أضحى حجم الاستثمار في قطاع البحث العلمي والاهتمام به؛ مؤشراً أساسياً لقياس مستويات التنمية.ومدخلاً لمواجهة مختلف التحديات والإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ بل إن الدول المالكة لمقومات العلم والمعرفة أصبحت هي المتحكمة في شؤون العالم في العصر الحالي.
وإذا كانت العديد من دول العالم قد راهنت على البحث العلمي في تحقيق الرفاه والتنمية، فإن الكثير من الإكراهات تقف حجر عثرة أمام بلورة تنمية حقيقية في عدد من دول المنطقة العربية، ويظلّ مدخل البحث العلمي خياراً استراتيجياً رابحاً، لتجاوز مختلف هذه الصعوبات والاختلالات المطروحة في شتى الميادين والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ومن منطلق أن مساهمة البحث العلمي في تطور المجتمعات وتحسين الإنتاج في شتى المجالات، لن تتأتى إلا من خلال وجود هامش مقبول من الحرية الأكاديمية المحفزة على الإبداع والممارسة الديمقراطية، فإن المناخ السياسي العربي العام، أسهم بصورة واضحة في تدني مستوى البحث العلمي وتراجع مصداقيته، فقد حرصت كثير من الأنظمة في المنطقة على بقاء الأوضاع السياسية على حالها، ورفضت أي تغيير تسهم فيه النخب المثقفة والأكاديمية، الأمر الذي كانت له انعكاسات وخيمة على مختلف المجالات والميادين.
أعاد الحراك الذي شهدته مختلف الدول العربية موضوع التعليم والبحث العلمي إلى الواجهة؛ بعدما برز قصور النخب المثقفة والأكاديمية في تأطير ومواكبة الحراك، وطرح السؤال حول ما إذا كان تغيّر الأوضاع السياسية، سينعكس بالإيجاب على أوضاع التعليم والبحث العلمي بهذه الأقطار، باتجاه بلورة إصلاحات جذرية تروم عقلنة هذا القطاع الحيوي ودعم انفتاحهما على تحولات المجتمع.
تظل جهود التنمية هشّة، ما لم تستحضر الإنسان كمحور أساسي لها؛ فهو وسيلتها الرئيسية، كما هو هدفها في آخر المطاف، ومن ثم ينبغي أن تنصب على تأهيله وتمكينه من مختلف المقومات العلمية والعملية والاجتماعية والاقتصادية..
ويعتبر التعليم أحد المداخل الرئيسية التي تدعم بلورة تنمية إنسانية حقيقية في هذا الصدد.
إن تحقيق تنمية مستدامة تلبّي احتياجات الحاضر من دون الإخلال بقدرات واحتياجات الأجيال المقبلة، يتطلب استحضار عنصري التعليم والبحث العلمي والانفتاح على ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من إمكانات وإنجازات في هذا الشأن.
كما أن الاعتماد على معطيات ونتائج البحث العلمي وتلافي الارتجال والعشوائية في اتخاذ القرارات والتدابير على اختلاف أنواعها، يمنح هذه الأخيرة مصداقية ونجاعة واستقراراً، بما ينعكس بالإيجاب على تطور وتنمية المجتمع.
ويفترض في مؤسسات التعليم ومراكز الأبحاث والدراسات بمختلف تخصصاتها أن تلعب أدواراً كبيرة في هذا الصدد، وبخاصة على مستوى وضع الخطط والدراسات والمقترحات والتوصيات المرتبطة بمجالات مجتمعية حيوية على طريق ترشيد القرارات وتوجيهها.
وعلى عكس الوضع في الدول المتقدمة التي يسهم القطاع الخاص بنصيب الأسد في تمويل البحث العلمي بنحو 70 في المئة في اليابان وأكثر من 50 في المئة بالولايات المتحدة الأمريكية، ما زال القطاع الحكومي هو الممول الرئيسي لنظم البحث العلمي في الدول العربية بنسب تتجاوز الثمانين في المئة. وفي الوقت الذي انتقل فيه معدل الإنفاق العام على البحث العلمي في كوريا الجنوبية، من نحو 0،02 في المئة من الناتج الداخلي الخام في سنوات الستينات إلى ما يزيد على 6 في المئة في الوقت الراهن، لم تصل النسبة بعد 1 في المئة في عدد من دول المنطقة العربية، وهي نسبة ضعيفة وتبتعد كثيراً عن المعدل العالمي المحددة في 2.3 في المئة.
وتؤكد مختلف التقارير والإحصاءات المحلية والدولية ضعف الإمكانات المخصصة لقطاع التكنولوجيا الحديثة في هذه الأقطار، كما تشير أيضاً إلى المأزق الذي تعرفه منظومة التعليم في مجمل هذه الأقطار، نتيجة لعجز مؤسساته عن مسايرة التطورات العلمية؛ وعدم انفتاحها على قضايا المجتمع؛ إضافة إلى اعتماد أغلبها على مناهج تعليمية جامدة ومتجاوزة؛ ترتكز إلى الحفظ والتلقين والشحن؛ عوض الفهم والمناقشة والإبداع والتحفيز على طرح الأسئلة، وفي ظل نظم وبرامج تعليمية وتربوية عقيمة، أغلبها ينحو إلى الماضي أكثر منه إلى الحاضر والمستقبل، ويكرس التقليد والتبعية بدل الاجتهاد والإبداع.
ومما يعمق هذه الأوضاع التي تبوأ أغلبية الجامعات العربية في مراتب متدنية في التصنيفات الدولية الواردة في هذا الشأن، هو تلك النظرة المشوبة بالشك والحذر لصانعي القرار السياسي تجاه المثقفين والباحثين بمختلف اهتماماتهم العلمية والإبداعية والفكرية.
إن غياب شروط داعمة لقطاعي التعليم والبحث العلمي في المنطقة، يعرقل تحويل نتائج الأبحاث والدراسات إلى تطبيقات ميدانية ويحول من دون تسويقها محلياً ودولياً، وهو ما يؤدي حتماً إلى هدر الطاقات البشرية والمالية ويقلص من فرص التنمية الحقيقية.
إن المدخل الرئيسي لدعم البحث العلمي وتطوير منظومة التعليم في المنطقة يتجلى في إتاحة الحرية الأكاديمية التي تحفّز على الاجتهاد والإبداع بلا قيود سياسية، بما يمكن أن يسهم في تغيير العقليات وتناول القضايا والمشكلات المجتمعية المسكوت عنها في تجلياتها وأبعادها المختلفة.
كما يتطلب الأمر تكثيف الجهود بين مختلف الفاعلين، من أجل تطوير أداء هذه المؤسسات وتخليقها أيضاً، بهدف التأسيس لمعرفة عقلانية ومنتجة وخلاقة، تنبني على رؤية استراتيجية متفاعلة مع الواقع المحلي ومع تحديات المحيط، وقادرة على إعداد جيل قادر على الابتكار والمبادرة وطرح الأسئلة، إضافة إلى انفتاح صانعي القرار على مخرجات البحث العلمي.
إن نجاعة البحث العلمي وفاعليته تظل مشروطة أيضاً بمدى وجود مقومات ذاتية مرتبطة بكفاءة وجدية الباحثين أنفسهم، واستحضارهم لمقومات وشروط البحث العلمي وما يرتبط بهما من عمل جماعي وأمانة علمية.
كما يتوقف الأمر على ردم الفجوة الرقمية التي تفصل معظم الجامعات العربية عن نظيرتها الدولية الكبرى، والاستفادة من التجارب الرائدة التي راكمتها هذه الأخيرة في مختلف المجالات.
ولا يخفى الدور الطلائعي الذي يمكن أن يلعبه القطاع الخاص في تعزيز وتطوير العلم والتكنولوجيا، كما أن المدخل القانوني ضروري لتوفير الشروط الملائمة لاعتماد التكنولوجيا الحديثة وتطوير منظومتي التعليم والبحث العلمي.