عاش المقر المركزي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، يوم السبت 3 شتنبر 2016، حدثا سياسيا متميزا، يتمثل في اجتماع الجهاز التقريري للحزب (اللجنة الإدارية الوطنية) بجدول أعمال يتضمن، من جهة، المصادقة على مشروع الميثاق الأخلاقي الذي أعدته لجنة التحكيم والأخلاقيات، ومن جهة أخرى، اختيار المرشحات الاتحاديات في اللائحة الوطنية للنساء والمرشحين والمرشحات في اللائحة الوطنية للشباب.
وقد تميز اللقاء بالعرض الذي ألقاه الأستاذ “عبد الواحد الراضي”، رئيس لجنة التحكيم والأخلاقيات، حول موضوع “السياسة والأخلاق”، أبرز من خلاله مدى أهمية الأخلاق في السياسة ومدى بشاعة هذه الأخيرة حين تمارس بدون أخلاق؛ ثم تلا هذا العرض تقديم مشروع الميثاق الأخلاقي من قبل الأستاذ “محمد الخصاصي”، مقرر اللجنة، قبل أن تتم المصادقة عليه بالإجماع.
أما النقطة الثانية في جدول الأعمال، فقد شكلت تمرينا ديمقراطيا بامتياز، تمثل في التصويت على المرشحات والمرشحين للائحتين الوطنيتين للنساء والشباب. وقد مر هذا التمرين في جو يطبعه الحماس والشعور بالمسؤولية. وقد انطلقت هذه العملية بعد وجبة الغذاء لتستمر إلى حين الإعلان عن النتائج في وقت متأخر من الليل.
وقد ساعد على مرور العملية في ظروف جيدة، المجهود التنظيمي واللوجيستيكي الذي قام به الجهاز التنفيذي للحزب (المكتب السياسي) بمساعدة الطاقم الإداري لإدارة المقر المركزي؛ بحيث تم توفير كل الشروط الضرورية لتمر العملية بسلاسة وشفافية ونزاهة. فقد تم تحديد أربع مكاتب للتصويت مجهزة بما يلزم وتم تعيين ما لا يقل عن ثمانية أعضاء بكل مكتب تصويت من بين أعضاء اللجنة الإدارية غير المرشحين والمشهود لهم بالكفاءة والنزاهة الفكرية والحيادية.
وقد سبق للقيادة الاتحادية الحالية أن قررت استبعاد أبناء القياديين وزوجاتهم وإخوانهم وأخواتهم من الترشيح، درءا لكل الشبهات. صحيح أن هذا القرار كان مجحفا، خاصة وأن من بين هؤلاء من لهم كفاءة عالية سواء في المجال المهني أو التكوين السياسي. لكن، لن يستطيع أحد أن يتهم هذه القيادة سواء بالسعي لتوريث الأبناء أو للاستفادة العائلية من الريع الحزبي. فالقرار، رغم ما فيه من حيف، كان حكيما وذا بعد أخلاقي وسياسي.
وقد نجحت هذه القيادة، بهذا القرار، في سحب البساط من تحت أرجل بعض الأقلام المغرضة والمتربصة بالاتحاد لحسابات يعلمها أصحابها؛ كما حرمت أولئك الذين يشتغلون بمنطق “أولاد عبد الواحد كلهم واحد” من فرصة النهش في الحزب وقيادته، على الأقل فيما يتعلق بهذه النقطة.
وليس غريبا على حزب القوات الشعبية أن يتخذ مثل هذا القرار ويسلك مثل هذا النهج. فهو معروف، تاريخيا، بإبداعاته ومبادراته واجتهاداته المتميزة سواء في المجال الفكري أو التنظيمي أو السياسي أو غيرها. فليس هناك، مثلا، حزب يمكن أن يضاهي الاتحاد في مجال إغناء القاموس السياسي المغربي وتجديده، ما عدا إذا فكرنا بمنطق الرداءة التي “يتقنها” البعض وتجد من يمتدحها من المطبلين للشعبوية. وليس هناك تنظيم يمكن أن يضاهيه أو يزايد عليه فيما يخص الممارسة الديمقراطية، الفعلية وليس الشكلية.
وقد حرصت القيادة الحالية على الاستفادة من دروس التاريخ والتجربة لتطوير الممارسة الديمقراطية داخل الحزب وتقديم درس بيداغوجي في هذه الممارسة، ليس فقط للقواعد الاتحادية؛ بل ولكل من يطمح لتكريس الديمقراطية فكرا وأسلوبا. وهكذا، قررت اعتماد التصويت وليس التعيين في موضوع الحسم في اللائحة الوطنية للنساء واللائحة الوطنية للشباب برسم الانتخابات التشريعية لـ 7 أكتوبر 2016 . وقد تميز بهذا، حسب علمي، عن باقي الأحزاب المغربية.
ويمكن اعتبار هذا القرار أمرا عاديا بالنسبة للاتحاد الاشتراكي الذي يؤمن بالديمقراطية كوسيلة وغاية ويؤمن بالحداثة وبحتمية التطور وضرورة التجديد؛ كما يؤمن بنسبية الديمقراطية ووسائلها ونتائجها. وبهذا، يمكن النظر إلى التمرين الديمقراطي الذي عاشه الاتحاد يوم 3 شتنبر 2016، باعتباره تطورا في الممارسة الديمقراطية داخل الحزب، والذي يكرس التوجه الذي اختاره الاتحاد بمناسبة انعقاد مؤتمره الوطني التاسع.
ونذكر، بالمناسبة، أن هذا المؤتمر قد شكل قفزة نوعية في مجال الديمقراطية الداخلية وفي مجال تكريس الشرعية الديمقراطية التي دشنها المؤتمر الوطني الثامن، بعد أن توارت إلى الخلف الشرعية التاريخية. والتجربة التي عاشها الاتحاد، بمناسبة مؤتمره التاسع، شكلت نموذجا غير مسبوق في الممارسة الديمقراطية ببلادنا؛ بحيث تنافس على مهمة الكاتب الأول للحزب أربعة مرشحين في الدور الأول، ليبقى مرشحان للدور الثاني الذي فاز به الكاتب الأول الحالي، الأستاذ “إدريس لشكر”. وقد كان الحزب الوحيد الذي أشرك المواطنين، عبر برنامج تليفزيوني، تعرفوا من خلاله على مرشحيه للكتابة الأولى وعلى برنامج كل واحد منهم.
ولا يمكن للحزب الذي جعل من النضال الديمقراطي، منذ مؤتمره الاستثنائي ليناير 1975، وسيلته الأساسية لتغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بغض النظر عن الموقع (في المعارضة أو في التسيير) الذي يحتله في الساحة السياسية، أن يتنكر لتاريخه ولمشروعه ولفكره. ولربما هذا هو السبب الرئيسي للهجوم الذي يتعرض له الاتحاد من جهات متعددة، رغم كونه ليس في الصدارة تمثيليا، بسبب النزيف الداخلي الذي عرفه بمناسبة بعض المحطات التنظيمية.
لقد أكدت الوقائع والأحداث زيف ادعاءات الذين تسببوا، عبر مراحل مختلفة، في نزيف داخلي حاد تعرض له الحزب بذريعة غياب الديمقراطية. فالتاريخ أثبت أن غياب الديمقراطية قائم، لكن ليس داخل الاتحاد؛ بل عند الذين خرجوا منه. ذلك أنهم أتوا ممارسات تتنافى والديمقراطية؛ مما يؤكد أن مفهومهم للديمقراطية لا يعني سوى التشبث بالموقع والاستفادة من الريع الحزبي. وحين يفشلون في ذلك، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إلا وقد أسسوا لهم إطارا تنظيميا يمارسون فيه ما يتهمون به إخوانهم.
ودون الغوص في الماضي، أذكر فقط بما حدث بعد المؤتمر الوطني التاسع الذي شكل طفرة ديمقراطية نوعية، تحضيرا وتنظيما وإنجازا، بغض النظر عما يمكن أن يكون قد وقع فيه من أخطاء وهفوات والتي لا يسلم منها أي عمل بشري. ويكفي للتدليل على ما نقوله عن غياب الثقافة الديمقراطية لدى المنشقين عن الاتحاد الاشتراكي، التذكير بمسار ومصير ما سمي، بهتانا، بالبديل الديمقراطي.
ولا بد أن أذكر بأن كل التنظيمات التي خرجت من رحم الاتحاد، ادعت وتدعي أنها البديل؛ ولم تفلح إلا في إضعافه وتقديم، بذلك، خدمة مجانية لأعدائه وأعداء الديمقراطية. أما لاتحاد فلا يزال صامدا وقائما، فارضا وجوده فكريا وسياسيا وتمثيليا وميدانيا.
وتحضرني، هنا، مقولة “الاتحاد مدرسة”. وهو، فعلا، كذلك. إنه مدرسة في النضال وفي الديمقراطية وفي التضحية ونكران الذات. لكنه، كأي مدرسة، لا يلجه فقط من هم بهذه الصفات؛ بل يضم بين ظهرانيه الغث والسمين ويلج صفوفه الطامح في التغيير وخدمة الصالح العام؛ كما يلجه الطامع في الاستفادة الشخصية (انظر “ فصل المقال فيما بين الانتهازي والمناضل من اتصال وانفصال”، Saharapress، في 31 يوليوز 2014، أو «الفاعل السياسي بين القيم النضالية الأصيلة وقيم الانتهازية الهجينة: «سعيد اشباعتو» نموذجا»، «الشرق الآن» ، 18 يوليوز 2015).
وأتصور أن التمرين الديمقراطي الذي عشناه يوم السبت 3 شتنبر الماضي، سيترك جراحا وآلاما مُبرِّحة عند البعض لأن الديمقراطية، هنا، تعني فقط الانتخاب والتصويت؛ أي الاختيار. والاختيار ليس مرادفا للعدل والإنصاف؛ بل هو فقط تفضيل لهذا عن هذا. وهذا التفضيل ليس بالضرورة منطقيا وموضوعيا؛ بل غالبا ما تتدخل فيه عوامل معينة ليس أقلها عدم المعرفة الدقيقة بالأشخاص الذين نفاضل بينهم.
لكن هذا الأسلوب يبقى هو الأمثل (أليست الديمقراطية هي أرقى ما وصلت إليه البشرية؟) لتجاوز بعض العقبات وتجنب بعض الأعطاب؛ وإن كان للديمقراطية أعطابها. والمتشبعون بالفكر الاتحادي والثقافة الديمقراطية، سيتجاوزون بسرعة ما قد يشعرون به من مرارة بسبب ما قد يعتبرونه تنكرا لمجهودهم ولعملهم الميداني أو الفكري. أما من كان يراهن عن «الهمزة» (ولا أعتقد أنهن أو أنهم كثر) من بين المرشحات والمرشحين، فقد نفقده إلى الأبد.