تقتضي الإجابة عن هذا السؤال الإحالة على سؤال آخر يخص علاقة اليسار ذاتها بالثقافة. فكيف نظر مناضلو هذا التيار إلى الثقافة سابقا وكيف مارسوها في الفضاء العمومي ونوعية الفكر الذي أُنتج ضمن ما كان يَعِد به الحراك الثوري بدءا من السبعينيات إلى بداية التسعينيات، عناصر يمكن أن تكون مدخلا لترسيم حدود جديدة بين نشاطين لم نعرف، إلا في النادر من الحالات، كيف نفصل بينهما. فلم تكن “الثقافة”، بمفهومها الواسع، على امتداد تاريخ هذا اليسار سوى واجهة من واجهات الصراع مع السلطة، دون أن تُشكل، إراديا أو نتيجة قصور في الفهم، خلفية حقيقية تُسند الفعل السياسي وتفتحه على ما هو أبعد من الكسب المباشر في التمثيلية أو في حصة المناصب ( أترك جانبا المشاريع الفكرية الكبرى التي تُنسب لليسار، فتلك قضية أخرى).
وهو ما كان يعني، وربما مازال، أن الثقافة يجب أن تظل في أحسن الحالات، تابعة للسياسة، وفي أسوئها مجرد نشاط داخلي يؤطره المناضلون والمتعاطفون والباحثون عن ريع. والحال أن الثقافة، وهي إنتاج فكري ومعرفي، وليس أنشطة للتوعية والتوجيه والتربية على المواطنة فحسب، لا يمكن أن تكون رديفا مِطواعا للفعل السياسي، ولا مجرد رافد من روافده. إنها الأصل فيه، أو هي الثابت الذي لا يمكن للفعل السياسي أن يستوعب محيطه ويفعل فيه خارج ” أُطر” التوجيه القيمي الذي يتضمنه. فيافطات الحداثة كلها اختصرت في شعارات سياسية تدعو إلى تغيير يتم في “هرم السلطة” خارج “حقائق التخلف الشعبي” و”خصاصه الحضاري”. لذلك لم يلتفت اليساريون في أغلب الأوقات إلى قيم الفردية والعلمانية والتعددية، فمن يتولى السلطة في نظرهم وحده قادر على التغيير بالسياسة لا بالثقافة.
وهذه “الحقيقة” هي التي تقتضي اليوم النظر إلى الثقافة باعتبارها فعلا يتم ضمن أفق منفتح على العلم والمعرفة والخبرة الإنسانية خارج كل مردود يُقاس بعدد الأصوات أو المقاعد. فلن تكون السياسة، خارج هذا الغطاء، سوى كيد وغِل أو سلسلة لا تنتهي من المناورات والدسائس.
ليس مطلوبا من السياسي أن يتخلى عن وظيفته، فهو فاعل حقيقي لن يستقيم التنظيم الاجتماعي دون إسهامه هو، وإسهام كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، ولكنه ليس معنيا بتفاصيل الفعل الثقافي، ولا يمكن أن يوازي بين الفعلين في “التنظيم” و”توزيع المهام”. ومن حق المثقف أن يكون فاعلا في الحزب، فذاك حق من حقوق المواطنة. ولكن ليس من حقهما الخلط بينهما، فهما من طبيعتين مختلفتين. إن ميدان الثقافة هو الرمزي في المقام الأول، أما السياسة فتكتفي بمساءلة الواقعي والملموس ضمن أولويات يحددها الفاعل السياسي استنادا إلى موازين قوى لا تقوم دائما على تشخيص موضوعي ومستقل. بعبارة أخرى، يُغطي الرمزي كل شيء في وجود الناس، بما فيها عوالم السياسة ذاتها، ولكن سلطان السياسة لا يمكن أن يتجاوز حدود ما يُصنف ضمن الواقعي وحده. تقوم السياسة على “الولاء” و”التكتلات” و”الأحلاف” التي تتشكل وتنحل وفق مصالح دائمة التحول، أما الثقافة فوجهتها الحقيقة والعدل خارج ضرورات التأطير السياسي.
السياسة “تشرح”، إنها “خطاب” يحيل دائما على مضمونه المباشر: فهو إجابة عن سؤال آني، أو تلبية لحاجة ملموسة، وهو في الوقت ذاته جزء من ” خطة نضالية”، أما الثقافة “فتفهم” و”تؤول”، إنها لا تكترث للوقائع المعزولة، فغايتها فهم سلوك الناس ضمن تراكباته غير المرئية. إن السياسة وحدها تقبل القسمة، وتعلن عن نفسها في الفضاء العمومي من خلال “برنامج” تلعب فيه الكاريزما وشخصية “المتلفظ السياسي” الدور الرئيس، أما الثقافة فتصنف خارج ثنائية الأغلبية والأقلية، إنها تُمارس في “الظل” الاجتماعي والسياسي، فهي تُوجه الناسَ إلى مضمون الخطاب خارج “نجومية” المتلفظ و”جماهيريته”. استنادا إلى ذلك، وجب النظر إليها باعتبارها “نسقا يتم من خلاله الكشف عن تجربة وجودية عامة”( إدغار موران)، في حين تُعد السياسة برنامجا سياسيا ليس من ميزاته الثبات في اللحظة والمكان.
وبهذا المعنى، لن يكون المثقف “معنيا” بجوع الناس وفقرهم، فما يعنيه حقا هو قيم العدالة والمساواة والحق والواجب والفضيلة والكرامة الإنسانية، إنه يقدم للسياسي “المبرر” القيمي الذي يُصرِّف من خلاله تكتيك السياسة واستراتيجيتها بما يقود إلى تجسيد هذه القيم في واقع ملموس يشمل كل الناس. إن الخير ليس “طبقيا” دائما، تماما كما أن الحرية ليست سياسة فقط، إنها ما يشكل تفاصيل الوجود الإنساني.
استنادا إلى كل ذلك، من واجب اليسار الآن أن يتبنى كل المشاريع التي تحتفي بالقيم الإنسانية النبيلة، لا أن يكون وصيا عليها أو يكتفي بخلق غيتوهات ثقافية تحتفي “بالحداثة الحزبية” في انفصال عن “المثقف الحداثي”. فالتفاصيل السياسية ليست جزءا من برنامج الثقافة، واليسار ليس طائفة، عرقية أو دينية، إنه مشروع حضاري مفتوح على المستقبل وموجه لاستيعاب كل القيم التي تحتفي بالإنسان وتصون كرامته.