اتسعت دائرة النقاش حول الأهداف التي يمكن أن تنبثق من الانتخابات القادمة، والجدل السياسي المصاحب لها، من جهة الشعارات المؤطرة لها. وفي هذا السياق كتب الأستاذ محمد جبرون مقالة عنونها بـ”التخلي عن أطروحة الانتقال الديمقراطي ومواجهة التحكم..”، وأستسمح الأستاذ والمتابعين إن حشرت نفسي المتواضعة في ثنايا المقال واعتبرته رجع الصدى لما كتبته في مقالة سابقة عن مقالته بأيام قليلة عنونتها ب” من الاستبداد إلى التحكم، مسيرة قرن في 5 سنين”.
ولكي أعطي الحق في أن أذهب مذهبا كهذا لأنه بدا لي كما لو أنه بدأ من حيث انتهى مقال للعبد الضعيف لربه ، حول الاستبداد والتحكم … وما يعزز بعض الغرور مني، أستسمحكم عليه، هو قوله “بناء نظام سياسي حديث في المغرب، والخروج النهائي من مأزق ثنائية التحكم/الديمقراطية، والقطع نهائيا مع تاريخ الصراع السياسي في البلد.. لا يحتاج، ولن يتحقق باستدعاء مقولة الانتقال الديمقراطي، وبعثها من جديد، وإنما إلى تأليف مبدع بين التقليد والحداثة السياسية بما يحفظ للملكية حضورها الفعلي، ويتيح للمواطنين المشاركة في السلطة، من خلال ممثليهم”.
ولعل الاستدعاء المتحدث عنه – والله أعلم – هو ما خلصت إليه في مقالتي المذكورة بالقول ” أليس الأجدى الحديث من منظور الانتقال الديمقراطي، أي من التراكم الذي تحقق بالفعل في ميدان السياسة والدولة، وبناءً على صرح كبير من الصراع الواضح، الذي ينطلق من داخل منطق دولة المغرب، كيانها وتاريخانيتها،هو الحل ربما للمعضلة؟..لأن جزءا في السياسة هو أيضا قضية قاموس…”.
ربما كان هذا الدفع بالشكل، كما في أقوال أهل القانون ما يستدرج العبد الضعيف لله إلى طرح بعض القضايا على هامش ما كتبه الأستاذ المجد محمد جبرون..
يدعو الأستاذ الكريم إلى ” تجاوز الصراع بين التحكم والديمقراطية ،نحو تأليف جديد بين التقليد والحداثة السياسية ، بما يحفظ للملكية حضورها الفعلي، ويتيح للمواطنين المشاركة في السلطة من خلال ممثليهم.”
ولنا أن نتساءل معه : من يمثل التقليد هنا ومن يمثل الحداثة؟ الإبدالات أو البراديغمات، ما زالت هي نفسها منذ بداية الاستقلال إلى الآن أم تغيرت؟
1 – أعتقد أن النظام في عهد الحسن الثاني السلطاني كان هو رمز التقليد ،بل هو الساهر على إعادة بعث روحه، في التعليم والسياسة والمجتمع الخ ، حتى كنا نقول مع هيجل أن التاريخ قد يتغير من أسوأ جانب فيه، عندما نرى بعض ملامح التغيير والمأسسة غير الفردانية للحكم، في حين كانت الحداثة السياسية المؤسساتية بإشراك الشعب عنوانا شاسعا للقوى الوطنية القديمة والفكرية.
اليوم علينا أن نتساءل عن التحديث والتقليد بـ”كاستينغ” آخر، تاريخي وملموس: الملكية مع محمد السادس والسياسة مع حزب يعلن محافظته المطلقة..بسقف دستوري جد منخفض عندما حانت اللحظة الإصلاحية، تجاوزته فيه حركات مماثلة في تونس مثلا.
وبالتالي علينا أن نجرب معادلة جديدة لا يكون رمز التقليد فيها من نعتقد..
2 – لعل المعضلة في الحداثة المغربية سياسيا على الأقل، كانت تعويضا عن … الديمقراطية! حيث إن البحث عن النجاعة الاقتصادية وتعويض الشعب بالتقنوقراط، كان مبررا لتعطيل جزء من السياسة بما هي تجسيد إرادة شعب ودولة.
3 – يبدو جليا أن هناك بحثا مضنيا عن “استثناء” مغربي في منظومة تخضع، جوهريا، لقانون التاريخ. والحال أننا نقر فعليا بوجود هذا الاستثناء في تدبير الاستعصاءات السياسية، والخروج من منطق المواجهة العنيفة، في لحظات مفصلية من تاريخ البلاد، غير أن هذا الاستثناء تم دوما بقرارين: قرار من صاحب السلطة وقرار الكيان المضاد له، تارة بالسلاح وتارة بالشارع وتارة بالثقافة السياسية التحديثية!.
وأنا أعتبر بأن الاستثناء جاء نتيجة “جدلية الفشل” المزدوجة: لا النظام استطاع القضاء على القوى المعارضة له، ولا القوى المعارضة له، لاسيما الحركة الاتحادية استطاعت القضاء عليه، فكان الجلوس إلى مائدة التاريخ ضرورة.
بل يمكن القول إن القوى اليسارية، جمعاء طالما وجدت حلا لمعضلات النظام نفسه، عندما كانت الأزمة تتحكم في أعلى الهرم (محاولات الانقلاب) أو عندما استعصى الوطن على معادلات الحرب الباردة (كما في قضية الصحراء)، دون أن تعتبر ذلك خدمة له بقدر ما هي خدمة للملكية بلا الملك الحسن الثاني، وخدمة للتعاقد الذي نعيش هذه الأيام أجواءه، بما هو خدمة للوطن.
(يتبع)
4 – في قاموس الانتقال الديمقراطي ما استوجب استدعاء مأزق المنهجية الديمقراطية: وهذه التسمية لم تكن تجريبا ناجحا في اللغة السياسية، ولا كانت شحنة بلاغية لقاموس يريد أن يخرج من التكرار المدرسي، بقدر ما كانت المقولة الأساسية لتسمية وضع سياسي ودستوري طارئ ، ما بين صلاحيات دستورية( الفصل 24 في دستور 1996) ونوازع سياسية في السلطة، أي بين ما يتيحه الدستور وما……. تمنعه الديمقراطية!
لهذا كانت لها قوتها في المغرب، وكانت لها مغربيتها الخاصة بها، من حيث تطور النظام السياسي..
اليوم نحن نعيش بالضبط أحد مآزق الإصلاح الهرمي، الإصلاح الذي تبادر فيه القوة المركزية “بتحكميتها” في إدارة القلق الذي نجم عن2011 . والحال أنه كان من الممكن أن يتقدم في 2010 بما تقدم به تحت نيران التاريخ الملتهب للمنطقة.. في تجاوب مع مذكرة 2009… الفريدة واليتيمة الخ ….
إذن نحن لا نعيش معضلة تتجاوز الزمان والمكان، ويمكنها أن تتخذ أي شكل ممكن، نحن أمام إحدى مآزق الإصلاح الهرمي:
أولها: لا وجود لقوة عميقة تنتسب لتيار واحد …يمكنها أن تتبنى الإصلاح الصاعد من العمق لوحدها ، إذ تحت يافطة الملكية البرلمانية استطاع التطور أن يحقق موجته من “العدل” إلى “النهج” مرورا بكل الطيف الإصلاحي باستثناء من استثنى نفسه.
ثانيها: ضعف مسايرة الهبة الإصلاحية يجعل من المنطقي أن نسأل:هل للقوة السياسية التي لم تبادر إلى المطالبة بالإصلاح أو دعمه في الشارع ما يكفي من القوة الشرعية لكي تطلب من بادر به هرميا بأن يؤوِّله لفائدتها؟
5 – الانتقال لا ينتهي أحيانا حتى بتحقق الديمقراطية! نعم، والتجربة الاسبانية أمامنا. وقد سبق للعبد الضعيف لربه أن كتب في مقالة سابقة ما يلي:” في اسبانيا هناك حديث فعلي عن ما بعد “اسبانيا الانتقال”، وتآكلها، وتعتبر كتابات سياسية متأنية وجادة ، (من قبيل ما كتبه اسحق روثا في يومية “لوموند” الصادرة في 28 يونيو)، تتحدث عن ما بعد الانتقال الأول، ولكن أيضا عن عيوب الانتقال الذي تودعه، ومنها 40 سنة من الدكتاتورية إضافة إلى نقط الضعف الكامنة في الانتقال نفسه.
يمكن، من باب المبالغة الحديث عن 40 سنة من السلطوية التي ميزت الحقل السياسي والحديث عن الفعالية عوض قوة التمثيلية الشعبية والسعي إلى الحداثة على حساب الديمقراطية، كعناصر تعطيل الانتقال ، إضافة إلى ما سام الانتقال نفسه من عيوب، والتي زاد الفساد الإداري والمجتمعي من تراكمها..كما يمكن الحديث عن “دورة تجريبية في الانتقال المغربي” بسبب تجديد إشكالاته مع صعود قوى الإسلام السياسي وتغيير إبدالاته أي من البحث عن تراكم الإصلاح إلى السعي إلى تراكم .. الثقة!
لقد تحررت المنهجية الديمقراطية بدخولها الدستور، في سنة 2011، ولم يعد من المقبول بتاتا التراجع عنها، كما تحقق التلازم بين ما يريده الدستور وما تريده الديمقراطية في التعيين من الحزب الأول في الانتخابات!
6 – التحكم في تقدير عبد الإله بنكيران هو التعبير عن سلطة المحيط الملكي، وقد سبق له أن أوضح ذلك بالقول “كفانا من الوساطة”، نريد لقاء مباشرا مع الشعب، والتحكم هو أيضا امتدادات المحيط الملكي في الدائرة الخاصة بقوة القرار..
لهذا سبق أن طرح ضرورة العمل في الشرعية من أجل “تطهير محيط إمارة المومنين” من كل عناصر التغريب والماركسية والعلمانية..
وقد طرح هذا قبل دخوله الشرعية وقبل دخوله الانتخابات ،وقبل دخوله المؤسسات، وبالتالي فالحرب سابقة عن السيادة الشعبية وعن الانتخابات وعن الشعب…!
إننا في قلب فهمه لدور نظام الحكم ، كما يفهمه هو نفسه!
وقد سبق له أن قال “حتى إذا أراد الملك أو رئيس الدولة أن تسير الأمور في الاتجاه الصحيح، هناك احتمال كبير ألا يكون ذلك ممكنا. أدركنا أن النخبة التي أمسكت زمام السلطة بعد الحماية هي نخبة تم أهم جزء من تكوينها في أوروبا وأن رؤيتها للأمور أكثر غربية( حوار في كتاب الإسلام السياسي صوت الجنوب أجراه مؤلفه فرانسوا بورجا مع الأستاذ عبد الإله بنكيران )” وطبعا لن تستقيم الأمور مع هذه النخبة، التي سبق أن تعرضت للقصف من لدن أحمد الريسوني، حتى أنه قال “تغلغل الإلحاد في الدولة”..!
7 – لا يمكن أن نعفي أنفسنا من ضرورة بناء الشرعية.. في التحليل من خلال بناء القاموس السياسي الخاص بالتجربة، لكنه في نهاية المطاف لا يعني استثناء دائما.
ستكون الحالة المغربية استثناء في الدائرة العربية الإسلامية، وهي المقصودة بالمقارنة،عندما لن تكون استثناء في المنظومة الديمقراطية وضمن المنتظم الديمقراطي كما هو متعارف عليه عالميا.. وبهذا المعنى فلن يحصل هذا الاستثناء الأصيل بدون حصول انتقال ديمقراطي..كامل…
صحيح ، لا بد لهذا النجاح من وجود شرعيات للبناء، لا بد من أن نسأل :هل هناك “عقلانية ديمقراطية” ، يمكنها أن تفسر الانتقالات كما تحصل، وهنا لا بد من أن تخضع التجربة لمحك النموذج أي يخوض كل بلد تجربته في الانتقال على أن تفضي في النهاية إلى نتيجة بدهية هي “وجود سلط تنفيذية وتشريعية وقضائية ناجمة عن الديمقراطية الجديدة ولا تقتسم السلطة مع أي جسم قانوني آخر”.. كبنية دالة على المفهوم !
8 – لقد وضعنا الأستاذ محمد جبرون في منطقة خلاء no mans land بين التحكم والانتقال الديمقراطي، ودعانا إلى ترقب تحولات المغرب في أن تحدث طفرة تاريخية منتظرة، لا تخلو من قليل من المهدوية المبشرة، بالنظام الاستثنائي.. لكن من المحقق أن الأستاذ جبرون يحاول أن يُفَعِّل العقل السياسي في معضلة مغربية، بمعادلة مغربية، تسير نحو الاستعصاء إذا ما نحن قاربناها بشبكة قراءة .. غير قاموس الانتقال الديمقراطي!.