يلزمنا قلب مسور بالأسلاك الشائكة ، وشقيقان، يركن كل منهما إلى تويج ويتبادلان الطلقات، فيما جندي إسرائيلي يذرع القلب جيئة وذهابا إمعانا في النكاية، لكي نخمن اللحظات الأخيرة للشاعر الفلسطيني محمود درويش. يلزمنا قسط كبير من التراجيديا، وهشاشة طائر دوري ،تسقط من سمائه كل نجوم الطفولة، لنتأمل هذا المزيج الديني في وفاة شاعر منذور للخلود. يلزمنا حزن أبيض، حزن أول ، حزن إنساني صامت، لكي نشعر بمعنى أن يغادرنا شاعر أسطورة وهو في عز البلاغة ، مرافعة من أجل الحياة. يلزمنا درس في البداهة أيضا لكي نصدق بأن بإمكان الشاعر أن يختلي، مثل الطيور ويموت وحيدا، بعيدا عن قصائده وقريبا من الأطباء. هذه البداهة هي التي تستعصي علينا الآن، تستعصي لأن درويش، في ما يبدو فقد الحياة التي لم يكن يملكها، أما حياته التي كانت ملء قلبه ورئتيه، فقدْ توزعها الأعداء والقصيدة.

غاب الشاعر لأنه امتلأ بكل أسباب الغياب. ولأنه، كما يحدث عندما تنضج فواكه القدر، يسقط شاعر كبير. وعلينا أن ننتظر ، قرونا طويلة، كما حدث مع المتنبي، لكي تنجب شجرة الأنساب ثمرة من هذه التراجيديا ، ومن هذه الجاذبية الكبرى. ولم يبق القلب حياديا ، مثل »وردة السياج« كما كان يريد، ولم يبق القلب حياديا، لأنه كان يدرك أن الحفاظ على أناقة التراجيديا يقتضي أن يموت. هكذا بكل ما في الهواء من قسوة. مات الشاعر بقلب مفتوح، كما لو أنه يكتب بيانا توضيحيا عن كل حياته وعن معشوقته فلسطين، كما لو أنه يبين سبب خيانته للقدس..!

وعندما يموت درويش، يتوارى إله في عينين عسليتين ولا ينحني أحد لعيون الحبيبة. ولا يذكر عصفور غديره، وتفقد اليد طريق الضفيرة لن تندلع الظهيرات الحاسمة في أيام الحرية، وسيكتفي العالم بخطاب بارد ويصعد الرماد إلى الحنجرة، ولا تبقى هناك رابطة بين الجليل والعصافير. هل كنت خيبتنا الأخيرة، عندما أدركنا أنك أيضا تموت، كما يموت الناس جميعا، وأن حياتك ، يمكن أن لا تكون . هل خذلتنا جميعا، لأنك لم تسكن تمثالك ، كما أردنا، حتى تبقى دائما صديق الحرية الذي يموت؟ الغيوم التي شردتك، نزعت عنك المعاطف ، بعد أن دكت الجبال وذهب الناس إلى صيارفهم. الآن، سيجلس هوميروس ،ينظر إلى الولد الذي جعل ملحمته تحيا بعد عشرين قرنا، يخرجها من الإلياذة ويزرعها في بيروت، ظلا عاليا. الولد الذي أخرج سماء إغريقية من الأبيض المتوسط لرميها فوق العالم، حتى تليق بمأساته. سيجلس الأنبياء عليهم السلام، وهم يتأملون ابنهم يوحدهم حول الدم والقدس والهيكل ومريم المجدلية ، وهو يفضل من بينهم يوسف. ويحدثنا عن الإخوة يسممون العنب ، ويكسرون اللعب ، وعن الإخوة عندما يغارون ويثورون من نسيم يمر على شعره ، ويتحدثان عن الجب وعن الذئب ، فيما نحن نبحث عن الاستعارة كلما اجتمع قادة العرب!

سيجلس مصريون قدامى، ليتأملوا هرما لم يبنوه، لكنه ظل يلعن فرعون بلسان طويل ،ويمدح مسلاتهم التي تنبأت بموته بقلب مفتوح. وستجلس ناحبات الإغريق، يقرأن تردد أبريل على يد اسخيلوس. سيجلس أوليس ، ويجلس أوديب مرتبكا من هذا الولد الذي ولد لألف أم ولألف أب، سيجلس السياسي، لكي يقرأ من جديد، الفرق بين الدبلوماسية والأرض، ويتأمل هذا الشاعر الذي جعل العقل السياسي مرادفا كبيرا للقلب والتراجيديا، واستطاع، في تفرد كبير أن يروض اللغة الباردة للمنبر السياسي ، ويطعمها حرارة الشعر الجاهلي. وهناك ستسعفه البطولة، ويجمع يد الشيطان إلى يد الملاك وهو يبتسم في وجه صديقه عرفات. هذه الصداقة بين قائد يسكن فكرته وشاعر يسكن تمثاله ، كانت درسا بليغا في التماسك بين النزاهة الفكرية ومرونة السياسي. لم تكن صداقة تحتاج إلى تبعية ولا إلى تاريخ العرب في النكران والعبودية، كانت تحتاج إلى تواطؤ بين قدرين، وبين أسطورتين ، وبين جناحين. اعتقد أنهما كانا يسخران من القياصرة العرب وهم يجثون أمام الهيكل وأعتقد بأن كلمة السر بينهما لم يسبقهما إليها أحد . وربما تكون سومرية، أو كنعانية أو آشورية ولكنها كانت من دم وزرقة وحجر، كما يكون الحداد الفلسطيني على العالم.

لقد استطاع درويش أن ينزل الأبدية إلى الحجارة، ويجلس أمة كلها أمام نار صغيرة في الخليل: تلك كانت طريقته في السخرية من كل الأمم التي مرت فوق أرضه ولم تترك له أرضا. واستطاع أن يبني دولة من الكلمات، لهذا استنفرت إسرائيل كل لوبياتها عندما قال ذات شعر: ارحلوا من دمنا ومن حقلنا، وتنبأ الحاخامات أنه يدعو إلى القضاء عليهم. واستنفرت إسرائيل كل أسطورتها لتواجه أسطورته، وكان من عناصر البلاغة في حياته أنه وضع أسطورة أرضه ، التاريخية، مقابل أسطورة الوهم الإسرائيلي، وكان يجد الكلمات لذلك. اعتقد أنه سينزع الكفن، بمجرد أن يذهب الحفارون، وتأويه الأرض تحت معطفها، وربما هيأت له بذلة من أول صيف، ومن أول ثلج ومن أول عشب ومن أول ضوء ، وهيأت صفوف الأرواح ونفقا إلى بيت لحم وإلى الجليل. هناك ، في البعيد سيسكن إلى حضرة الغياب. وسيرفع عينيه إلى …الأرض ، من تحتها كما كان يفعل دائما، كانت نجومه في جذور عشب صغير بين صخرتين في الجليل.

ماذا بعد الموت الآن؟ سيعود القمر إلى مهنته القديمة، ككوكب عاد وشاحب وتعود الكاردينيا إلى البذلات الفاخرة في مشاهد سينمائية وسيعود الحجر إلى عصره. وقد أصبحت حجارة الأطفال في فلسطين حجرا للتيمم ، وليس للطهارة، كان لابد من أن يفقد القلب دعاماته. وعندما يجلس الفلسطيني قبالة أخيه، بفراسة دموية لا تخطئ، يعلن الشاعر انسحابه، لأنه شخص غير مرغوب فيه، ويعلن » من الآن أنت غيرك «، ثم يجمع شرايينه، وتويجاته ودمه وخيط الطبيب والمجسات ويلجأ إلى هيوستن، هناك حيث الموت شبه محايد في أرض محايدة لا يموت فيها الأشقاء بسبق الإصرار والترصد. الأرض الآن واسعة لليأس وواسعة أيضا للحلم وواسعة أيضا في وجه الدهشة التي تصنعها اللغة ، بعد أن يمكن للسخرية في القصيدة أن تجعل من الأعداء موظفين في مكتب الكهرباء يضيئون الأقبية بالقنابل. لقد أسعفنا في الحب ، بدون أن نكون في حاجة إلى الاستغناء عن قدرتنا على الغضب من القيصر . معه تعلمنا أن نقول للحبيبة »كم مرة تستطيعين أن تولدي في منامي ،كم مرة تستطيعين أن تقتليني لأصرخ أحبك«ونخبئ العاطفة في بيان الثورة ، وحب الأرض والمرأة معا .

المقال كتب بعد وفاته بيوم واحد أي في
2008/08/11

‮ ‬*الخميس 8غشت 2016.

‫شاهد أيضًا‬

حضور الخيل وفرسان التبوريدة في غناء فن العيطة المغربية * أحمد فردوس

حين تصهل العاديات في محرك الخيل والخير، تنتصب هامات “الشُّجْعَانْ” على صهواتها…