنعه من ذلك، أويؤجل تنفيذه لذلك الطلاق وأن مقتضيات المدونة إنما اشترطت على الزوج سلوك إجراءات قضائية معينة، ليس من شأنها أن تحرمه من حقه في الطلاق، فإن المدونة مقابل هذا الحق المطلق للزوج مكنت الزوجة، هي كذلك، أن تصل إلى التطليق عندما تقرر هي كذلك بنفسها عن طريق مسطرة الشقـاق.
وإن كانت المدونة قد نجحت في صياغة قواعد قانونية تترجم مبدأ المساواة بين الزوج والزوجة فإنها نجحت بدرجة كبيرة فيما يخص تطبيقه على الحق في فسخ علاقة الزواج سواء من طرف الزوج أوالزوجـة.
ذلك، أن الزوج عندما يقرر فسخ علاقة الزوجية، سيلتجئ للطلاق باعتباره حق له ولا يلزم إلا سلوك مسطرة إجرائة شكلية لتوصله إلى توثيق ذلك الطلاق.
وعندما نقرأ المادة 94 وما بعدها والفصل 128 من مدونة الأسرة، سنلاحظ أن هذه الأخيرة أثبتت للزوجة نفس الحق، أي الحق في فسخ علاقة الزوجية عندما تقرر ذلك.
وبالفعل، فإن مسطرة الشقاق هي إيداع فكري وقانوني يعطي للزوجة افتكاك من علاقة زوجية لم تعد ترغب في البقاء عليها بإرادة منها دون أن تكون ملزمة بانتظار موافقة زوجها أوحتى أن تكون ملزمة بأن تؤدي له شيئا ما، كما هو الحال في الخلع مثلا.
لكن، ما هو مهم وجديد في تلك المسطرة هو ما ورد في الفقرة الأخيرة من المادة 94 التي تنص على أن دعوى الشقاق يفصل فيها في أجل لا تتجاوز ستة أشهر.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك كون الحكم الذي ستصدره المحكمة في نهاية تلك المسطرة هو حكم بالتطليق، فإن ذلك الحكم يجب أن يقرأ في ظل المادة 128، أي أنه حكم غير قابل لأي طعن.
فالنتيجة التي انتهى إليها الفكر المؤسس للمدونة هو اعترافه بمبدأ المساواة بين الزوج والزوجة في فسخ العلاقة الزوجية إذ مقابل إمكانية الزوج في وضع حد لها وقت ما أراد أعطى للزوجة كذلك، الحق في أن تضع حدا، هي كذلك، للعلاقة الزوجية وقت ما أرادت.
*الخبرة كوسيلة من وسائل إثبات النسب خارج عقد الزواج :
عندما نعود لقانون الأحوال الشخصية السابق، سنلاحظ أن هذا القانون كان متشددا (ليس بالمفهوم السلبي) في تناول قضية النسب، وجعل للمنطق الذي تعامل به منطلقا وحيدا، وهو تلازم ثبوت النسب مع ثبوت عقد الزواج ولم تخرج عن ذلك إلا في حالة الاستثناء المعروف بمسطرة ثبوت الزوجية.
لكن مدونة الأسرة غيرت من ذلك المنطق، ولم تبق على تلازمية ثبوت النسب مع ثبوت توفر عقد الزواج، ما دام أنها سمحت بإثبات نسب الابن لأبيه حتى في المرحلة السابقة على إبرام عقد الزواج أي مرحلة الخطبـة.
وهكذا، أحدثت مدونة الأسرة قاعدة جديدة مفادها أنه يمكن إثبات الابن المزداد في فترة الخطبة للخاطب حتى إذا أنكر هذا الأخير كون الابن من طلبه.
ذلك أن مدونة الأسرة، وفي إطار تفعيلها، لقواعد الفكر الحداثي، اقرت حق اللجوء إلى الخبرة أمام إنكار الخاطب لعلاقته بالمولود، تلك الخبرة التي أصبح التطور العلمي متقدما في هذا المجال إذ من شأنها أن يحدد بصفة قطعية علاقة المولود بالخاطب من عدمها إذ تنص الفقرة الأخيرة من المادة 156 من مدونة الأسرة على ما يلي :
“إذا أنكر الخاطب أن يكون ذلك الحمل منه، أمكن اللجوء إلى جميع “الوسائل الشرعية في إثبات النسب”.
وإذا ما علمنا أن الوسائل الشرعية لإثبات النسب أصبحت تدخل فيها الخبرة، وذلك طبقا لأحكام المادة 158 كما فصلناه أعلاه، يتأكد إذ أن آلية الخبرة، أي آلية التطور العلمي الحديث اصبحت وسيلة من وسائل إثبات النسب، بالرغم عن إنكار “الأب” الخاطب.
وهكذا، استطاع الفكر المؤسس لمدونة الأٍرة أن يعالج مشكلا جد خطير هو تخلي الآباء عن تحمل مسؤولية أبنائهم، الشرعية منها والمدنية، أي النسب وتوابعه والنفقة وتوابعها، والذي كان يكفيهم فقط أن ينكروا أن الابن ابنهم مما تنقل القضية من علاقة أبوة إلى علاقة فساد، يؤدي إلى اعتبار المولود غير شرعي ونسبته لأمه وحدها وتحلل أبيه من أية مسؤولية اتجاهـه.
فمدونة الأسرة عالجت وضعية المشكل الذي يتم أثناء الخطبة ورتبت عليه نفس آثار الحمل الناتج عند عقد الزواج، فكان الفكر متجها لحماية حق الطفل أولا والحد من تعسف الخاطب، الأب، الذي قد يستغل عدم إبرام عقد الزواج للتنصل من مسؤولية الشرعية والمدنيـة.
*المفهـوم الجديـد للإقـرار :
إن ما أحدثته مدونة الأسرة من قواعد جديدة لم تنحصر فقط في الشق المتعلق بكيفية فهم القواعد الشرعية، وإنما امتد ذلك إلى الشق المتعلق بالالتزامات المدنية ذات الطبيعة القانونية الوضعية.
وكما هو معلوم، فإن ظهير الالتزامات والعقود نص على الإقرار كوسيلة من وسائل الإثبات، بل واعتبره أول وسيلة من وسائل الإثبـات.
لكن، أهمية الإقرار في جملة وسائل الإثبات الأخرى، هو أن القانون خصه بميزة انفرد بها، إذ بها يتحقق وبها يكتسب إلزاميته ممن يصدر عنه وللغير، تلك الميزة التي تتجلى في كونه يتم أمام القضاء.
فالإقرار، بخلاف الكتابة، يمكن أن يتم كتابة كما يمكن أن يتم شفاهيا، لكن الشرط الملزم لوجوده هو حصوله أمام مؤسسة القضاء.
وكونه يتم أمام القضاء، يرفع عنه إمكانية الطعن فيه، بخلاف الكتابة التي يمكن الطعن فيها بالزور، أوبجميع الوسائل الأخرى.
لكن، مدونة الأسرة خففت من شرط وقوع الإقرار أمام القضاء ليصبح ملزما لصاحبه، إذ اعتبرت أن الإقرار بالنسب، يمكن أن يتم بإشهاد رسمي، أي أمام موثق أوعدل، أوبواسطة وثيقة عرفية صادرة بخط يد المقر، إذ تنص المادة 162 على ما يلـي :
“يثبت الإقرار بإشهاد رسمي أوبخط يد المقر الذي لا يشك فيه”.
إن قراءة لهذه الفقرة ستؤكد أن المشرع أعطى للإقرار شكلا آخر، وليس جديد، إذ احتفظ له بالشكل الأول وهو ذلك المنصوص عليه في الفصل 405 وما بعده من ظهير الالتزامات والعقود، وأضافت له مدونة الأسرة شكلا جديدا وهو أن يكون إما في شكل رسمي أوعرفي.
وأنه إذا كان الطابع الرسمي لا يثير ملاحظات، فإن الصيغة التي كتب بها الشق الثاني للمادة 162 والمتعلقة بالإقرار بخط يد الذي لا يثار حوله أي شك هي خلاف ذلك، فالصيغة التي كتبت بها المادة المذكورة تدفع إلى فهم ما يلي :
1-يجب أن يكون الإشهاد بالإقرار بالنسب كله مكتوب بخط يد المقر، وليس الاقتصار على توقيع من يصدر عنه الإقرار.
2-أن الذي يحق له الشك في ذلك ليس المقر، وإنما نتيجة البحث الذي قد يؤمر به بخصوص صحة صدور ذلك الإقرار من صاحبه الذي كتبه بخط يد أم، ما دام أن كلمة “يشك” هي تقرأ بضم الياء، فهي مبنية للمجهول وليست بفتح الياء.
+رفع الطابع الآمر على القواعد القانونية المنظمة للحصانـة :
من المعلوم أن قانون الأحوال الشخصية سواء في اصل فصوله أوفي التعديلات التي أدخلت عليه سن قواعد آمرة تنتظم بداخلها كيفية حضانة الأطفال سواء عند قيام العلاقة الزوجية أوبعد انفصالها وذلك في الفصول من 97 على 111.
وأنه بقراءة تلك الفصول يتاكد أن الأمر يتعلق بقواعد آمرة لا تسمح لأي جهة بالتدخل في تعديلها أوتغييرها.
غير أن مدونة الأسرة، في مجال تعداد المستجدات القانونية التي أحدثتها، لم تبق على الطابع الآمر لقواعد الحضانة إذ مع إبقائها على تدقيق مسطرة الحضانة، فإنها أحدثتت قواعد جديدة فرضها التطور المجتمعي وبالخصوص إصرار المرأة إلى الخروج للعمل من جهة ومراجعة الفكرة التي كانت تقول بأن الأم بحكم الطبيعة هي الأكثر رحمة أوعناية بأبنائها.
وتجلت تلك القواعد الجديدة فـي :
“1-استرجاع القضاء لسلطة تغيير القواعد المنظمة للحضانة إذا كان ذلك “في مصلحة المحضون، إذ تنص الفقرة الثانية من المادة 170 التي أتت “في الباب الأول المتعلق بالأحكام العام من القسم الثاني الخاص “بالحضانة على ما يلي :
“يمكن للمحكمة أن تعيد النظر في الحضانة إذا كان ذلك في “مصلحة المحضون”.
إن هذا التغيير في قواعد الحضانة، والمتمثل في حق المحكمة في إسناد الحضانة لجهة أخرى غير الجهة التي حددتها مدونة الأسرة اسما وترتيبيا، نابع من انخراط المغرب ثقافيا وحقوقيا، وكذا احتراما من المغرب لالتزاماته الدولية في فلسفة حماية حقوق الطفل، تلك الحقوق التي لا تعني، ضمانتها بالضرورة، الإبقاء على طفل في حضانة أمه، إذا لم تكن هذه الأخيرة تتوفر على حد مقبول من التوازن النفسي والمادي اللذان من شأنهما أن يؤهلا للطفل ظروفا ملائمة لبقائه ونمائـه.
2-إعطاء الأسبقية المطلقة للأم في حضانة ابنها، حتى ولو تزوجت بعد طلاقها من أب المحضون، وذلك عندما نصت المادة 175 من المدونة على ما يلي :
“زواج الحاضنة الأم لا تسقط حضانتها في الأحوال التالية :
“-إذا كان المحضون صغيرا لم يتجاوز سبع سنوات، أويلحقه ضرر.
“-…………………”.
إن صياغة المادة 175 يفهم منها توجه المشرع إلى احتفاظ الأم بالحضانة في جل الحالات، إلا إذا ظهر أن هناك ضرر للمحضون في الابقاء على الحضانة للأم.
*التحول الفكري والثقافي لمدونة الأسـرة :
كانت ترمي هذه المحاولة إلى استشراف ملامح الفكر الذي أسس للقواعد المكونة لمدونة الأسرة، ومحاولة استجلاء منطلقاته والمرامي التي يقصدها، وكذا محاولة في فهم الأبعاد التي سينتهي إليها تطبيق قواعد تلك المدونة.
وعندما أشرنا إلى طابع التحديث والتجديد الذي اتسمت به تلك القواعد، وكذا الرغبة في إعادة تشكيل العلاقات الأسرية كان كل ذلك يتم من قلب قواعد تلك المدونة.
ولقد حرص مشرع مدونة الأسرة على التأكيد على طابع التحول العميق في الفكر والثقافة وحتى المرجعية، عندما سن القاعدة التي تضمنتها المادة 400 من مدونة الأسرة والتي ورد فيها ما يلي :
“كل ما لم ير به نص في هذه المدونة يرجع فيه إلى المذهب المالكي “والاجتهاد الذي يراعي فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة “والمعاشرة بالمعروف”.
إن أهمية هذا المقتضى تظهر عند مقارنتها مما نصت عليه الفصول 82 من الباب السابع من الكتاب الثاني المتعلق بانحلال ميثاق الزوجية وآثاره، والفصل 172 من الكتاب الرابع المتعلق بالأهلية والنيابة الشرعية والفصل 216 من الكتاب الخامس المتعلق بالوصية والفصل 297 بالكتاب السادس المتعلق بأحكام الميراث، والتي وردت فيها كلها قاعدة واحدة تقول :
“كل ما لم يشمله هذا القانون يرجع فيه إلى الراجح أوالمشهور أوما جرى “به العمل من مذهب الإمام مالك”.
إن تقابل للمادة 400 مع الفصول المشار إليها أعلاه، أي تقابل للقاعدة المنصوص عليها في المادة 400 مع القاعدة المشار إليها أعلاه توضح التحول الذي عرفه الفكر المؤسس لمدونة الأسرة وانخراطه في قيم العدالة والمساواة والمعاشرة بالمعروف أي ما أصبح يتعارف عليه بالتسامح.
تلك القيم التي لا يمكن إلا أن تترجم سعة الافق ومسؤوليته على السواء.