في ظل الأحداث والتحولات الخطرة التي تشهدها الأمة الإسلامية اليوم، قد ينجذب كثيرون إلى متابعة التصريف اليومي والجزئي لأحداثها، والذهول عن مكامن الخلل العميقة والمتجذرة فيها.
فنحن أمام “جواهر” و”أعراض” في العلل الفكرية، شبيهة بمثيلاتها في العلل البدنية. فكُلما حدث في الأمة حادث أليم إلا وهرع الناس الى متابعته سطحا وظاهرا، وإن كان هذا أمرا لا مفر منه، فإن الاشكال هو في كونه يحجب أصله الباعث له، بل ويُنْسَى وكأن لا اعتبار له. وتلك آفة عظيمة حينما لا ندرك الصراع ـ كما يقول ابن نبي رحمه الله ـ الا في البُعد الذي يثير فيه ضجيجا (كضجيج الطائرات والصواريخوالدبابات..)، أما حينما يكون عملا فنيا صامتا وعميقا (علميا أوثقافيا،أوقيميا تربويا..)، فإنه لا يثير اهتمامنا، وذلك بحكم الأوضاع النفسية والفكرية التي نحن عليها منذ الحقبة الاستعمارية على الأقل. وحسب الكاتب منذ (إنسان ما بعد الموحدين).
فالأصل أنه كلما وقعت في الأمة واقعة، إلا وكانت باعثة ومحفزة على الاتجاه الى إصلاح عمقها وأصلها أكثر من الانشغال بأعراضها. ولقد كنت ـ منذ أزيد من عقد ـ في دولة أوروبية وقد نزل ترتيبها حينها بحسب مؤشرات أو معايير التنمية الدولية في مجال التربية ثلاث أو أربع درجات، فلم يكن هنالك ضجيج ولا نقاش كبير، بل قررت الدولة فورا التدريس في أشهر العطلة الصيفية وتحمل النفقات والتعويضات اللازمة استدراكا لنقط التخلف وتحسينا للرتبة. ومثل ذلك حدث في الولايات المتحدة، لما تقدمها الاتحاد السوفياتي سابقا في طور من أطوار غزو الفضاء، فأعلنت النفير في مقرراتها ونظمها العلمية والتعليمية.
إننا هنا لا نقارن بين نموذجنا وبين هذه النماذج، فهذا “المنهج”ـ[منهج المقارنات]ـ هو كذلك من آفاتنا الفكرية ومشكلاتنا الثقافية، بل ننبه الى منهج يمكن إعماله في أي نموذج بمقوماته وإمكاناته الذاتية مهما كانت متواضعة، والتي بإمكانها أن تثمر إذا وضعت على سُنة التغيير الحقة.
وإذا كان “المرابطون” في الأمة، على جبهة تداول العلل الظاهرة في التدبير والتصريف اليومي كثيرون إلى درجة التضخم والتنازع، فإن “المرابطين” على جبهة العلل الباطنة هم بالقلة والندرة الى درجة من العجز والقصور عن إحداث الوعيوالتغيير المطلوب.وما لم تعط الأولوية في مجال الإصلاح للعمق العلمي والفكري، والتربوي القيمي، والمنهجي السنني في التغيير.. لإنقاذ الأجيال المقبلة من الآفات والاختلالات الموجودة فينا وقبلنا، فلن نكون قد قمنا بشيء يذكر من هذا الواجب، وسَنُوَرثهم -كماورِثنا-عناصر الأزمة لإعادة إنتاجها من جديد، تستمر فيهم العلل الباطنة لتُوَلِد أعراضا ظاهرة،الله وحده أعلم بالشكل والصورة التي ستأخذها حينذاك.
إن المسلمين للأسف يقدمون مبررات لكل ما يحدث لهم، لما انقلب فيهم ولديهم سلم الأولويات والمراتب في الدين والدنيا معا..!!
إننا لم نتحرر بعد من أسر “الشعارات” السطحية التي ليست وظيفتها لدى البعض إلا الحشد والاستقطاب وتكثير السواد، ولدى آخرينالسيطرة على العقول وقيادتها إلى الفتنةوالخراب.!
إننا لم نتجه بعد إلى بناء المضامين العلمية والمعرفية التي تؤطر تلك العقول وتقودها إلى البناء والعطاءالمشترك.!
ألم يبتدئ الإسلام بكلمة هي “إقرأ”، أليست هذه الكلمة دالة على أن مشروع الأمة، في سعادتها الدينية والدنيوية، وإسعاد الناس من حولها، هي في مدى تمكنها من القراءة علمابالدين والدنيا معا..؟!
لقد رفعت الحركة الإصلاحية الحديثة ـ”النهضوية السلفية”ـ شعارات كثيرة من قبيل: الوحدة الجامعة، والتحرر، والنهضة، والتقدم، والتحديث، وإصلاح نظم التربية والتعليم، والسياسة العامة، وتحريك آلية التجديد الفكري والفقهي بدل الركون الى التقليد، ورفع تحدي الانبهار بالغرب ونماذجه الساحرة، والنظر في إمكانات وممكنات التفعيل اجتهادا ذاتيا أو تفاعلا مع الغير.. إلخ. أثمرت بعض تلك الجهود ولم يثمر بعضها الآخر، لكن كان عطاؤها العلمي مواز ومكافئ تقريبا للشعارات التي حملتها، وكانت بحق “مشاريع” وأوراش إصلاحية كبرى، ونبغ في ذلك علماء ومفكرون كبار مشرقا ومغربا، وخلفوا في كل ذلك إرثا معرفيا كبيرا مازال مركونا في مدوناتهم وأعمالهم الكاملة، التي لم تكن للأسف أرضيةَ انطلاق “الحركات” التي جاءت بعدُ والتي لم يكن همها الأساس كما كان همهم: العلم والمعرفة، مدخلا للإصلاح.
ورفعت كثير من “الحركات الإسلامية” على امتداد جغرافيا العالم الاسلامي كذلك شعارات كثيرة، فيها تراجع كبير عن الأطروحات الاصلاحية الأولى. بحيث هيمنت عليها، ولا تزال، قضايا ومواقف هي أقرب الى البحث عن “الشرعية” منها الى حمل مشروع. وكان عطاؤها العلمي أقل بكثير من تلك الشعارات، إذا ما استثنينا كتابات قلة من الرموز الفكرية والدعوية والتي يمكن التمييز فيها كذلك بين “المشترك العام” الذي يستفيد منه الجميع وهو قليل، وبين “المحكوم” بمنظور و”منهج” أو سقف الحركة والتنظيم وهو الغالب. مما رسخ حالة التقاطب الفكري والدعوي بين المكونات الاسلامية نفسها، فضلا عن غيرها من المكونات الفكرية الأخرى قريبة كانت من رسالة الاسلام أو بعيدة عنها.
وهذا من شأنه أن يجعلهاتطرح أسئلة عميقة حول المنتوج والمردودية أو حصاد حوالي ستة أو سبعة عقود، أكثر أو اقل بحسب التجارب، لكننا أمام جيل أو جيلين من ناشئتها في مجتمعات الأمة، أسئلة حول ترقية الوعي والفكر الديني علما وتفقها، حول العلم والمعرفة ورتبتهما في سلم الاهتمامات، حول القدوة في السلوك القيمي والأخلاقي العام،حول الحضور النافع المندمج والمسهم في مسارات التنمية المختلفة، حول ترسيخ مقومات الوحدة الوطنية والهوية المشتركة، حول التفاعل الواعي مع رهانات وتحديات الحداثة والعولمة…الخ ؟؟ وفي جملة: حول نموذج التدين الذي ينبغي أن يكون قدوة هادية لغيره بعد تشبعه بقيم الهداية في نفسه.
لكن كيف إذا كانت كثير من الاختلالات التي جاءت هذه الحركات لإصلاحها قد غدت جزءا لا يتجزأ من بنيتها الحركية بل والفكرية!!.
هذا التقاطب سيتحول الى تنافس وصراع سياسي حينما ستجتال وتغتال “السياسة الجزئية” ما تبقى في تلك الحركات والتنظيمات من شعارات: “الدعوة”، و”التربية”، و”الاصلاح”، و”التغيير”، و”الحكم الراشد”، و”الحل الاسلامي”، و”تطبيق الشريعة”، و”الدين والدولة”…الخ. وبغض النظر عن المعاني والدلالات التي أعطيت لتلك “الشعارات” من حيث بناؤها العلمي والمنهجي، فإنها لما وُضعت أمام أول اختبار لم تجد أرضية صلبة تستند اليها، أوعمقا فقهيا وفكريا مواكبا قادرا على امدادها بإجابات مقنعة في رفع التحديات والمشكلات، وتدبير مساحات المشترك والاختلاف..، مما جعل بعضها يضعف ويتلاشى، وبعضها ينسحب ويتراجع، وبعضها يقاوم معاكسا للتيار.
وتجنبا للمنظور العدمي التعميمي المنكر لإيجابيات بعض التنظيمات، الحركية أو السلفية المعتدلة، في حفاظها على: التوسط والاعتدال في تدين أتباعها، وتجنيبهم آفات التشدد والسقوط في حبائل الاستقطاب الجهادي خصوصا، وحرصها على أمن واستقرار بلدانها، واشتغالها وفق شرعية القانون والمؤسسات، وحسن تواصلها وتدبيرها للاختلاف مع باقي المكونات، وتدافعها في تقليل الخسائر وتقديم النفع الممكن… إلخ. فإن كل ذلك وإن كان حاصلا على قلته، يبقى محدود النفاذ والتأثير لانجذابه المتوالي الى السطح أكثر من العمق، وتعرضه للإفراغ التدريجي لما تبقى من حمولته القيمية والتربوية، واستنزاف طاقاته الى أن يصير من غير وزن.
فالأمة أحوج ما تكون الى مراجعةٍ وإصلاحٍ في بنياتها “التحتية” العميقة أكثر من مظاهرها وتجلياتها السطحية، ولا يخفى أنه بحصول قدر كاف من الانصلاح في الأولى تنصلح به ضرورة الثانية ولا عكس.
وترفع اليوم مكونات مختلفة لها أسماء لا عد لها ولا حصر، “شعارات” مأخوذة من آيات وأحاديث لا تكاد تربطها بفقه تلك الآيات والأحاديث صلة، بل لها “فقه” ذو خطورة كبيرة عليها وعلى كيان الأمة عامة، وعت ذلك أو لم تع به. مكونات ناشئة عن تركيب غير متجانس من مرجعية “سلفية” ومنهجية “حركية”. من انتماء “سلفي” فيه جمود على الفهم الحرفي للنصوص غير مراع ولا معتبر للتطورات الهائلة في مرافق الحياة المختلفة والتحديات المواكبة لها، ومنهج “حركي تنظيمي” فيه ترويج وتنزيل لمضامين لاعلاقة لها بالواقع،تقدم نموذجا عنالتدين في الأمة هو أبعد ما يكون عن روح الدين والتشريع وعن خدمة قضايا الأمة.
ولا ندري هل هي ناشئة عن قصور أداء الحركات الأولى، أم عن جور واستبداد المسؤولين في بلدانها، أم بأيد خارجية قصدها إضعاف الأمة أكثر بالفتنة والاحتراب بين أبنائها، وبالتجزئة والتقسيم في بلدانها، أم عن ذلك كله.!
والأخطر من ذلك أن تكون الفتنة بأسماء وشعارات الدين نفسه، وخصوصا ذات التأثير القوي والنفاذ السريع لدى كثير من المتدينين من رواد السطح والظاهر، توهما منهم أنهم في حركة استرجاع لـ “الدين الحق تماما كما كان”، في حين أنهم “موظفون” في مخطط لتشويه مرجعية الدين والتدين، بإفساد المعاني والدلالات والقيم السامية فيهما، والتي لا تمتلكها الجهات المُوَظِفة ولم يعد لديها ما تقدمه للناس.
أخطر هذه الشعارات اليوم شعار “الخلافة”، في شكلها “الداعشي”، أو “السلفي”، أو “الحركي”، وهناك من يتحدث عن “الفارسي”، و”العثماني”، و”الأندلسي”.. أو غيره. وشعار “الجهاد” حصرا له في المعنى القتالي دون سائر المعاني. وشعار “إقامة الحدود” عنوانا على “إسلامية النموذج” و”تطبيق الشريعة”..!!
وإن يكن بين هذه المكونات من الفروق والاختلافات التي لا تنكر، فإن الجامع بينها يبقى: “الشعار”. والناظر الى تلك الشعارات، بميزان الشرع نفسه، يجدها كلها من أحكام الامامة التييدبرها ويقرر فيها “الامام”، “ولي الأمر”، أو من ينيبه ويُوَليه على ذلك. وليس الأفراد ولا الجماعات ولا الفرق ولا الحركات ولا الطوائف..، وقصد الشارع في إناطتها بولي الأمر واضح في سد منافذ الانفلات، ونزع فتيل الفتنة من أيدي الناس، بجعلها في يد السلطة المخولة قانونا بحفظ النظام العام.
نعم، قد يقال: وماذا لو فسد النظام؟ ولم يقم ولي الأمر بواجبه..؟ أقول: ـ وأنا هنا لا أدافع عن نظام ولا أتهم حركات وإنما أناقش فكرا وتصرفات ـ على طارح هذه الأسئلة، أن ينظر الى التشريع ـ (قرآنا وسنة وسيرة) ـ وهو يقرر مراتب المصالح والمفاسد، والمعروف والمنكر.. والطرائق المختلفة في الإصلاح والتقويم، وأن يستنير في ذلك بسير جمهور علماء الأمة في إصلاح الأوضاع المختلة.
فسوف يرى أن الأصل هو التمكين المتدرج لقيم الدين التي بموجبها تنصلح الأوضاع. أما التنازع على السلطة والحكم فلم تكن نتيجته الا ما وقع في تاريخ الأمة قديما، وما نراه في حاضرها راهنا، من تقطع أوصالها، وتفرق كيانها، وعداوة أبنائها، واستباحة الدماء والأموال والأعراض فيها…!!
فأي إصلاح هذا الذي تترتب عليه كل هذه المفاسد؟؟ وهل جاء الدين أصلا إلا لوحدة الكلمة، وجمع الصف، وحقن الدماء، وصون الأموال والأعراض، وضمان الكرامة والحرية، والعدل والانصاف بين الناس…!!
نعم، نحن أمام تصرفات مناقضة لروح الدين والتشريع ومقاصده الكبرى، وإن نطقت باسمه وحملت شعاراته. ولنعد الى الشعارات أعلاه، فلم تكن الخلافة أو الامامة في القديم الا وسيلة “لحراسة الدين وسياسة الدنيا به” كما عرفها علماء السياسة الشرعية، أي التمكين لقيم الدين وأحكامه مع مراعاة أصوله وفروعه، وكلياته وجزئياته، والمراتب المقررة فيها، والمرونة والتدرج المطلوب، والموازنة بين المصالح والمفاسد، واعتبار الواقع ومقصد الشارع في التنزيل..، وغيرها من المقتضيات التصورية والمنهجية التي لم يعد لها أي اعتبار لدى كثير من المتدينين اليوم، الذين أصبح همهم “الالتزام” بصور وأشكال من التدين كما “فهموها”، وإلزام الآخرين بها.!
لم يُلزم القرانُ ولا السنةُ المسلمين بشكل أو نظام سياسي معين، بقدر ما ألزماهم بقيم وأخلاق معينة. فترى كثيرين منهم للأسف، يسارعون الى ما لم يُلزموا به ويُهملون ما أُلزموا به..!! لقد تحدث القران عن الخلافة وعن الامامة وعن الملك.. ولم يُلزِم بشكل منها بل ترك الأمر للاجتهاد، فأيا منها كان أقدر على خدمة قيم ومبادئ الدين كان هو المعتبر شرعا. وإن تحدثت السنة عن الخلافة فليس الا في اتجاه تقرير المعنى نفسه، أي الحرص على المضمون والجوهر لا على الشكل والمظهر.
فما تعني “خلافة” لا حُرمة ولا حق ولا حرية ولا عدل ولا إنصاف… فيها لآدمي؟!
ولكم كانت دهشتي كبيرة حينما أخبرني صديق عزيز أنه قرأ في أحد المواقع “الجهادية” أن أحد “المنظرين” للخلافة قال: “الحمد لله أننا أحيينا سنة الاسترقاق”!!. نعم، “الاسترقاق” وفق هذا المنظور غدا “سنة”!!. هذا رغم وضوح النصوص في محاصرته وتضييق مساحته في اتجاه إلغائه، بعد أن كان مستشريا في النظم القديمة قبل البعثة لدى العرب والعجم معا، تحريرا للإنسان وصونا لكرامته.
فإذا جاز للمسلمين أن يفخروا بإنجاز تاريخي إنساني وعالمي حققته رسالتهم، فهذا واحد من أعظم تلك الإنجازات الكبرى التي لا تسر نظما استبدادية كبرى في العالم اليوم، تتحكم في رقاب الشعوب وتستعبدهم تحت أسماء وهمية هي أيضا “شعارات”، لكنها توظف في ذلك أياد مسلمة بعد أن لم تفلح بوسائطها المباشرة باعتبارها خصما واضحا.
أما صاحبنا “المنظر”، فخطأه كامن في كونه استنسخ نموذجا بكامل طقمه وحمولته التي كانت في سياقه وزمانه، ولم يراع في ذلك لا تطورا في التشريع، ولا مقصدا في الشريعة، ولا تغير أحوال وأزمنة وأمكنة وعادات. فإذا كان نظام الرق قد لازم الخلافة قديما، فإن إحياءها ـ في نظره ـ مستلزم لإحيائه كذلك، وإحياء كل الطقوس والرموز المصاحبة لها!. فانظر الى درجة الانقلاب في فهم الدين والتشريع حينما يُجعل الثابت متغيرا والمتغير ثابتا، ويُعارض مقصد الدين في الحرية والتحرير بضده الذي هو الرق والاستعباد!.
أما “الجهاد” فلم يتبق منه في المنظور السالف الا معناه القتالي، مع استباحته للجميع أفرادا أو جماعات. فكل من يرى “منكرا” حسب ذوقه وفهمه يحمل السلاح لتغييره!. وقد تقدم أنه من أحكام الامامة يأذن فيه ويأمر به ولي الأمر درء للفتنة والتنازع، كذا كان في السيرة النبوية وعلى عهد الخلفاء قبل أن ينفرط عقد النظام والوحدة في الأمة. كما أن تشريع القتال في الإسلام لم يكن إلا دفعا للعدوان وصدا للمحاربة، فكيف وقد وقع المسلمون بعضهم في دماء بعض مستحلينها بالتكفير والإخراج من الملة، رغم العقوبة المغلظة والمشددة في قتل النفس بغير حق. أو في دماء غيرهم مستحلينها بالخلاف في الملة، علما بأن التشريع لم يراع في أمره بالقتال الخلاف في الملة وإنما العدوان والمحاربة. فهذا القران يدعونا الى محاورة ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، والى بِرِّهِم والقسط إليهم ما لم يكونوا مقاتلين أو محاربين. وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية، وظهر عليهم في مكة ولم يُبدهم، وأرسل بعض صحابته في مطلع الدعوة الى مخالف في الملة لعدله وانصافه في الحبشة. و”آية السيف” الواردة في سورة براءة أو التوبة في قتال المشركين، لم تنسخ ـ كما قيل ـ ما قبلها من قيم وأحكام كلية في الدين منسجمة مع فلسفة وروح رسالته، في الهداية والرحمة والعدل والبر والقسط والإحسان…، وغيرها من القيم التي بها كَمُل الدين وتمت النعمة، وبها سيُظهره الله تعالى، وبها سيكون صلاح ورثة الأرض.
وكل تلك مجالات فسيحة لمجاهدة النفس فيها أفرادا وجماعات تزكية وترقية، وقد نزلت آيات في الجهاد في مكة بهذا المعنى قبل تشريع المعنى القتالي في المدينة، هذا فضلا عن السنن والاثار الواردة في المعنى العام للجهاد، والتي لا اعتبار لها وفق هذا المنظور، رغم رجاحتها على كثير من “السنن” الفرعية أو “الشكلية” التي هي أقرب الى العادة منها الى العبادة، وأقيمت مقام الأصول والكليات من الدين!.
لا يدرك هؤلاء أن حرص “بعض القوى” على ربط الجهاد بالقتال لا غير، وتحريض “متدينين” عليه، ثم المطالبة بعد ذلك بسحبه من التداول، إنما الهدف منه إضعاف المعنى العام فيه في مجال القيم والمبادئ والمعاني الأساسية في الحياة، التي هي مصدر قوة المسلمين وروح وجوهر رسالتهم. فمنها تخاف تلك القوى للفقر الزاحف عليها في هذا المجال، وليس من العتاد والعدة القتالية التي هي مصدر “الابداع” فيها، تمد بفتات منها غيرها في الليل وتلعنه بالنهار!.
لا أتردد في القول بأن ساحة الجهاد الحقيقية اليوم هي “المعنى في الحياة”، وأن أسلحتها الثقيلة هي “القيم والأخلاق”. والبشرية اليوم تبحث عن النموذج الأقوم وليس الأقوى، بعد أن أنهكتها الحروب والصراعات، وأنهكها اللهاث وراء المتع واللذات الزائفة المفقرة للكينونة والذات.
من أغرب ما نقف عليه في هذا السياق أيضا كون بعض “المتدينين”، في بلاد المسلمين وفي البلاد الغربية كذلك، لا يزالون يرفعون شعار تقسيم الدور الى “دار سلم وإيمان، ودار حرب وكفر”، علما بأن هذا التقسيم لم يعد له مبرر عندما اتسعت دار الإسلام، وعندما أصبح المسلم آمنا على نفسه مقيما لشعائره ومتمتعا بحقوقه. كان هذا الشعار حينما لم يكن للمسلم أمن وسلم الا في داره، فإذا خرج منها لم يجد الا الحرب. فما مبرره اليوم والمسلمون في الغرب قد ناهزوا أو تجاوزوا ثلاثين مليون نسمة، أكثر ـ ديموغرافيا ـ بكثير من كثير من دول الإسلام. وليس عليهم الا أن يكونوا نموذجا وقدوة في السلم الذي هو ثمرة الإسلام، وفي الأمن الذي هو ثمرة الايمان، ودعما للقيم الإيجابية والإنسانية المشتركة، فمرجعيتهم تسمح لهم بالامتداد والسياحة في الآفاق العلمية والمعرفية الإنسانية والكونية كلها لو تدبروها.
أما جعل “إقامة الحدود” عنوانا ومؤشرا على “إسلامية وشرعية” الدولة أو النظام، فهو أيضا إخلال بمراتب الأحكام. فليست الحدود والتعزيرات هي التشريع ولا هي مرادة لذاتها فيه. فكيف لبلد أو آخر، أنهكه الفقر واخترمته الأمية ومزقه الصراع… وحتى إذا سلم من هذه الآفات أو بعضها وُجدت فيه أخرى، يكون أسرع الى إقامة الحدود منه الى إقامة ما يبررها، أي أصول التشريع في: العدل والكرامة والانصاف، والتربية والتكافل والإعفاف…، حتى إذا تعدى فيها متعد الحد أقيم عليه. فالدولة التي تجتهد على هذا المستوى هي أقرب الى التشريع وروحه من غيرها.
هذا فضلا عن كون الحدود زواجر وروادع من أجل سلامة الأصول في التدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، ودرؤها ولو بالشبهات العارضة مقدم على إيقاعها. والنماذج في هذا كثيرة من القران والسنة، فكيف يُقدم ما أخره الشرع ويُؤخر ما قدمه، وكيف تختزل الشريعة التي هي عدل كلها ورحمة كلها في الحدود، وكيف تتم الدعوة الى هذا الدين بهذا المنطق؟!.
إن الأمر هنا أشبه ما يكون بما تقدم في الجهاد، أي دفع بعض “المتدينين” دون وعي منهم، الى التنفير من الشريعة بدل التبشير بها، والتعسير فيها بدل التيسير، والترغيب عنها بدل الترغيب فيها.
نعم، قد يكون المرء خصما لمشروعه وسببا في نقضه دونما وعي منه وإن حسنت نيته، حينما تنقلب لديه مراتب الأحكام والقيم ومقاصدها وغاياتها، وحينما تتضخم ذاته ظاهرا أو سطحا دون أن يواكبها بناء باطنا أو عمقا.
ثمة تفاصيل لم أرد الاطالة بها أكثر، وما تقدم هو مجرد رأي وخلاصة أكثر منه بحثا أكاديميا موثقا، حول قضايا تهم المسلمين جميعا في تدينهم، قد يكون فيه من الصواب مثل ما فيه من الخطأ أو العكس. بقي في الأخير أن أشير الى أمرين:
ـ أولهما أن نقد “الشعار” ليس رفضا له بقدر ما هو دعوة الى ملئه بالمضمون المناسب، وأن كل ما وضع بين حاصرتين (“…”) هو ليس على اطلاقه، ففيه تقييد أو تفصيل يرجى الانتباه إليه، أو نقل محصور كما هو، معزو لقائله أو متداول في عموم الخطاب.
ـ ثانيهما أن خطورة “الشعار” الذي لا مضمون له، ليست متوقفة على الخطاب الديني وحده وإن كانت فيه أهم لتعلقها بالدين والتدين، فهي موجودة في كل الخطابات. ونجد لها مقابلات كثيرة في الخطاب اللاديني كذلك، الذي بقيت معظم شعاراته “أحلاما” و”تطلعات” أكثر منها واقعا وإنجازات. أرجو أن يسعف الوقت في الحديث عنها لاحقا إن شاء الله، والله تعالى الموفق للصواب.
سعيد شبار (كلية الآداب بني ملال).