لا نرمي من هذه المقالة إعطاء الأجوبة القاطعة في ما سيؤول له القضاء بعد دخول دستور 2011 حيز التطبيق، لسبب بسيط وهو أني لا أمتلك الأدوات والآليات التي تمكن من التنبؤ بالمستقبل.
لكن، سيكون مفيدا أن يفتح نقاش وطني عام حول التطور الذي نريده لقضائنا في ظل دستور 2011.
وأريد أن أستبق أي تساؤل قد تثيره الفقرة المعبرة عليها أعلاه للقول أن دستور 2011 و إن احدث مؤسسة جديدة و نص على مقتضيات دستورية جديدة إلى أن تفاصيل القواعد المبدئية والمؤسسة لهده المؤسسة لازالت تنتظر آليه أخرى، هي المؤهلة للدخول في التفاصيل ألا وهي القانون التنظيمي الأول الخاص بالنظام الأساسي للقضاء والثاني الخاص بتنظيم انتخاب وسير المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
وإذا كنا منذ بداية التسعينات نطالب بفتح نقاش وطني حول مؤسسة القضاء سواء في قلب البرلمان أو في جميع التظاهرات العلمية والثقافية التي لها علاقة بالقضاء، فإن ذلك المطلب أصبح اليوم واقعا معاشا أتيحت لكل المواطنات والمواطنين والفاعلين السياسيين والقضائيين الاستماع لكل من له رأي حول هذه المؤسسة، وتوزعت الآراء من مدافع إلى مناهض أو منتقد أو حتى أحيانا متعصب لوجهة نظر أصبحت معزولة بحكم تطور النقاش المجتمعي الذي لم تبق تحكمه نفس المعايير التي كانت سارية في الماضي.
غير أن من العدل والإنصاف ، والقول بأن كل ذلك النقاش، وكل تلك الآراء بالرغم من الاختلاف مع بعضها , كان لها الوقع الحسن والأثر الايجابي على الإخراج الذي قدمه دستور 2011 لهذه المؤسسة.
عندما نقرأ و نحاول أن نفهم أن ما حمله دستور 2011 في مجال القضاء, نلاحظ انه كان بالفعل جريئا وناقلا لهذه المؤسسة من وضعها الحالي إلى وضع أكثر تقدما , بمفهوم, أكثر مسؤولية.
وسنحاول في هذا المقال أن نقدم رأيا حول مفهوم القضاء في دستور 2011 أملي أن نفتح به نقاشا حول هذه المؤسسة الدستورية التي سيكون لها ما بعدها .
وسنحاول تناول هذا الموضوع من الجوانب التالية:
-حجم المسافة بين سلطات الملك وسلطة القضاء.
-مفهوم استقلال القضاء في دستور 2011.
وقبل محاولة الإحاطة بالنقط المشار إليها أعلاه ، من الضروري الإشارة إلى أن محاولة مقاربة المفهوم الحقيقي للسلطة القضائية في دستور 2011 لا يتأتى فقط بالإطلاع على الفصل 107 إلى 126 من الدستور. وإنما لابد من استحضار فصول أخرى منها الفصل 124 و125و 147 و148. وهي فصول تساعد على فهم بعض المقتضيات التي قد تظهر فيها ما قد يوصف بالنقص أو الغموض وهو ما سنحاول تناوله في النقط التالية:
حجم المسافة بين سلطات الملك والسلطة القضائية:
في مقال سبق لي تحت عنوان لماذا نصوت بنعم على مشروع الدستور, و الذي نشر في العدد 9823 يوم الخميس 30-06-2011 في جريدة الإتحاد الإشتراكي , حاولت تقديم فهم للتحول الذي عرفته سلطات جلالة الملك في دستور 2011 في العلاقة مع الحكومة و مع رئسها.
غير أن ذلك التحول لم يقتصر فقط على السلطة التنفيذية وإنما يمكننا أن نلاحظه كذلك في سلطة جد مهمة وفاعلة ومقررة في كل نظام ديمقراطي وهي القضاة.
ويمكن إجمال ذلك التحول في نوع من المسافة التي اخدتها سلطات الملك في علاقتها مع سلطات القضاء، بالنظر لما كان عليه الأمر في الدستور الحالي، أي دستور 1996.
و كما تتمظهر سمات تلك المسافة في تعيين القضاء , نلاحظها كذلك في عزلهم، بل وفي مجال التفويض الموضوع على عاتقهم في الحكم باسم الملك.
ذلك أنه منذ دستور 1962 والقواعد الدستورية تحصر في اختصاص الملك سلطة التعيين وسلطة العزل, و أعتقد أن الجمع بين هاتين المهمتين كان له ما يبرر و يجد سنده في الفقه الإسلامي المتمثل في كون القاضي إنما يمارس القضاء كجزء من التفويض الذي يتلقاه من أمير المؤمنين، باعتباره هو القاضي بين جموع المؤمنين.
فالقاضي في منظور الدساتير السابقة إنما يمارس مهامه بالتفويض, لهذا كانت من أهم سمات ذلك التفويض هو أن الأحكام تصدر باسم جلالة الملك.
كما أن المبرر الثاني في الجمع بين سلطة التعيين وسلطة العزل، هو تطبيق القانون الوضعي وعلى الخصوص في القضاء و الفقه الإدارين , فيما يعرف بتوازي السلطات، أي أن سلطة التعيين يجب أن تكون هي سلطة العزل.
لهذا، فلان كان دستور 1996 ينص في الفصل 84 على أن الملك يعين القضاء بظهير، فإن النظام الأساسي للقضاء ينص هو كذلك على أن عزل القضاء يتم بظهير، وإن كان دستور 1996 لا ينص على ذلك.
فالتحول الذي حمله دستور 2011 هو تثبيت المسافة بين سلطة الملك، تعيين القضاء، إلى جانب تخلي الملك على سلطة عزلهم. كيف ذلك ?
من المفيد التذكير بأن قواعد الدستور تفسر تفسيرا ضيقا ولا تسمح بالتوسع في تفسيرها لسبب بسيط، وهو أن تلك القواعد ليست قواعد لقانون عادي تنظم علاقات فردية مصلحية معاشية بين الأفراد، بل هي ترجمة لميثاق ترابط مؤسسات الأمة أي أنها ميثاق مجتمعي.
وعندما نعود إلى الفصل 84 من دستور 1996 سنلاحظ أنه ينص على ما يلي:
“يعين الملك القضاة بظهير شريف باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء”
وهو ما يعني أن المجلس الأعلى للقضاء ليس له إلا سلطة الاقتراح وليس سلطة الحسم في التعيين، التي حصرتها الدساتير السابقة في الملك باعتباره هو رئيس المجلس الأعلى للقضاء مع فارق كبير في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء المغربي بنظيره الاسباني مثلا.
و الفارق المتحدث عنه يتمثل في كون المجلس الأعلى للقضاء المغربي الحالي هو مشكل بكامله من قضاة وأن أغلبية هؤلاء القضاء منتخبين من زملائهم، وهي التركيبة التي سيحتفظ بها دستور 2011 جزئيا مع إدخال مؤسسات و شخصيات خارج رجال القضاء في التركيبة المقبلة ، و هو الامر الذي فهم كتعويض لإزاحة وزير العدل من تلك التركيبة.
بينما الدستور الأسباني يعطي للملك حق تعيين جميع أعضاء المجلس العام للسلطة القضائية.
وهو ما يبين الفرق الشاسع بل و المتقدم بين تركيبة المجلس الأعلى للقضاء أو المجلس الأعلى للسلطة القضائية في المغرب والذي يعتمد على آلية الانتخاب , وبين تركيبة المجلس العام للسلطة القضائية الاسباني الذي يعتمد في كليته على آلية التعيين من الملك.
إن تمظهرات المسافة التي أقرها دستور 2011 بين سلطات الملك والقضاء تتجلى في المجالات التالية:
1–مجال التعيين:
نقرأ اليوم في الفصل 84 من دستور 1996 أن الملك يعين القضاة بظهير شريف باقتراح من المجلس الأعلى. وهو ما يعني أن سلطة التعيين هي مجال خالص ومحفوظ للملك يمارسه بمقتضى ظهير لا يوقع بالعطف ، مما يؤكد الطابع الحصري لاختصاص الملك في تعيين القضاء.
ومما يزيد في التأكيد ان مجال تعيين القضاء في دستور 1996، هو مجال خارج اختصاص المجلس الأعلى للقضاء ، ما ينص عليه الفصل 87 منه والذي حصر مهام واختصاصات المجلس الأعلى في ترقية القضاة وتأديبهم.
ونظرا للطابع الحصري لاختصاص المجلس الأعلى للقضاء في مجالين وهما الترقية والتأديب , تدخل المشرع بمقتضى ظهيربمثابة قانون صدر في 13-11-1974 ونص في الفصل 60 على أن عزل القضاة يكون بظهير وهو ما يعني أن سلطة الملك في دستور 1996و في القانون المعتبر بمثابة نظام اساسي للقضاة ، يتحكم في تعيين القضاة كما تتحكم في عزلهم.
فما هو الوضع الذي يقدمه دستور 2011 في مجال تعين أو عزل القضاة ?.
أن ما سبق أن عبرنا عنه بالمسافة التي سنها دستور 2011 بين سلطات الملك والقضاء نجد أوضح صورة لها , بالضبط , في قضيتي تعيين القضاء وعزلهم، وهو ما يظهر في مقتضيات الفصول 57 و 113 و 114 و 116 و 124 من دستور 2011.
أن قراءة متأنية لهذه الفصول بالمقارنة مع الفصول 84 و 87 من دستور 1996 والفصل 60 من ظهير 13-11-1979 تؤكد وجود هذه المسافة بين سلطات الملك والقضاء.
ففي مجال التعيين , اولا، سيلاحظ كما سبق بيانه أن الملك في دستور 1996، هو الذي يعين القضاة وهو الذي يعزلهم وأن ذلك الدستور أخرج مهمة التعيين والعزل من اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء. كما سبق بيانه.
لكن عندما نعود للفصل 57 من دستور 2011 سنلاحظ أنه استعمل صيغة هي غاية في الدقة للتعبير عن المسافة التي ستصبح قائمة بين سلطات الملك والقضاء، إذ نص الفصل المذكور على ما يلي:
“يوافق الملك بظهير على تعيين القضاة من قبل المجلس الأعلى للسلطة
“القضائية “.
فالفصل 57 المذكور ليس فقط أتى مخالفا في جهة التعيين التي حصرت في اختصاص الملك في الفصل 84 من دستور 1996 , وإنما أتت لتوضح أن اختصاص التعيين خرج من مجال اختصاص الملك ودخل في اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وأن مجال اختصاص الملك انحصر فقط في الموافقة على التعيين.
ومما يؤكد هذا الفهم هو أن الفصل 57 كان صريحا في كون تعيين القضاة هو من اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية وهو الأمر الواضح من الصيغة المستعملة في ذلك الفصل وهي ” ….تعيين القضاة من قبل المجلس الأعلى للقضاء.
ومما يعزز هذا الفهم، بكون اختصاص تعيين القضاة خرج من مجال سلطات الملك إلى مجال اختصاصات المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو:
1-أن مجال سلطة الملك انحصر في الموافقة على التعيين علما أن الدستور هو الذي ينص على هذه القاعدة.
2-أن الفصل 57 يعين الجهة المختصة في تعيين القضاة وهي المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
3-وهو السبب الأكثر وضوحا ،هو أن اختصاص المجلس الأعلى للسلطة القضائية حددتها الفقرة الأولى من الفصل 113 والتي وردت فيها ما يلي:
“يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات “الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم….
بينما الفصل 87 من دستور 1996 لا يعطي للمجلس الأعلى للقضاء سلطة التعيين، وإنما حصر اختصاصه في الترقية والتأديب و كل هذا يوضح مدى المسافة التي أقرها دستور 2011 بين سلطات الملك، وبين اختصاصات المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
غير أن الانتقال من صيغة “تعيين الملك ” المنصوص عليها في الفصل 84 من دستور 1996 إلى صيغة ” يوافق الملك على تعيين…. ” المنصوص عليها في الفصل 57 من دستور 2011 ليس لا خطأ في الكتابة ولا إعادة صياغة لنفس المقتضى، وإنما هي إعلان واضح على تحول جد مهم في العلاقة بين سلطات الملك، واختصاصات القضاء وهو ما سنبينه فيما بعد.
2-مجال العزل:
ستظهر المسافة المقررة في دستور 2011 بين سلطات الملك و القضاء ، أكثر وضوحا في قضية عزل القضاة، أي الجزاء التأديبي الأكثر خطورة الذي يضع القاضي خارج مجال القضاء، إذ هي تعبير على عدم أهلية ذلك القاضي لممارسة القضاء، فهي في عمقها إعدام وظيفي ومهني للقاضي.
هذا الجزاء الخطير لم يكن يدخل في اختصاص المجلس الأعلى للقضاء، بل أن الفصل 60 من النظام الأساسي للقضاء جعله من الاختصاص الخاص للملك، مادام أن العزل يصدر بظهير.
غير أن دستور 2011 أحدث قاعدة جديدة هي أكثر عدلا من تلك المنصوص عليها في الفصل 60 من النظام الأساسي للقضاء , وهي القاعدة المذكورة في الفصل 114 من ذلك الدستور التي ورد فيها:
“تكون القرارات المتعلقة بالوضعيات الفردية الصادرة على المجلس الأعلى “قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام أعلى هيئة قضائية إدارية “بالمملكة”.
هذه القاعدة الجديدة المتمثلة في الحق في الطعن في القرارات الصادرة عن المجلس الاعلى للسلطة القضائية في الوضعية الفردية للقضاء هي , إلى جانب أنها أتت استجابة لمطلب مشروع طالما طالبنا به من أجل إفساح المجال للقاضي المعني للطعن في قرار يمس به أمام هيأة أخرى، فإنه يؤكد حجم المسافة المتحدث عنها سابقا.
وفي تقديري أن مجال عزل القضاء أصبح خارج مجال سلطات الملك، مادام أن القاضي المعني بقرار العزل من حقه الطعن فيه أمام أعلى هيأة قضائية، علما أن المسطرة المدنية تسمح بالطعن بالنقض كما تسمح بالطعن بإعادة النظر في القرار الصادر بعد النقض , و هو ما يعني أن القاضي, في دستور 2011 أصبح من حقه سلوك مرحلتين للمنازعة في قرار المجلس الاعلى للسلطة القضائية.
فهل يتصور أن الملك سينتظر إلى أن تبث الهيأة القضائية الإدارية العليا في قرار العزل ، وبعد ذلك سيصدر ظهيرا ?.
أن المنطق السليم يدفع للقول بأن القانون التنظيمي المذكور في 112 من الدستور لن يشترط في قرار العزل أن يكون بظهير خلاف للمادة 60 من النظام الأساسي الحالي.
وبهذا تتأكد المسافة التي سنها دستور 2011 بين سلطات الملك والقضاء في اختصاص التعيين واختصاص العزل.
3-في مجال الأحكام:
أن المسافة المتحدث عنها سابقا لا تتجلى فقط في سلطة التعيين والعزل، وإنما يمكن قراءتها في مجال أكثر حساسية وتأثير في المجتمع، وهو مجال إصدار الأحكام في النزاعات القائمة بين الأفراد أو الجماعات.
من المعروف اليوم أن القاضي عندما يريد أن يصدر مقررا قضائيا ما، أمر أو حكما أو قرارا، يبدأ بالقول: ” باسم جلالة الملك” وهذا الامر هو تطبيق حرفي لنص الفصل 83 من دستور 1996 الذي ينص على ما يلي:
“تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك”.
ومن غير المنازع فيه والمعروف أن الأحكام التي يصدرها القضاء ليست كلها مقبولة من طرف المتقاضين، بل هي أحيانا غير مطابقة للقانون، مما يدفع إلى الاحتجاج ضده ووصفها بالأحكام الظالمة. فكيف نتصور أن يكون حكم صادر باسم الملك، حكما ظالما.
إن الجواب على السؤال ليس دائما سهلا، وأحيانا ليس منصفا ، غير أن لا هذا ولا ذاك من شأنه أن يوقفنا عن البحث عن الجواب بصفة صحيحة ومقبولة على ذلك السؤال المجتمعي.
لهذا أتى دستور 2011 ليقتحم جوهر الإشكال و يأخذ الموقف السليم في هذا الخلاف. فنص في الفصل 124 منه على مقتضي يغير شكلا وجوهرا ما كان ينص عليه الفصل 84 المذكور، إذ ينص الفصل 124 على ما يلي:
“تصدر الأحكام وتنفذ باسم الملك طبقا للقانون
و هو ما يعني أنه بعد دخول دستور 2011 حيز التنفيذ فإن القضاة لن يستهلوا أحكامهم بجملة ” باسم جلالة الملك ” وأنما يتعين عليهم أن يستهلونها “باسم جلالة الملك وطبقا للقانون”.
قد لا تساعد , لاول وهلة , الإضافة التي حملها الفصل 124 لما كان تنص عليه الفصل 83 من دستور 1996 على فهم مدى التحول في العلاقة بين سلطات الملك والحكم والذي يصدره القاضي، لكنه عندما نتمعن في الفرق بين الفصلين و عندما نستحضر بعض الاحكام التي تصدر في بعض القضايا سنلاحظ خلاف ذلك بصفة قطعية.
ذلك ان المراد , في تقديري, من التغيير الذي حمله الفصل 124 من دستور 2011 هو التأكد على أن الأحكام التي تنسب للملك و تحمل اسمه يجب أن تكون مطابقة للقانون.
وهذا ما يجعل القاضي يتحمل مسؤولية كبيرة قبل إصداره أي حكم باسم الملك , إذا لم يكن مطابقا للقانون.
و يتأكد ادن أن الفصل 124 جعل مسافة بين الملك وبين الأحكام التي تصدر باسمه ولا تكون مطابقة للقانون.
وهكذا نرى أن الدستور 2011 يضع قضاء اليوم في وضعية المسؤولية الكاملة في مجالات التعيين و العزل و تدبير الاحكام ، أي يسن مفهوما دستوري جديد للاستقلال القضاء.
مفهوم استقلال القضاء في دستور 2011:
أن استقلال القضاء، كان ولازال وسيظل مجالا خصبا للنقاش الدائر بين الحقوقيين من جهة وأصحاب القرار من جهة أخرى. والحديث عن استقلال القضاء هو حديث في قلب الجدل والكتابات و المحاضرات التي كان موضوعها التشكي من عدم استقلال القضاء في بلادنا.
فهل الدستور 2011 حمل جديدا بخصوص هذه الأشكال أم لا ؟.
من المفيد للتذكير بكون الخطاب حول استقلال القضاء أو النقاش حوله هو خطاب ونقاش موجه بالأساس إلى الدولة لاتهامها بكونها تستغل القضاء في قضايا سياسية، ولا تترك له الحرية في إصدار أحكامه وفق ما يتبين له.
وما كان يعزز هذا الاتهام هو أن سلطة التعيين وسلطة العزل هي بين يدي الملك الذي يترأس المجلس الأعلى من جهة و بين يدي وزير العدل الذي ينوب في راسة المجلس المذكور.
كما أن وزير العدل يعطيه القانون في الفصل 17 من النظام الأساسي للقضاء سلطة تتبع و تفتيش ثروة القاضي و زوجته وأبنائه القاصرين بل وله الحق في تكليف مفتشين في تقدير تلك الثروة وهذا ما اعتبر , من قبل عدة آراء انه الوسيلة القاتلة التي تملكها الدولة للتحكم في القضاء.
لكن هل دستور 2011 أحدث تحولا في هذه القضايا أم أنه تركها كما هي ?
إن دستور 2011 لم يكتف فقط بإزاحة وزير العدل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية وإنما خلق مؤسسة جديدة خلافا لتلك المنصوص عليها في الفصل 86 من دستور 1996 في النقطة المتعلقة بمن يمثل جلالة الملك في المجلس.
فإذا كان الفصل 86 ينص على أن وزير العدل ينوب على الملك في المجلس الأعلى، فإن الفصل 115 من دستور 2011 استغنى على قاعدة النيابة ، وعوضها بقاعدة الانتذاب في العلاقة مع رآسة الملك للمجلس الاعلى للسلطة القضائية .
ومن المعلوم أن القواعد القانونية المنضمة للنيابة هي قواعد لا تسمح للنائب إلى بمجال ضيق للتصرف، بينما الرئيس المنتدب عن الرئيس الدستوري ، فإن مجال تحركه يكون أوسع، وبالتالي يكون مجال مسؤولية رئيس المنتدب أكبر.
ولهذا حدفت كلمة النيابة من صياغة الفصل 115 وحلت مكانها كلمة الرئيس المنتدب علما ان الرئيس المنتدب ليس فقط لا لون حزبي له بل لا يحق له أن يكون له ذلك بمقتضى الفصل 111 من الدستور.
كما ان سلطة مراقبة ثروة القاضي الذي كانت من صلاحيات وزير العدل، انتقلت إلى مؤسسة دستورية أخرى، وهي المجلس الأعلى للحسابات الذي تنص في الفقرة الأخيرة من الفصل 147 من الدستور أن من مهام ذلك المجلس تتبع التصريح بالممتلكات، بينما لم يجعل الدستور لهذه القاعدة أي استثناء , مما يعني ان التصريح بممتلكات القاضي و زوجته و أولاده القاصرين ستصبح من اختصاص المجلس الأعلى للحسابات مثلهم مثل باقي المسؤولين و المنتخبين في الدولة، خلافا لما ينص عليه القانون الحالي المتعلق بالتصريح بممتلكات القضاة الذي يجعل تلقي و تتبع هذه التصريحات من اختصاص أعضاء في المجلس الأعلى للقضاء.
و إذا تذكرنا بان دستور 2011 أصبح يلزم المجلس الاعلى ببعث تقرير سنوي عن نشاطه الى مجلس النواب ستلاحظ مدى المسافة المتحدث عنها أعلاه ومدي مراقبة الأمة للعمل القضائي .
فاستقلال القضاء ادن سيأخذ وجها آخر، لن يتجه الخطاب أو النقاش حوله للدولة كما هو عليه الان ، وإنما سيوجه إلى المؤسسة القضائية و القاضي الذي حماه الدستور من أي تدخل في عملا بمقتضيات الفصل 109 من دستور 2011.
فطبيعة مدى المسافة المتحدث عنها أعلاه , وكذا مدى المفهوم الجديد لاستقلال القضاء , سيكون على رجال القانون و أصحاب القرار الاشتغال عليه لتدقيقه و تحصينه.
وهذا يعني أن البرلمان المقبل الذي سيمثل جميع المغاربة في ظل دستور 2011 هو المؤهل للجواب، قانونا، على تلك الأسئلة وتلك الإشكالات لان القوانين التنظيمية هو من سيحررها و يصوت عليها .
فلننتظر.