يختلط تعريف العلمانية لدى كثير من الناس مع الإلحاد، لدرجة أن إطلاق صفة “علماني” على أحد ما، يسمه تلقائيًا بصفة ملحد، وتأييد العلمانية يتعارض في مجتمعاتنا مع صيامك في رمضان مثلاً، أو ذهابك إلى الحج، لاسيما مع اعتيادنا على إطلاق الأحكام القطعية وتقييم الناس وفق أهوائنا.
لكن هذا الخلط لم يأت من فراغ، فبالنسبة للغرب وبعد عهود من تحكم الكنيسة بحياة الناس واستفرادها بالسلطة ومحاباتها للملوك باسم الدين، جعل المجتمعات الغربية تتحسس من موضوع تدخل الدين بالمفهوم الكنسي في شؤون السياسة، مما دفع بمفكريها ومنظريها إلى رفض إقحام الدين في الفلسفة السياسية تمامًا، لأن الدين بالنسبة لهم يقابل سلطة الإكراه والحد من الحرية الشخصية وحرمان الإنسان من حقوقه الطبيعية، لذلك نادوا بالعلمانية ليس بكونها فصل الدين عن السلطة السياسية فقط، وإنما بالدعوة للاهتمام بالحياة الحالية عوضًا عن الاهتمام بالحياة الآخرة، إنما خلصت العلمانية فيما بعد لتترك للأفراد حريتهم الدينية، طالما أنها لا تؤثر على حرية الآخرين.
ورغم أن الإسلام “الموروث” لا يقل تحكمًا برقاب العباد عما كانت عليه الكنيسة في الغرب، إلا أن قراءة التنزيل الحكيم وفق الأرضية المعرفية اليوم، تجد أن الإسلام لا يتعارض إطلاقًا مع مقومات المجتمع المدني ومع الحق الطبيعي للإنسان في الحرية، وعلى رأسها حرية المعتقد، وأنه لم يعط الحق لأحد بالحكم باسم الله على الأرض.
فالدين هو الانقياد والطاعة، والصفة الأساسية لأي دين هو تدخله بالحياة الشخصية للإنسان، فينقاد له بكل طواعية ودون إكراه، تحميه سلطة الضمير فقط، وأنت مثلاً تؤمن بالله لأنك تريد هذا الإيمان ولست مجبرًا عليه، وتتبع تعليماته برغبة منك ومن قناعة شخصية، فالدين لا يملك أداة الإكراه، وهذا ما نقرأه في قوله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 156) مع ملاحظة أن الإيمان بالله يوافقه الكفر بالطاغوت، أي رفض كل أنواع الإكراه التي تمارس على الإنسان مهما كان نوعها، وبالتالي الحرية هي العروة الوثقى، وعليها قامت خلافة الإنسان على هذه الأرض، وهي الأمانة التي حملناها، فالله ترك لنا التحرك بين الطاعة والمعصية أحرارًا في اختيارنا، على أن نتحمل مسؤولية خياراتنا في الآخرة، وكلما كان حقل حرية الاختيار كبيرًا في مجتمع ما، كانت كلمة الله عالية خفاقة فيه.
وكون الدين لا يملك أداة الإكراه، فهذا يعني حتمًا ألّا سلطة فيه، وأنه والسلطة خطان متوازيان مهما امتدا لا يلتقيان، فالسلطة من التسلط والقهر، والدولة لا تقوم لها قائمة من دون سلطة تحافظ على هيكليتها، بعكس الدين تمامًا، وسلطة الدولة يجب ألا تتدخل في حياة الإنسان الشخصية ولا العقائدية، وتنحصر مهمتها في السهر على ضبط المجتمع فقط، وليست مهمة الدولة إرسال الناس إلى الجنة وإبعادهم عن النار، وأطروحة الثواب والعقاب هي من اختصاص الله وحده، لا أحد غيره.
فإذا فصلنا الدين عن السياسة، يبرز السؤال: ماذا عن {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (المائدة 44) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة 45) و {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة 47)؟ أقول لقد جرى اقتطاع الآيات من سياقها، والله وصف بني إسرائيل بهذه الأوصاف لعدم خضوعهم للأحكام التشريعية التي أتت في شريعة موسى، والشرائع في الإسلام، منذ نوح وحتى محمد خضعت للتطور التدريجي، بحيث ختمت الرسالة المحمدية الرسالات بما هو رحمة للإنسانية، وإعلان جهوزيتها للتشريع لنفسها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة 3) وتميز الرسالة المحمدية بالعالمية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) تمثل في شموليتها لكل جوانب التشريع الإنساني، وحركتها بين حدود دنيا وعليا، مما جعلها تتمتع بمرونة توافق الفطرة الإنسانية، إلا أن الفقه الموروث هو من حولها لرسالة إصر وأغلال لا تمت لما أنزل الله بصلة.
فإذا بحثنا عما {أنزل الله} في التنزيل الحكيم من أحكام لنحكم بها بحيث لا ينطبق علينا صفات (الكافرون أو الفاسقون أو الظالمون)، آخذين بالاعتبار أن الحرام شمولي أبدي مغلق، بيد الله وحده، لوجدنا أن أحكام الله تختزل بمحرمات أربعة عشر، ولوجدنا أن أغلب السلطات في العالم، ديمقراطية كانت أو ديكتاتورية، دينية أم علمانية، مستبدة أم غير مستبدة، تحترم هذه المحرمات، فلا يوجد برلمان صوت مثلاً على الإيمان بالله واليوم الآخر، حتى في الدول الشيوعية التي تبنت عقيدة الإلحاد كان يمكن للمؤمن الاحتفاظ بإيمانه في قلبه، ولا يوجد برلمان عرض وحدانية الله للاستفتاء، أو بر الوالدين، أو منع قتل الأولاد أو السماح بممارسة الجنس علنيًا، أو الاقتراب من مال الأيتام أو الغش بالكيل والميزان أو نقض العهد أو شهادة الزور أو نكاح المحارم، أو منع أكل نوع معين من اللحم أو الإجبار عليه، أو غيرها، أما الشعائر فيفترض أنك تقيم الصلاة (خارج أوقات العمل) أينما كنت وتصوم وتنفق كذلك، وحريتك الدينية وحرية غيرك يجب أن تكون مصانة، وهذا ما تحققه الدول العلمانية “الزنديقة”.
وماذا عن الخلافة الإسلامية، والدولة الإسلامية؟ نقول إن أدلجة مفهوم الحاكمية الإلهية هو هدف يطرحه كل من يريد استعمال الإسلام للاستيلاء على السلطة، أما القرارات التي اتخذها النبي (ص) لتسيير أمور دولته فهي ليست حجة على أحد، ولا أسوة فيها، فقد اتخذها كقائد ولها بعد تاريخي فقط، ولأن النص النظري للرسالة لا يمكنه احتواء كل التطبيقات العملية لها، وإنما هي مهمة الجهد الإنساني وفق تغير الظروف الزمانية والمكانية، فهذا ما قام به الصحابة أيضًا، واجتهاداتهم إنسانية وليست دستورًا إلهيًا، وبالتالي فإن لجان الإفتاء لا تملك أي أهلية لتتحكم بالعباد وتوقع عن الله، سيما وأن هذه اللجان تقيس على الأموات كالشافعي وابن قيم الجوزية، وتجعل من كتب البخاري ومسلم مرجعًا، مما حول الناس إلى قطيع يحكمه “ذو الشوكة” ضمن علاقة راعٍ ورعية لا حقوق فيها للأفراد، ويضيع فيها مفهوم الوطن والمواطنة.
خلاصة القول، إن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، والناس بالنسبة له سواسية، يتميزون بقدر عملهم الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، ووضع بند “الإسلام دين الدولة” في أي دستور لا معنى له، بل يحمل مغالطة للتحكم برقاب الناس، والأفضل من هذا التركيز على دولة المؤسسات والقانون، بحيث يحكم فيها أمثال ميركل وترودو من خلال مؤسساتهم لا شخصهم.