انتفضت قرية «ترسا» عن بكرة أبيها، ليس لنقص المياه، ولا لانقطاع الكهرباء، ولا لانعدام المجارى، ولا من فقر الخدمات، ولا من تراكم القمامة… إلخ، ولكن للتخلص من اسم فاتن حمامة على لافتة مدرستها الإعدادية. حصلت القرية على حكم قضائى بعودة اسم القرية على لافتة المدرسة واحتفلت بالنصر المؤزّر فى غزوة ترسا المظفرة! أقيمت الاحتفالات والليالى الملاح ووُزعت كؤوس الشربات، وانطلقت الزغاريد، فقد انبلج النور، وحصحص الحق، وفُتحت ترسا. وصار من حقنا، وبداية من هذه اللحظة، أن يقال: من دخل مدرستها الإعدادية الآن فهو آمن من الفتنة!! ولأنه ليس من حقنا التعليق على حكم القضاء فإن من حقنا التعليق على ما سمعته من تعليقات غاضبة من أهل ترسا فى برنامج «العاشرة مساء» والذى يدل على تسلط الفكر السلفى الوهابى على عقل الريف المصرى، والذى يرسل رسالة ودلالة مهمة حتى لا يخدعنا زحام جنازة فاتن حمامة فى المدينة، وهى أن المزاج المصرى صار كارهاً للفن، معادياً للإبداع، حاملاً لنفس جينات العداء والحساسية البدوية الوهابية للتمثيل والموسيقى والرسم ولكل أنواع الفنون. تسمع فى تقرير البرنامج شخصاً يقول بغضب وعروقه نافرة: «ما نطلّع بناتنا رقاصات أحسن»، «إحنا نقعّدهم فى البيوت ومانوديهمش مدرسة اسمها فاتن حمامة»، وتصرخ سيدة: «ما يسموها باسم شهيد، مش لاقيين غير فاتن حمامة؟».
أما ما أدهشنى حقيقة فما قاله الأطفال الواقفون وقفة احتجاجية رافعين لافتات الرفض والتمرد على قرار المحافظ، تخيلوا ماذا تقول الطفلة الصغيرة المؤدبة التى تريد الحفاظ على ورعها وتقواها أمام الكاميرات: «أقول لهم إيه، أقول لهم أنا خريجة مدرسة فاتن حمامة، والله أنا باتكسف أقول حمامة»!! البنت مكسوفة من كلمة حمامة ومعها أطفال ترسا الشرفاء، لذلك أنتظر توقيع التماس جماعى من أهل القرية أو بلاغ يوقع عليه العمدة وشيخ البلد وشيوخ الغفر وأثرياء المنطقة بشطب «حمامة» من القاموس أو التلفظ بلفظ «لا مؤاخذة» قبلها حفاظاً على الأخلاق الترساوية المصرية المحافظة الوقورة. واقترح أحد الوجهاء الذى تهمه السمعة وتنقح عليه الأخلاق أن نشطب بالمرة وصف «عضو» البرلمان أو «عضو» مجلس الإدارة نظراً لإيحاءاته الجنسية المستفزة لتقاليدنا وعاداتنا ولأحاسيس شعبنا المتدين بالفطرة. وعندما صرخ شاب منفلت: «اللى يفكر فى كده يبقى متهيج بالفطرة»!!، جاءه الرد صادماً وسريعاً بقرار حاسم صارم من فوق بشطب فيلم «بلبل أفندى» ولفظ «قضيب» القطار و«مؤخرة» الطائرة. وأضاف مدرس التاريخ بالمدرسة اقتراحاً للاحتياط وأخذاً بالأحوط وهو إلغاء كلمة «صدر» الإسلام من المنهج ووضع كلمة بديلة وهى بداية الإسلام حفاظاً أيضاً على مشاعر شعبنا المتدين بالفطرة وبالسليقة!! لقد صرنا نعانى من ظاهرة ترييف المدينة، ووصول الإخوان إلى الحكم لم يكن لتوغلهم السياسى فقط، ولكن لتوغلهم الاجتماعى الذى كان انعكاساً لتلك الظاهرة التى جعلت مزاج مصر الاجتماعى متزمتاً سلفياً حنبلياً ابن تيمياً وهابياً بامتياز.
الوجدان المصرى العاشق للفن منذ نقوش الفراعنة وألوانهم الزاهية ورقصات معابدهم المبهجة حتى أفلام فاتن حمامة وسعاد حسنى وموسيقى عبدالوهاب وبليغ ولوحات بيكار وصلاح طاهر وتلاوات عبدالباسط والمنشاوى، صار هذا الوجدان جافاً متصحراً غليظاً فجاً متربصاً، نواته الجميلة المتألقة المشعة متكلسة مغطاة بطبقة سميكة من فتاوى ابن باز وابن عثيمين وتلاميذهما من شيوخ السلفية المصريين. للأسف المشكلة لم تعد فى طائفة سلفية بعينها أو جماعة إخوانية بتنظيمها وكارنيهاتها، ولكن العدوى صارت مصرية تنطلق كالوباء، تحتل الوجدانات والعقول، وتسكن النفوس وتعشش فى الأرواح، أخشى أن أعيش إلى اليوم الذى أقول فيه: الفن لا مؤاخذة، الحياة لا مؤاخذة، الضحك والفرح لا مؤاخذة!!