بفعل تعقيدات الوضع السياسي، سواء الداخلي منه أو الخارجي؛ وبفعل تشابك المصالح وتقاطعها وتناقضها، قد يجد المرء نفسه أمام مواقف أو قرارات يصعب عليه فهمها وإدراك دوافعها وأهدافها الحقيقية؛ لكنه يشعر بثقل تبعاتها على الوضع، خاصة إن كان من المهتمين. وفي غياب معطيات دقيقة، قد يتسرب إلى ذهنه نوع من القلق والشك… الذي تتولد عنه أسئلة مُحيِّرة، وأحيانا حارقة، يغذيها العجز عن تقديم أجوبة عنها مقنعة، أو على الأقل مطمئنة.

لكن، في كثير من الأحيان، تتدخل الصدفة (أو القدر) فتساهم في رفع هذه الحيرة وتقليص حدة هذا العجز، بحيث تقدم للمهتم بعضا من عناصر الجواب، حتى ولو كان هذا الجواب جزئيا.

ويلعب ما يمكن أن نسميه بالمنبهات déclics دورا بالغ الأهمية في هذا النوع من الصدفة. فبفضلها قد ننتبه إلى بعض الأشياء التي كنا إما لا نعيرها أي اهتمام أو، بالعكس، كانت تشوش على الذهن لكن لم نكن نجد لهذا التشويش تفسيرا مقنعا. وهذه المنبهات، حين تعمل، فهي إما تُنشِّط الذاكرة فيخرج من مخزونها ما يساعد على الفهم، وإما تسعف في اختيار الأداة المناسبة للتحليل، التي قد توصل إلى الجواب المطلوب.

وتقدم لنا ثقافتنا العامة نماذج من هذا الصنف من الصدف التي تعمل كمنبهات. فمن منا لا يتذكر قول الشاعر”طرفة بن العبد”: “ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ● ويأتيك بالأخبار من لم تزود”. ثم كم مرة سمعنا مقولة: ” رب صدفة خير من ألف ميعاد”. ويصدق هذا القول على الأجوبة التي قد نجدها، بالصدفة، على بعض أسئلتنا المحيِّرة.

لقد تذكرت القولين السالفين وأنا أقرأ العمود اليومي لـ”رشيد نيني” بجريدة “الأخبار”(الجمعة 19 غشت 2016) بعنوان “الانقلاب المدني وأدواته”، الذي وجدت فيه الكثير من عناصر الإجابة على أسئلة كانت تخامرني كلما فكرت في سلوك “بنكيران” كرئيس للحكومة وفي مواقف حزب العدالة والتنمية كحزب أغلبي، يدعي المرجعية الإسلامية ويزعم خدمة الضعفاء.

لقد كان دائما ينتابني (وأنا أتتبع مجريات الأحداث منذ تنصيب حكومة بنكيران، وبالأخص بعد أن شرعت في اتخاذ بعض القرارات الخطيرة التي كان يحلو لأصحابها ولأتباعهم وصفها بالشُّجاعة، أو عند الإقدام على بعض الخطوات التي يشتم منها النزعة إلى الهيمنة والتسلط) شعور بأن في الأمر ما يريب. لكني كنت أقنع نفسي، خاصة في المراحل الأولى، بأن الأمر يتعلق بأخطاء البداية وأفسر كل شيء بانعدام التجربة.

لكن مع توالي الأيام وتوالي القرارات المجحفة، بدأ سؤال “ماذا يريد بنكيران؟” يفرض نفسه على كل المتتبعين للشأن السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي…خاصة وقد بدا مصرا، في عناد غير مفهوم، على ضرب كل مكتسبات الشعب المغربي، بما في ذلك تلك التي قدم من أجلها تضحيات جسام؛ وكأني به يريد، من جهة، العودة بنا إلى ممارسات سنوات الجمر والرصاص، ومن جهة أخرى، العمل على تأزيم الوضع إلى أقصى حد وعلى جميع المستويات وفي كل المجالات؛ مما جعل الكثير من التحاليل الصحفية تحذر من المنحى الذي تسير فيه الأمور وتتهم “بنكيران” باللعب بالنار.

 لقد سبق لي أن تناولت الكثير من هذه الجوانب بنوع من التفصيل في مقالات سابقة، لا أرى ضرورة للخوض فيها من جديد. ورغم تركيزي، في بعضها، على عوامل التوتر التي تخلقها قرارات الحكومة والتنبيه إلى خطورة الوضع القابل للانفجار، والذي لن توقفه، حين يقع، مزاعم “بنكيران”بأن الشعب يبارك قراراته، فلا أعتقد أنني ذهبت إلى حد اتهام رئيس الحكومة أو حزبه بالتآمر ضد الدولة ووحدتها، رغم علمي بعلاقة حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين الذي يعتبر، من جهة، مصدرا لتكوين الجماعات الإرهابية العالمية مثل تنظيم القاعدة وفروعها؛ ومن جهة أخرى، التنظيم الذي تعتمد عليه أمريكا، إلى جانب بعض منظمات المجتمع المدني، في تنفيذ مخططاتها.   

ولا أتذكر أنني غامرت بمقال يخوض في الارتباطات الخارجية لحزب العدالة والتنمية. لكن، عند قراءتي لعمود “نيني” الذي أشرت إليه آنفا، تبدَّت لي بعض الخيوط المتشابكة والمترابطة الكفيلة بتفسير وتوضيح الكثير من الأشياء المرتبطة بالمشروع الحقيقي لحزب العدالة والتنمية.

بعد المعطيات التي أوردها مدير جريدة “الأخبار” في عموده السالف الذكر، لم يعد مسموحا للمتتبع بأن يستهين بتخيير الدولة بين الاستمرار في الحكم أو الثورة، في تهديد واضح وابتزاز سياسي فاضح لا غبار عليه. فالموقف لا تمليه فقط الرغبة في الاستمرار في السلطة والاستفادة من امتيازاتها؛ بل يبدو أنه يندرج ضمن مخطط أمريكي يخص العالم العربي وشمال أفريقيا(مخطط “الشرق الأوسط الكبير”)، الذي يقوم على سياسة “الفوضى الخلاقة” و”صناعة الدولة الفاشلة”، ويعتمد، في تنفيذه، على الحركات الإسلامية(وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين) التي تربطها علاقات وطيدة بالولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة. 

ومما يعطي لكلام “نيني” أهمية ويضفي عليه كثيرا من المصداقية، كونه يرتكز، من بين ما يرتكز عليه، على عودة ما أسماه “موضة التدوين والمدونات”. وقد أشار في عموده إلى من أسماها بـ”الراعي الإعلامي الرسمي لمشاريع الخراب في العالم العربي”؛ ويقصد “الجزية” التي أطلقت، من جديد، موقعا للتدوين وبنفس الأسماء التي لجأت إليها في2011 ؛ مشيرا، في نفس الوقت، إلى أن هناك أصواتا “تتحدث عن ربيع جديد قادم حددوا له سنة 2017، وهو، يا للمصادفة، التاريخ نفسه الذي توقه مولاي هشام صاحب حلم ‘ثورة الكمون’ لانتفاضة المغاربة”، ليخلص إلى أن هذا يحدث “في ظل تخيير متواتر لقياديين في العدالة والتنمية للدولة بين عودتهم للحكم أو الثورة” قائلا: “ما يحدث ليس عفويا أو من قبيل المصادفة، بل مخطط له بدقة ساعة سويسرية”.

 وبمعنى آخر، فإن المعالم الحقيقية لمشروع العدالة والتنمية هي هذه التي بدأت تتضح، من جهة، من خلال الرغبة في بسط النفوذ والهيمنة على مؤسسات الدولة والمجتمع معا، ولو بالقوة والغصب؛ وهذا ما يفسر تهديدهم المباشر والعلني للدولة والمجتمع في حال عدم فوزهم في الانتخابات؛ ومن جهة أخرى، من خلال القرارات الاقتصادية والاجتماعية التي لا يمكن، في نهاية المطاف، إلا أن تتسبب في تآزيم الوضع العام؛ وذلك  بإضعاف النسيج الاقتصادي والاجتماعي؛ وبالتالي إضعاف الدولة وجعلها تتآكل من الداخل. وبهذا، سوف يساهمون في صناعة الدولة الفاشلة التي ستمكنهم من تحقيق مطمحهم بواسطة “الفوضى الخلاقة” أو “الثورة” أو “الفتنة” أو “القومة”، الخ.

لقد اعتمد “نيني” في عموده،على عمل هام، هو عبارة عن كتاب بعنوان ” الانقلاب المدني، وثائق الربيع الأمريكي، الجيل الرابع من حروب الاستعمار”، من إعداد وتأليف السيد عمرو عمار”، أصدرته، حسب ما هو مفهوم من صيغة العمود، مجلة “الملتقى” التي يديرها الأستاذ “عبد الصمد بلكبير”، في عددها الأخير وبمساهمة وزارة الثقافة المغربية (لم تتم الإشارة لا لرقم العدد ولا لتاريخ صدوره ولا لدار النشر؛ ويبدو أنه لم ينزل بعد إلى السوق).

وبحسب كاتب العمود، فإن المؤلَّف “يعتبر عددا مرجعيا لفهم المخططات الإستراتيجية التي تستهدف الوطن العربي في وحدته، وكذا المخططات التي تستهدف كل دولة على حدة في إطار إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تحت ما يسمى مشروع ‘الشرق الأوسط الكبير’ الذي أعلنت عنه الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس جورج بوش” (“نيني”).

وتجدر الإشارة إلى أن الدعم الأمريكي لحزب العدالة والتنمية لم يعد سرا والاتصالات بينهما أكدها رئيس المجلس الوطني للحزب السيد “عز الدين العثماني”. ولا نعتقد أن هذا الدعم يقدم لهم بدون مقابل.

  لكن هذا لا يعطينا الحق لا في الشك في وطنيهم ولا في اتهامهم بالعمالة أو التبعية؛ غير أن الكثير من المعطيات التي يقدمها لنا الواقع، تجعل من الصعب على المرء أن يلتزم الصمت أو الحياد. فما معنى أن يتزايد التعامل التجاري مع إسرائيل في عهد حكومة بنكيران، ونحن نعرف ما تمثله إسرائيل في مخطط أمريكا؟ وما الهدف من إغراق الدولة في الديون بشكل غير مسبوق، رغم انخفاض سعر البترول عالميا ورفع الدعم عن المواد الأساسية؟ وما السبب في تحقيق أضعف نسبة نمو؟ هل هو ضعف الأداء وانعدام الكفاءة؟ أم أن المسألة إرادية؟ لماذا جمدت الحكومة الحوار الاجتماعي رغم الإضرابات والمسيرات العمالية؟ لماذا تريد الحكومة أن تتخلص من القطاعات الاجتماعية، وبالأخص الصحة والتعليم؟ لما ذا ألغت التوظيف نهائيا؟ لماذا هجومها المتوالي على القدرة الشرائية لعموم المواطنين؟ لماذا الإصرار على ضرب المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والثقافية وغيرها؟ ولماذا…؟ ولماذا…؟ ولماذا…؟… أليس كل هذا يمهد لصناعة الدولة الفاشلة؟

*الاربعاء 24 غشت 2016.

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…