قراءة التجربة التاريخية العربية المعاصرة، تشي بأن ثمة خلل في مسار التجربة السياسية، منذ بدأت الأمة مشروعها للتحرر من نير الاحتلال الغربي، بعد الهزيمة الأولى للمشروع النهضوي العربي، التي أخذت مكانها كأحد إفرازات الحرب الكونية الأولى.
قراءة التجربة العربية المعاصرة، في سياقها التاريخي، والسياسي، أعادت حضورا قويا لمقولة الكاتب الراحل، الأستاذ أحمد بهاء الدين، في وصفه للإنسان بأنه حيوان بتاريخ. والمعنى كما يوضحه الكاتب الراحل، أن الإنسان، من دون سائر الكائنات الحية، هو وحده الذي يملك تاريخا. إنه يتعلم من أخطائه وتجاربه. وهو بخلاف الحيوان، الذي تتصف حياته بآلية وتكرار لا يحيد عنهما.
لقد تعلم الإنسان منذ القدم اصطياد الفئران، بطريقة وضع قطعة من الجبن في مصيدة. ورغم أن الطريقة مضت عليها آلاف السنين، لكنها لا تزال صالحة. والسبب في ذلك أن الحيوانات، بخلاف الإنسان، كائنات من غير تاريخ.
والتجارب في المحصلة، هي مجموعة من العبر، تساعد الأنسان على تجنب الوقوع في مزالق الأخطاء. ولأنها كذلك ربط قدماء الإغريق التاريخ بمدرسة الأخلاق. فوسيلتنا إلى التعلم، في كثير من الأحيان، هي مضاهاة الحاضر بالماضي. وقد قبلت بعض المدارس الفقهية القياس، كسبيل لمعرفة الحلال من الحرام، مع أن ذلك يصطدم بحقيقة عدم قابلية التجارب الإنسانية للتكرار. وإلا لكنا سلمنا بمقولة أن التاريخ يعيد نفسه. ولو افترضنا صدق هذه المقولة، يعني أن ميكانيكية الأحداث، وذلك طرح اقل ما يوصف به أنه غير تاريخي، كونه ينفي حضور التاريخ من الأساس.
فلو سادت النظرة الساكنة للكون، وانعدمت الحركة، لما كانت هناك حاجة لأجدادنا ليقوموا بالتدوين، وكتابة أيام العرب. الكون قانونه الحركة الدؤوبة، السائرة بوتائر مختلفة إلى الأمام، متخذة شكلا لولبيا. والإنسان، كما تقول المقولة الإغريقية لا يستطيع العوم في نفس مياه النهر مرتين.
وفي النزعة المادية، فإن التاريخ هو من صنع الإنسان، وأن الإنسان وليد الظروف والتربية، وبالتالي فإنه يتغير بتغير الأوضاع وتجديد التربية. لكن مثل هذه الرؤية، تتجاهل، أن الفكر قوة تاريخية، وأن الإنسان هو الذي يغير الأوضاع. وأن المربي نفسه يحتاج إلى تربية، وتجدد مستمرين.
هذه المقدمة، تفصح في جانب منها عن طبيعة الأزمة السياسية العربية، وعن معضلة الازدواجية التي حملها مشروع النهضة العربي. تداخل بين التقليد والمعاصرة. وتوق نحو التقدم باستخدام مفاهيم الماضي.
لقد انقسم الفكر العربي المعاصر، الفكر الذي ارتبط بحركة اليقظة العربية، التي انطلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى عدد من الخطوط. خط تقليدي اراح واستراح، واتخذ موقفا عدائيا وصريحا من الحداثة، ورأى ان ليس بالإمكان أفضل مما كان. وأن طريق العرب للنهوض، هو العودة إلى الموروث القديم الذي صنع امجادهم. وانقسم هذا الخط بين من يدعو بصريح العبارة إلى عودة الخلافة الإسلامية، وبين من رأى استحالة ذلك، وطالب بإقامة دول إسلامية، على قياس دولة الإسلام، التي سادت في ظل أنظمة الخلافة، في عهد الخلافة الراشدة، والعصرين الأموي والعباسي. وهذا الخط منسجم في ممارسته وطريقة تفكيره، وإن كان عاجزا عن أن يكون ترسا في مسيرة النماء والبناء والتقدم البشري.
خط اخر، شبه تقليدي، طالب بتلاقح بين الأصالة والمعاصرة. فقال بحتمية التماهي مع روح العصر، ولكن باستلهام الموروث الحضاري للامة، بما في ذلك الموروث الأخلاقي والديني.
خط ثالث طالب بالبتر التام مع الماضي، والتماهي مع العصر في الفكر والنموذج، ولم يكن لهذا الخط نصيب قوي من الحضور الاجتماعي والسياسي في الواقع العربي حتى يومنا هذا.
وتشير القراءة الموضوعية، إلى أن الخطوط الثلاثة لم تلتزم بالمنهج التاريخي. فالخط الأول، انطلق من نظرة عدمية ساكنة، بمعنى أنها غير تاريخية. ويمثل الإسلام السياسي هذا الخط. وقد تكرر حضوره في الواقع العربي، وقد كان هذا الحضور، باستمرار ردة فعل حادة لوجود أزمة سياسية في الواقع العربي.
تأسس الإسلام السياسي، لأول مرة كردة فعل غاضبة، على نتائج الحرب العالمية الاولى. كان موقفه مرتبكا وقلقا من سقوط السلطنة العثمانية، التي وصفها بعض قادة الحركة الإسلامية، ببيضة الإسلام. وكانت نتائج الحرب الكونية الاولى بالنسبة للعرب كارثية ومروعة، وضعت اتفاقية سايكس بيكو، قيد التنفيذ، وهيأت المناخ لتنفيذ وعد بلفور، واغتصاب الصهاينة لفلسطين، وهزيمة المشروع النهضوي العربي.
أما المحطة الثانية للإسلام السياسي، فكانت هزيمة الخامس من يونيو عام ١٩٦٧م، وارتبطت بما عرف في حينه، بالصحوة الإسلامية. وكان من أبرز ملامحها تفجير الحافلات والقطارات في أرض الكنانة، واغتيال لبعض المسؤولين والكتاب الحداثيين في الدولة المصرية، وبلغت أوجها باغتيال الرئيس السادات.
أما المرحلة الأخيرة، فهي ما نشهده الآن من تغول لظاهرة الإرهاب، وبرز ذلك بشكل دراماتيكي ومكثف بعد انقضاء العصر الذهبي القصير لدولة الإخوان في مصر وتونس، والعجز عن القفز إلى السلطة في سوريا واليمن، والاحداث المروعة في ليبيا، التي صادرت بجدارة هذا الكيان.
واقع الحال، أن الخط الثاني، خط التلاقح بين الأصالة والمعاصرة، هو الذي قدر له أن يقود مسيرة الكفاح الوطني العربي، نحو الاستقلال. وقد تناوبت قوى اجتماعية عديدة قيادة هذا الخط.
لقد كان للطبقة المتوسطة، وفكرها التقليدي المطعم بنفحة عصرية، شرف قيادة المرحلة الأولى من الكفاح الوطني، في ثورات عدة شهدها ثورة ١٩١٩ في مصر، وثورة العشرين في العراق، ومحاولات إعاقة حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين في العشرينات والثلاثينات من القرن المنصرم. وقد وقعت هذه الطبقة أسيرة افتتانها بالمحتل، ومقاومتها له. وبين تمسكها بالتقليد وتوقها للمعاصرة. وانتهت مرحلتها إلى فشل ذريع.
في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، احتدمت معارك الاستقلال، واكتمل تحرير معظم البلدان العربية، بنهاية حقبة الستينيات من القرن الماضي، لكن الخلل التي واجهته حركة اليقظة العربية، في مراحلها الأولى، ظل قائما. المطالبة بالعصرنة والتحديث، والتوسل التقليد، وآلياته، كوسائل للولوج في مرحلة التحديث.
ويبقى هذا الموضوع حيويا وهاما وبحاجة الى المزيد من التفصيل والتحليل.