مع مرور الوقت و تقدم السن، ينتابنا الإحساس بأن الأشياء تفقد جماليتها و خصوصيتها المتميزة، فيجرنا الحنين إلى الأيام السالفة أو بالأحرى الخالدة في ذاكرتنا ببصمات الجمال و الرقي و الارتقاء.
كلنا نخوض في الحديث عن فقدان طعم الجمال و جاذبية الأشياء رغم توافرها و تنوعها، فنميل أحيانا إلى إرجاع ذلك إلى اختلاف قناعات و أفكار الأجيال و مميزات كل مرحلة على حدة.
نعيش تحت رحمة طغيان المادة و تناثر كل ما هو روحاني فسادت بذلك الرداءة بجميع أشكالها ثم القذارة. معظمنا يكابد من أجل إشباع الحاجيات و الأطماع المادية المتزايدة، فغُيّبت بذلك الروحانيات و معها كل أدبيات الجمال و الفن الرفيع، فمالت بذلك كفة ميزان المادة على الروح. فمن الطبيعي أن تقلب الموازين فيصبح بذلك الاستثناء قاعدة و القاعدة استثناءا، فيسمو كل ما هو وضيع و يطاح بكل ما هو راق، تنتصر المظاهر على المضامين، يسفه العالم و الحكيم ويُمجًّد الجاهل السافل الوقح. فأصبحت الساحة مستنقعا تسوده الرداءة و الوقاحة التي أضحت بدورها شجاعة. أين هي إبداعات الفن، الفكر، الأدب والمسرح، كلها تعود إلى زمن الخوالد.
مفهوم الردئ اصطلاحا يعني الفاسد، الوضيع، الخسيس الحقير المكروه.
ففساد الشيء ينفي صلاحه و الفساد يأتي على الأشياء كإتيان النار على الهشيم أي في مدة قصيرة ووجيزة عكس الصلاح الذي يتطلب عقودا و أجيالا و ثباتا على العمل المتواصل لتجنب كل تلف أو ضرر. الصلاح يتطلب تظافر جهود الجميع من خلال التربية وتقوية كل أساليب الممانعة.
بينما يبدو فساد المجموعة سهلا وسلسا من خلال عمل عدد صغير من الخلايا الجرثومية كخلايا السرطان، فتصعب معرفة الأسباب أو حتى التشخيص و التشريح الدقيق للحالة المرضية فيصبح الأمل هو العيش لأطول مدة ممكنة
تنتشر كل مظاهر الرداءة و تخترق بيوتنا و محيطنا من كل الجوانب. فجل ما يقدم كإبداع عبر وسائل الإعلام، يكرِّس لواقع القذارة والتفاهات فيقتل كل نزوع نحو الإبداع والخلق فما بالك بالنقد. أصيبت ماهية الإبداع بالشلل منذ البداية فكيف لنا أن نرفع من سقف انتظاراتنا. إذ أن معظمنا لا يدرك حتى أبجديات الجمال و الإبداع فكيف لنا إذن أن نفهم أبعادها في رقي و تقدم الأمم.
اخترقت الرداءة الحياة السياسية فأفلست برامج وسياسات كل الحكومات المتعاقبة و معها عزوف السواد الأعظم من الناس عن كل ما هو سياسي.
أضحى الاقتصاد مبنيا على إشباع الشهوات الحيوانية القاتلة، فتسيَّدت المردودية والحصيلة و هُمِّشت النوعية و الكيفية. كما أن العلاقات الاجتماعية تؤسس على منطق الانتهازية و المصلحة الفردية.
أما الأفضع فهو استهذاف الهوية الثقافية و حصر الثقافة في ما هو متوارث عن الأجداد وتسفيه كل فكر جديد أو مغاير. الرداءة تطوِّقنا من كل جانب، فهل هي من فعل فاعل كما يذهب إلى ذلك بعض المفكرين أم هي تجسيد لمسار تلقائي من الانحطاط و التخلف.