مع مطلع شهر تموز (يوليو) الماضي، تم القطع مع استعمال الأكياس البلاستيكية وصناعتها وتداولها في الأسواق المختلفة بالمغرب. سبقت ذلك حملة تحسيسية عبر وسائل الإعلام تحت شعار «زيرو ميكا». ليس «الزيرو» غير الصفر. وليست «الميكا» غير البلاستيك ومعنى ذلك أن لا «ميكا» بعد اليوم. لم يكن آباؤنا يستعملون «الميكا» في التبضع. و»الميكا» الوحيدة التي كنا نستعملها في أرجلنا، هي الأحذية الرخيصة الثمن. لكن ما إن بدأت تبرز في الأسواق، حتى صرنا نسترزق الله ببيعها، ونحن نحملها في أيدينا، منادين على ثمنها، خلال الصيف: «ميكا ريال، ميكا جوج». كما أن آخرين منا، كانوا ينادون على السجائر التي يبيعونها بالتقسيط: «كازا، ماركيز».
شعار الحملة لا يمكننا سوى تثمينه. فالميكا علاوة على خطرها على البيئة، صارت ملوثة للفضاء المغربي. ويكفي أن تمر راجلا، أو على سيارة، لتجد نفسك أمام اللون الأسود الذي يغطي مساحات كبيرة من الميكا العالقة بالنباتات الشوكية، موهمة إياك أنك ترى أسرابا من الديك الحبشي البلدي. وعندما تم استبدال الميكا السوداء بالبيضاء، تحول الديك الحبشي إلى الرومي ذي اللون الأبيض الذي غزا بدوره الأسواق. تتراكم الأزبال في مختلف الفضاءات، وتظل الميكا تتطاير مع الرياح إلى المجاري التي تطفح بها مدن الصفيح.
لن نتحدث عن ردود أفعال مصنعي البلاستيك، ولا عن البدائل التي تقدم. ولن نذهب في التأويل إلى الرغبة في تزيين صورة المغرب مع إقبال المغرب على تنظيم الكوب 22 بمراكش، بتقديم نفسه مدافعا عن البيئة. فهذا مجاله وسائط التواصل الاجتماعي. لكن ما أثار انتباهنا بصورة خاصة، هو أنه إذا كانت الحكومة قررت رفع شعار «زيرو ميكا»، نجد الشارع المغربي، من خلال وسائله الخاصة في التواصل، رفع شعار صفر آخر مختلف: «زيرو كريساج». عرَفنا الزيرو. أما «الكَريساج» فهو الاعتداء على المواطنين في الشارع العام بالأسلحة البيضاء من سكاكين وسيوف وشفرات حلاقة، إما بهدف السرقة، أو فقط بغية تشويه جمال وجه نسوي خلقه الله على هذه الصورة.
عندما يرفع «صفر» شعبي، ردا مباشرا على «صفر» حكومي، فمعنى ذلك أن هناك أولويات. وأن الصفر الذي يهم هؤلاء بالدرجة الأولى، يجعل الآخرين يرون صفرا آخر أكثر أهمية. لا مراء في أن الشارع العمومي في حاجة إلى حملات نظافة، وتحسيس المواطنين بشكل دائم ومستمر بضرورة الحفاظ على البيئة، وفي هذا نحن مع الصفر الأول. لكن الشارع العمومي، الذي يرتاده المواطنون، وهم يخافون على أنفسهم، من السرقة أو «الكريساج»، أو «التشرميل»… لا يمكن أن يكون شارعا عموميا يجدر بالمواطنين الخروج إليه، ليس للتبضع، أو التجول، ولكن أيضا للعمل، أي لخدمة الدولة. فالذي يستيقظ باكرا، والشارع فارغ، لا يمكنه إلا أن يظل خائفا حتى يجد نفسه في مقر عمله… وخروج المرء من بيته، داعيا الله أن يعود إليه بالسلامة، لا يمكن إلا أن يعبر على أن هذا الشارع غير آمن. فأيهما أسبق؟ أمن البيئة أم أمن المواطن؟
قبل انصرام شهر تموز نفسه بأسبوع تم تسريب وثيقة تقضي بتفويت مساحة أرضية في حي راق بالرباط، بثمن رمزي لا يتلاءم مع السوق، للعديد ممن اعتبر «خدام الدولة» حسب بيان وزارتي الداخلية والاقتصاد. وأثار هذا التفويت جدالات واسعة. سوف لا أتحدث عن التفويت، فللدولة الحق في مكافأة «خدامها» بالشكل الذي تراه مناسبا. لكن السؤال الذي يمكننا طرحه: من هم خدام الدولة؟ وما الخدمات التي قدموها لها؟ ولماذا لا تكون هذه المكافأة، بغض النظر عن الجدل الذي يمكن أن يثار حول تاريخها وحيثياتها… على رؤوس الأشهاد، وإشراك الرأي العام في الاحتفاء بهؤلاء المكرم عليهم، أو المنعم عليهم بسبب خدماتهم الجليلة، ليكونوا مثالا يحتذى. ومن خلال ذلك نعرف «خدام الدولة»، من غير «خدامها»، من جهة. ومن جهة ثانية نتبين أنواع الخدمات المقدمة، لتحفيز الآخرين على العمل الذي يؤدي إلى التفويت، أو التكريم؟ كنا نسمع عن «رجال المخزن»، وكنا نعرفهم بلباسهم المميز، فهم يضطلعون بمسؤولية الأمن، وتطبيق القانون. لكن مفهوم «رجال الدولة» ملتبس؟ ومتى كان الالتباس، انعدمت الثقة.
بين الحملة «التحسيسة» التي استمرت عدة أسابيع لـ»صفر ميكا»، وإصدار القانون الذي يُجرّم استعمالها، وبين «تسريب» أخبار عن تفويتات نجد أنفسنا أمام مسارين مختلفين في الإخبار والتواصل مع المواطن. وأن الدولة ما تزال تعتمد أسلوبين في التعاطي مع القضايا الحيوية، وكأن ما يهم المواطن هو فقط ما يتعين عليه الخضوع له، وفي هذا لا بد من إصدار قوانين، في العلن. وأن للدولة شؤونها الخاصة التي عليها التعامل معها بالكيفية التي ترضيها، في السر؟ وبين السر والعلن، لا يمكن إلا أن تظهر «أصفار» عديدة، معبّرٌ عنها بشكل صريح أو ضمني، تؤدي في النهاية إلى تغييب الثقة أو غيابها سيان بين الدولة والشعب.
جاء «صفر كَريساج»، ليؤكد أن هناك «إرهابا» في الشارع العام. وأن المواطن يخاف على نفسه في الشارع. ما الفرق بين الخوف، والرهبة؟ وبين «الخائف» على نفسه، و»مسبب الخوف»، في غياب الأمن؟ سبق أن عبرت في مقالة سابقة منذ عدة سنوات، على أن المقارنة بين «الشاب» الملتحي «الإرهابي»، و»الشاب الذي يروع المارة» تقضي بأن لا فرق بينهما. إنهما معا من أصول واحدة، ومن وضع اجتماعي موحد، ويقومان بالعمل نفسه. إنهما معا، يمتلكون السيوف والسكاكين. غير أنهما اختلفا في ممارسة الإرهاب. أحدهما يوظف عنفه باسم الله، وهو لا يحفظ سورة من القرآن الكريم. والثاني يمارس عنفه، وهو تحت تأثير مخدر أو مسكر. وكلاهما لم يستطع الباءة، ولم يتزوج، وغير قادر على الصيام لأنه جائع أبدا. وكل منهما يحلم ببيت جميل، وامرأة حسناء وبذرية صالحة. فضل أولهما تفجير نفسه بترويع المواطنين الأبرياء مستعجلا أن يصير له بيت في الجنة، ويتزوج حورية. أما الثاني، فلأنه لا يمتلك بيتا، ولا امرأة، فما عليه سوى ممارسة عنف الشارع: سرقة، قتل، اغتصاب… انتقاما من المجتمع الذي يراه مسؤولا عن وضعه الذي آل إليه؟ وإذا كان مصيره السجن، فهو أحب إليه من العيش مفتقدا أبسط شروط الحياة، بل إنه أحسن من البيت الذي يعيش فيه في مدن الصفيح حيث البيئة الملوثة، ومياه المجاري التي يراها نهرا يجري أمام ناظريه، وهو يجتازه ليمر إلى براكته، والتي لا تنجم عنها غير الروائح الكريهة.
لا فرق بين ما يسمى إرهاب «الإسلام السياسي»، وإرهاب «الظلم الاجتماعي»، فمصدرهما واحد، هو فقدان «الأمان»، وهو ليس الأمن. وإذا كانت الدعوات إلى معالجة الإرهاب الأول تدخل في متاهات تجديد الخطاب الديني، وتغيير المقررات الدراسية، ورفع درجة التأهب الأمني إلى أقصى الدرجات، لا تكفي في مواجهة الإرهاب الثاني المقاربة الأمنية، ولا بناء السجون. إن «زيرو كريساج» يدق ناقوس الخطر معبرا عن فقدان ثقة المواطن في الدولة وخدامها المنعم عليهم، وفي أحزابها ومؤسساتها ومنظماتها المختلفة. والإرهابي الذي يخرج من السجن ليعود إلى عاداته القديمة، يدل على أن المؤسسات الإصلاحية لا دور لها. وأن دوائر الأصفار لا تزداد إلا اتساعا وتضخما بين الدولة وخدامها وشعبها.