يبدو أن الصنافة الكلاسيكية للمجال السياسي المغربي القائمة على معادلة يمين/يسار=حكم/معارضة لم تعد كافية لتحليل الخريطة السياسية الوطنية وقراءة اتجاهات ومواقف وعلاقات الفاعلين السياسيين، مما ألقى بظلال اللبس على الحياة السياسية وجعلها تتسم بنوع من الخلط واللامنطق قياسا لما كانت عليه من وضوح زمن الصراع التناحري قبل المصالحة وقيام حكومة التناوب التوافقي.
قبل ذلك اتسمت الحياة السياسية في بلادنا بصراع مرير وعنيف بين طرفين أساسيين:
*) النظام الملكي القائم في الجوهر على الحكم الفردي المطلق، رغم وجود دستور ومؤسسات منتخبة شكلية في بعض الفترات،عماده شبكة الأعيان والفلاحين الكبار في البادية ورثوا المال والنفوذ عن عمالتهم للاستعمار، و «بورجوازية»مدينية صناعية وتجارية ولدت من رحم الريع السياسي والاقتصادي. شكلت المؤسسة الملكية، ذات الطابع المخزني،مركز الدولة وقيادتها، وعملت على إنشاء أحزاب لها لإضفاء نوع من «الشرعية الديمقراطية» على هيمنتها على الدولة والمجتمع.
*)الجبهة الوطنية التقدمية الديمقراطية التي ضمت امتدادات حركة التحرر الوطني ونخب ذات نزوع اشتراكي ونفحة يسارية نشأت في أحضانها أحزاب اشتراكية/ديمقراطية وحركات اليسار الجديد، وارتبطت بها منظمات نقابية وجمعوية فاعلة. لم تكن هذه الجبهة على نفس القدر من التناغم الفكري والسياسي الذي كانت عليه جبهة المحافظة.
كان الصراع بين القطبين قويا وعنيفا على كافة الواجهات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية،وكان واضحا في الخطاب والممارسة،وكان كل طرف يحمل مشروعا مجتمعيا متكاملا يناقض مشروع الطرف الآخر؛وكان كل طرف يؤمن أنه يستحيل التوفيق بين المشروعين. ومما لا شك فيه أن المجابهة الشاملة بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي من جهة، والمعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة من جهة ثانية، ألقى بظلاله على الصراع الايديولوجي والسياسي ببلادنا، وأسهم في تغذيته؛كما كان للاصطفاف العربي/العربي دور في دعم طرف من طرفي الصراع الداخلي.
بالرغم من شراسة المجابهة التي اتخذت طابعا مأساويا (اعتقالات بالجملة ومحاكمات صورية قاسية وسجون ومنافي مقابل حركات مسلحة وانتفاضات شعبية ومحاولات انقلابية)،لم يقدر أي طرف على اجتثاث الخصم أو إزاحته، وفي ذلك دليل على المشروعية التاريخية والتجذر الاجتماعي والثقافي للمؤسسة الملكية والحركة الوطنية/الديمقراطية الوطنية على السواء. وقد فرض ذاك التوازن الاستراتيجي في موازين القوى المادية والرمزية ببن المتصارعين إلى حصول مساومات تاريخية على قاعدة الاعتراف المتبادل بمشروعية الآخر وعلى أساس إعادة توزيع مجال النفوذ السياسي واقتسام جديد للسلطة. ويمكن الجزم أن تاريخ المغرب المعاصر شهد لحد الآن أربع منعطفات رئيسية في سيرورة علاقة المؤسسة الملكية بالقوى السياسية الحية والفاعلة على اختلاف مرجعياتها:
(*) الانقلاب على الحكومة الوطنية للأستاذ عبد الله إبراهيم، انقلاب أجهض المشروع الوطني لبناء الدولة المغربية الحديثة وألقى بالمغرب المستقل في أتون عنف ضروس عطل المشروع الديمقراطي في بعديه السياسي والتنموي…
(*) انطلاق المسلسل الديمقراطي أواسط السبعينيات في تفاعل مع معركة استرجاع الأقاليم الجنوبية واستكمال الوحدة الترابية. لقد فرضت ضرورة التعبئة الوطنية على المؤسسة الملكية الانفتاح على قوى المعارضة الأساسية المتمثلة في الاتحاد الاشتراكي الذي قام بمراجعة نقدية لاختياراته الاديولوجية وخطه السياسي المرحلي في المؤتمر الاستثنائي سنة 1975، وحزب الاستقلال الذي كان دوما أقل جذرية ولم تحدث أبدا بينه وبين الحكم قطيعة تامة، وحزب التقدم والاشتراكية صاحب مقولة الثورة الوطنية الديمقراطية،ثم على مكون أساسي من مكونات اليسار الجديد الذي اختار العمل الشرعي في إطار منظمة العمل الديمقراطي الشعبي.
لم يكن هذا المنعطف على أهميته التاريخية وقيمته السياسية نهاية للصراع الذي اتخذ أشكالا أقل عنفا،وعاش لحظات مد وجزر. إنها مرحلة النضال الديمقراطي التي تميزت بتناوب فترات التوتر وفترات الانفراج في العلاقة بين قطبي الصراع الأساسيين،إضرابات عامة واضطرابات اجتماعية أحيانا، وانتخابات جماعية وتشريعية، لم تخل من تزوير لفائدة «أحزاب» إدارية، أحيانا أخرى. خلال هذه المرحلة راكمت القوى الديمقراطية مكتسبات هامة على مستوى التواصل مع الشعب وتقوية تنظيماتها واكتساب خبرة في تدبير الشأن المحلي وتكريس الحق في الانتماء السياسي والنقابي والحق في التعبير والإضراب والتظاهر. في المقابل جددت الملكية شرعيتها، وأضفت عليها سمة ديمقراطية، دون التفريط في أدوات التحكم في اللعبة السياسية( أحزاب مصنوعة وقوانين انتخابية على المقاس). أدى التوازن النسبي لموازين القوى إلى تعايش مشوب بتوترات محدودة ومحسوبة والى إرساء قواعد جديدة للصراع قوامها النضال من داخل النسق السياسي القائم بهدف تصويبه وتطويره في أفق دمقرطته على نحو تدريجي ومطرد. لم يعد التغيير الجذري مطلبا سوى لدى تنظيمات يسارية صغيرة بعد أن اختارت الأحزاب الديمقراطية العمل من داخل المؤسسات لتحقيق الإصلاح السياسي والدستوري الذي تبلورت عناصره ومضامينه في وثيقة الكتلة الديمقراطية بداية التسعينيات.
(*)حكومة التناوب التوافقي التي كانت بمثابة تتويج لمرحلة التعايش التي استنفذت شروط استمرارها في ظل متغيرات دولية ووطنية جديدة ( سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، الاندفاع الديمقراطي على الصعيد الكوني،نشوء الكتلة ومطالبتها بإصلاحات دستورية وسياسية مهمة،أزمة اقتصادية وسياسية داخلية). لا تكمن أهمية حكومة التناوب في كونها تحولا نوعيا واستراتيجيا لعلاقة الملكية بقوى المعارضة الوطنية الديمقراطية عموما وبالحركة الاتحادية خصوصا، ولا في كونها مدخلا وأداة لمصالحة وطنية انتهت بموجبها مأساة الاعتقال السياسي والنفي القسري بحيث تم تعويض ضحايا سنوات الرصاص، ولا في كونها أنقذت المغرب من سكتة قلبية، وإنما تكمن أهميتها القصوى في:
أولا:إدماج واندماج نخب اليسار في ثقافة السلطة سواء من خلال الحكومة والمؤسسات المنتخبة أو من خلال مؤسسات حقوقية ومجالس وطنية (هيئة الإنصاف والمصالحة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس الملكي للثقافة الأمازيغية،الهاكا….).
ثانيا:تطبيع العلاقة بين الأحزاب الوطنية الديمقراطية وأحزاب صنيعة الداخلية وأدوات الدولة في تمييع الديمقراطية.
إن قبول الاتحاد الاشتراكي بقيادة حكومة ائتلافية إلى جانب الأحرار والحركة الشعبية أضفى الشرعية على أحزاب كان يعتبرها عن حق توابعا للداخلية، فكانت بذلك بداية خلط الأوراق أو لنقل بداية انبناء جديد للحقل السياسي الوطني،وهو الاتجاه الذي سيتم تكريسه في حكومتي جطو والفاسي. أدى ذاك التطبيع إلى تمييع الحياة السياسية، فلم يعد المواطن العادي قادرا على التمييز بين اليسار واليمين،وبين الاشتراكي والليبرالي، وبين المناضل والانتهازي،سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى البرامج الاقتصادية والاجتماعية. وكان الاتحاد الاشتراكي بحكم قيادته لتجربة التناوب الخاسر الأكبر بسبب ما أصاب المشهد السياسي من لبس وبؤس وتبخيس، خاصة وأن الرأي العام لم يقدر إنجازات حكومة التناوب حق قدرها،ولم ير فيها كثير من أنصار الحزب سوى تنازلا عن الخط النضالي وتخليا عن المبادئ وتفريطا في رصيد تاريخي ثمين.
(*)لم يكتف «خدام الدولة العميقة»بإدماج الجزء الأعظم من أطر اليسار في مؤسسات الدولة، وإنما تنبهوا إلى فعل نفس الشيء،وبذكاء لا يلين، تجاه النخب الإسلاموية الشابة،حينما بادر الخادم الأرضى للدولة قيد حياته إلى استقطاب تلك النخب وإلحاقها بحركته التي سرعان ما تحولت إلى حزب العدالة والتنمية. والحقيقة أن تصدر هذا الحزب لانتخابات 2011 ثم للانتخابات الجماعية ل 2015، واستئثاره بقيادة حكومة ائتلافية لا تقل هجانة عن سابقاتها، وبتدبير شؤون أغلب المدن المغربية وأكبرها، أمر لا يخرج عن استراتيجية الإدماج التي هي استراتيجية ثابتة لدى النواة الصلبة للدولة المغربية بعدما اضطرتها السياقات الدولية والجهوية الراهنة والتحولات الديمقراطية الوطنية إلى التخلي عن استراتيجية العنف والإقصاء. وما تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة الذي كان مرشحا فوق العادة لقيادة حكومة 2011،لولا إكراهات تدبير تداعيات ما سمي ب»الربيع العربي»، إلا استكمالا لعملية إدماج شريحة أخرى من النخبة المغربية هي عبارة عن توليفة من اليساريين القدامى وأطر تقنوقراطية لم تقبل بأدوار ثانوية ضمن التشكيلات السياسية القائمة.
بالاستناد لما سبق يمكن أن نستخلص ما يلي:
1) تبلور توافق وطني واسع حول طبيعة النظام السياسي المغربي كما حدده دستور 2011، وهو دستور متقدم قياسا لما سبقته من دساتير، وإن لم يرق إلى إقرار الملكية البرلمانية. هذا التوافق جعل المؤسسة الملكية حكما بين الفرقاء السياسيين وبالتالي بنية فوق-حزبية، بعد أن كانت لعقود مضت طرفا رئيسيا في الصراع السياسي.لقد سلمت الطبقة السياسية المغربية،ما عدا جماعة العدل والإحسان والنهج الديمقراطي، بالديموقراطية التمثيلية في إطار نظام ملكية عصرية، يكفي أن تكون دستورية لدى البعض، ومن اللازم أن تتطور إلى برلمانية حسب البعض الآخر.
2) بذلك انحصر التنافس السياسي بين الأحزاب السياسية بهدف كسب ثقة الناخبين والحصول على أصواتهم أثناء الاستحقاقات الانتخابية والظفر بتدبير الشأن العام الوطني أو الجهوي أو المحلي. لم يعد الخلاف حول طبيعة النظام السياسي وإنما أصبح الخلاف حول البرامج الإنمائية والنماذج التنموية وفي أقصى الحالات حول المشاريع المجتمعية ومنظومات القيم.
3) لم يعد الاصطفاف السياسي مطابقا للمرجعيات الاديولوجية والانتماءات الفكرية. ولعل أقوى دليل على هذا المعطى تركيبة كل الحكومات ما بعد حكومة التناوب، وكذا ما شهدته انتخابات مكاتب مجالس الجهات والأقاليم ومجالس المدن والجماعات المحلية من تحالفات جمعت أحيانا بين ألذ الخصوم. ومعنى ذلك أن المجال السياسي أضحى محكوما بمنطق برغماتي صارم وأن التحالفات لم تعد خاضعة لأي معيار خارج معيار المصلحة السياسية المباشرة.
4) اعتبارا لكل ما أوردناه أضحت الخطاطة التحليلية الكلاسيكية القائمة على ثنائية يمين/يسار وحكم/معارضة بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر،سواء على المستوى المفاهيمي أو على مستوى الواقع الفعلي والممارسة العملية. على المستوى الأول لم يعد اليسار يعني المعتنقين للماركسية والفكر الاشتراكي والمنخرطين في أحزاب شيوعية واشتراكية، وإنما أصبح يشمل كل الحداثيين والديمقراطيين والعلمانيين، وكل الحركات الحقوقية والمدافعين عن الحريات،والمدافعين عن حرية المعتقد وحقوق الأقليات والداعين للسلم العالمي وحماية البيئة. وأصبح اليمين يعني التعصب والعنصرية والتطرف بكل أشكاله والتمييز على أساس الجنس أو الدين أو اللون والانتصار لقيم الليبرالية المتوحشة. وعلى المستوى العملي/الواقعي فإن الحكم أصبح قابلا للتداول بين الأحزاب السياسية قاطبة، ولم تعد المعارضة لصيقة باليسار كما لم يعد الحكم شأن أحزاب اليمين. هكذا بدأت في البروز صنافة جديدة تقوم على ثنائيات إسلامي/علماني،ديني/مدني،محافظ/حداثي،استبدادي/ديمقراطي. ومن المتوقع أن يتم الفرز مستقبلا بناء على هذه الصنافة التي ستتوضح مضامينها أكثر، ومن المحتمل أن تعقد التحالفات مستقبلا انطلاقا من هذه الخطاطة.