متابعات

في ذكرى سلفي مستنير

محمد العمري

 نظم مركز محمد بن سعيد أيت إيدر للدراسات والبحوث, يوماً دراسيا احتفاء بذكرى شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، يوم الثلاثاء 04 يونيو 2013 . وهو أحد أبرز الشخصيات العلمية الدينية التي انحازت إلى الكفاح الوطني، ثم إلى النضال الديمقراطي.
شاء حسن الطالع أن أترأس الجلسة المسائية من ذلك اليوم، وهي المخصصة للحديث عن شخصية المحتفى به ودوره ودلالة الاحتفاء به. يسرني أن أقدم للقراء الكرام نص الكلمة التي افتتحت بها تلك الجلسة.
قال أبو فراس الحمداني:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يُفتقَدُ البدر
ولعلي بروح شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي تحلق الآن في أجواء هذا المكان راضية وهي تنشد:
تَذَكَّرَني قَوْمي، وقد جد جدهم، سلامٌ على قومـــيَ ما طلعَ البدرُ
المصلحون والفلاسفةُ ورجال الفكر عامة مناراتٌ ومعالمُ في طريق استكمال إنسانية الإنسان؛ تلتفت إليهم الأجيال، كما يَلتفت المسافرون إلى الراسيات نهارا، والنجوم اللامعة ليلا، حين يَلُفُّ مسارَهم الغموض والالتباس… حين تزحف الرمال، أو يعم الضباب وتتلاطم الأمواج…
لقد تغيرت الأرض غير الأرض والسماوات، وصار بين شيخ وشيخ، وسلفية وسلفية، سنوات ضوئية، بل صارت أحيانا بمسافة ما بين النور والظلام! لذلك كان ضروريا التمييز بالانتساب إلى النور. لقد اختار لنا القدر، نحن المحسوبين على اليسار والحداثة، قبل أن نختار لأنفسنا، أن نكون مع سلفية عقلانية وطنية مناضلة…
حين طرح سؤال: لماذا تقدم الغرب واليابان وتأخر المسلمون، أيام رشيد رضا (تلميذ محمد عبدو) وشكيب أرسلان وتلاميذهما جاء على رأس أسباب التأخر، وفي مركزها ومدارها، العلم… تقدم الغرب لأنه استثمر النعمة الأولى التي فضل الله بها الإنسان على سائر الحيوان وهي العقل، وبهذا العلم مَلؤوا البر وسادوا البحر، وجاسوا بين الكواكب في الفضاء… وكان هذا السؤال حارقا لأنه لم يصدر عن رفاهية فكرية، بل صدر عن جرح كبير: عن احتلال بلاد المسلمين وإذلالهم… كان مرتبطا بالبحث عن أسباب الخروج من ورطة تاريخية، وليس عن اقتسام غنيمة وهمية، كما حالنا اليوم.
ولذلك كان أولائك السلفيون علماء وشعراء أيضا، من طينة محمد بلعربي العلوي والمختار السوسي وعلال الفاسي والحبيب الفرقاني، صاحب «نجوم في يدي». كيف لا يكونون كذلك وقد كانت المسافة بين محمد عبده شيخ شيوخ هذه السلفية وبين قاسم أمين الداعي إلى تحرير المرأة غير ملحوظة، بل لم يكن الطريق مقطوعا حتى مع سلامة موسى…
ولهذا لاحظتم أن المطالبين بإدماج المرأة المغربية في التنمية كانوا يحتجون بمحمد عبده وعلال الفاسي (في قضية التعدد مثلا) وكان «السلفيون الجدد» (الأصوليون) يرفضون اجتهاداتهم ويتهمون القائلين بها بأشنع النعوت، أضعفها العمالة «للغرب الكافر».
حين أتيحت فرصة تنسيق كتاب وثائق جيش التحرير الذي أعده وقدمه المناضل العتيد، أطال الله عمره ومتعه بموفور الصحة، السي محمد بن سعيد أيت إيدر، دهشت حين وجدت التوجيهات والتعبئة للقتال في رمال الصحراء الجنوبية الصعبة تسترجع أجواء الهجرة والنصرة، وتَعِدُ المقاتلين الصابرين في سبيل عزة الوطن بما وعد الله به الشهداء المجاهدين في سبيل نصرة دينه.
ولعل من لم يعايش التطورات التي عرفها المغرب من أوائل الستينيات إلى الآن لا يدرك مكمن هذه الدهشة، لقد حالت أجواء السبعينيات من القرن الماضي وما بعدها بين جيلنا (والجيل الذي جاء بعدنا أيضا)، وبين إدارك طبيعة الكيمياء التي كانت تجمع إبان التحرير بين محمد بلعربي العلوي وعلال الفاسي والمهدي بن بركة والفقيه البصري والسي محمد بن سعيد أيت إيدر… تلك الكيمياء التي تصهر القومي والإسلامي والاشتراكي في بوتقة واحدة.
سلفية زمن الشيخ بلعربي العلوي وأمثاله هي سلفية العلم والوطنية والأخلاق. وقد كان من حَظِّي أن أعاين مباشرة جبهة من جبهات هذه السلفية المواطنة التي نهضت لتعميم التعليم وتعريبه وتخليقه. وقع ذلك حين مَدَّتْ جمعيةُ علماء سوس، التي كان يرعاها الشيخ العالم المؤرخ الصوفي الوطني المختار السوسي والعالم المناضل عمر الساحلي، مدت يدها لتنقل من أدركته من أبناء الجنوب في الكتاتيب والمدارس العتيقة إلى التعليم الحديث، من الحصير إلى المقعد، ومن اللوح إلى الدفتر، لقد أوقفت قطار التعليم الذي انطلق لتركبنا وقد ظننا أننا أخطأنا الموعد، وفرت لنا المأوى والمأكل، والملبس أحيانا، احضرت معلم الفرنسية والإنجليزية والرياضيات…ألخ، إلى جانب أستاذ الفقه والتوحيد وتاريخ السنة…الخ، وها نحن اليوم بفضل أولائك المخلصين لله والوطن نسبح على شبكة الأنتيرنيت (قارن بما يقع اليوم من سعي بعض من يحسب على السلفية لجر مئات الآلاف من الأطفال والشباب خارج المدرسة تحت مسميات سيئة الدلالة (مثل «التعليم العتيق»)، أو مضللة (مثل «دور القرآن»).
احتفالا بتلك الأجواء واحتفاءً بأولئك الرجال الصادقين أعطي الكلمة للأساتذة الباحثين لتناول هذا الموضوع من جوانب متعددة متداخلة ومتكاملة.
باسمكم جميعا أشكرهم على ترحيبهم بالمشاركة في هذا الحدث العلمي الوطني، وأشكر مركز محمد بن سعيد أيت إيدر الذي أبدع وأحسن الاختيار حين اقتنص هذه اللحظة: لقد وضع أمامنا المُتَّفَقَ عليه في لحظة سادها منطق التنابذ الفكري والسياسي.
شارك في هذه الجلسة الأساتذة: إدريس حمادي، أستاذ علم الأصول الذي اشتهر بدعم إصلاح مدونة الأسرة من منطلق شرعي. وقد ركز على نعمة العقل التي أهلت الإنسان دون غيره من الكائنات لتحمل الأمانة.
والأستاذ الفيلسوف محمد المصباحي, صاحب المؤلفات العديدة المفيدة تأليفا وإشرافا. وقد تتبع مسار المواجهة بين سلفية متشددة وسلفية مستنيرة من القديم إلى الآن،
وساهم فيها أيضا الأستاذ مولود عميمر من الجزائر وهو باحث في التاريخ المعاصر. تناول العلاقة بين محمد بلعربي العلوي وجمعية علماء المسلمين بالجزائر، التي اتخذته رئيسا شرفيا لها لِما سجلته من علمه ونزاهته وجرأته في الحق، وساهم فيها أيضا الأستاذ محمد فلاح العلوي أستاذ التاريخ المعاصر. تتبع مواطن اللقاء والاختلاف بين شخصية المحتفى به وشخصية الزعيم الوطني علال الفاسي رحمهما الله،
وختمت العروض بمداخلة الأستاد عبد العالي العمراني جمال، وهو باحث في اللغة والمنطق، عمل بالمركز الوطني الفرنسي على مدى أربعين سنة (1971 ــ 2010)، وقد أطل على شخصية محمد بلعربي العلوي من زاوية جديرة بإعادة التأمل، وهي البعد الصوفي الذي تناوله من خلال ترجمته عند أحد أشهر تلاميذه العلامة المحتار السوسي.

11/6/2013

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…