يواجه المغتربون السوريون في بلاد اللجوء مشاكل عدة، لا سيما في بلاد الغرب المختلف كلياً، سواءً من جهة نمط العيش أو الثقافة أو العادات والتقاليد، ورغم أن البلد المضيف قد يبدي الكثير من الترحاب في البداية، لكن لا يلبث أن يكدر صفو هذا الترحاب ارتكاب البعض لأخطاء هنا وهناك، لتلقي بظلالها على الجميع وتحملهم وزرها، فينعكس ذلك نظرة سلبية تجاه اللاجئين وطرق التعامل معهم.
ورغم أن الاختلاف بين الشعوب طبيعي، وأن مجتمعات الغرب ليست مثالية، وأن تعامله معنا كمسلمين وعرب قد يحمل نوعاً من التطرف، لكن علينا الاعتراف بحجم الأزمات التي نعاني منها، وليس أولها العيش تحت نظام استبداد قمعي لأكثر من خمسين عاماً، بل تتعداه لما هو أقدم، فميزان الأخلاق لدينا ليس دقيقاً، يمكنه أن يقف عند أمور صغيرة بينما يمر مرور الكرام على ما هو أعظم، ونظرتنا للآخر لا تخلو من عنصرية إن لم تكن عنصرية صرفة، ومجتمعاتنا اعتادت القبول بالمعاصي طالما كانت مستترة، وفضح هذه المعاصي يلقى هجوماً شرساً بحجة “لا يصح نشر الغسيل القذر”، ونحن اعتدنا السكوت على ظلم الحاكم باعتباره ولي الأمر الذي لا يصح الخروج عن طاعته، وأخذنا بحديث “عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم.” فتجرأنا على الضعيف بحجة ارتكابه المنكر، وسكتنا عن القوي وغيرنا منكره بقلوبنا، وما تفعله الحركات الجهادية اليوم من داعش وأمثالها هو تغيير ما تراه منكراً بالعنف، وفق أهوائها ومصالحها.
وحتى لو صح الحديث السابق، فإن المشكلة لا تكمن فيه، بل في فهمنا الملتبس لمصطلح “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهو أحد تبعات فقهنا الموروث، فهذا المصطلح ورد في التنزيل الحكيم باعتبار “المعروف” هو ما تعارف عليه الناس، طبقاً للزمان والمكان، وأصبح مألوفاً لديهم طبقاً للذوق الاجتماعي، حيث أن الأعراف هي أساس القوانين الوضعية الإنسانية، و”المنكر” ما نكره الناس إما لعدم معرفة، كحال إبراهيم عندما جاءته الملائكة {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} (الذاريات 25)، والاستنكار الناتج عنه أيضاً، كقول موسى للعبد الصالح عند قتله الغلام {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} (الكهف 74)، أو الاستنكار لعدم الانسجام مع الذوق العام {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان 19)، أي أن المنكر هو ما نكره الناس واستنكروه فأصبح مستهجناً، وكل ما تحكم العقول الصحيحة بقبحه، وتواضع المجتمع على تركه من العادات والمعاملات، ومفهوم “المعروف والمنكر” متطور حسب الزمان متغير حسب المكان، بما لا يتجاوز حدود الله، وعندما نصح الله تعالى المرأة المؤمنة بلباس معين، طلب منها مراعاة الأعراف السائدةَ في البلد الذي تعيش فيه {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب 59)، حيث ربط المعرفة بالأذى بشكل مباشر تماماً، وعندما أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بالتصرف خارج عن النص قال له {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف 199)، والعُرف لغة هو ما تواضع الناس عليه واشتهر في عاداتهم ومعاملاتهم، وبالتالي نظم النبي الحلال لمجتمعه وفق أعراف هذا المجتمع، وبأحكام تناسبه حصراً، ومن ثم تخضع هذه الأحكام للتغير وفق الزمان والمكان، حسب تطور السلوك الإنساني في المجتمعات.
وعندما أمر الله تعالى الإنسان بالبر بوالديه، جعل التعامل معهما وفق الأعراف {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان 15)، فالمسلم البريطاني المؤمن بالرسالة المحمدية لا يجد غضاضة في بر والديه وفق أعراف مجتمعه بوضعهما في مأوى يليق بهما يحظيان فيه بالرعاية المناسبة، بينما بر الوالدين حسب المجتمعات العربية يقتضي رعايتهما بنفسك، وكل العلاقات المجتمعية الأخرى حددها الله تعالى بالأعراف، سواء علاقة الأزواج معاشاً {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء 19)، أو طلاقاً {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (البقرة 241)، أو علاقة ولي أمر اليتامى مع اليتامى {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء 6).
وبما أن الأعراف وليدة العلاقات الاقتصادية وشروط البيئة فهي مختلفة حسب المكان والزمان، فأعراف أهل البادية والصحراء وطريقتهم في المأكل والمشرب تختلف عنها لدى أهل الجبال أو المدن الساحلية مثلاً، كذلك قد تختلف الأعراف في البلد الواحد بين الأغنياء والفقراء إذ يؤثر الوضع الاقتصادي على عادات الناس، لذا فإن مفهوم المعروف والمنكر هو حنيفي بامتياز، لكن تبقى الأخلاق محوره الثابت، فلا تبيح الأعراف السرقة أو الغش أو القتل، والأمر ذاته بالنسبة للمحرمات فوجودك في بلد يتعارف أهله على أكل لحم الخنزير لا يعني أنك ستُكره أو تضطر لذلك، بينما مواضيع اللحية وعلاقة المرء بزوجه ولباس المرأة والعلاقات الأسرية بشكل عام تدخل تحت باب الأعراف لا الحرام والحلال، وما تجده منكراً في مجتمعاً قد لا يكون منكراً في آخر، وإن كانت المرأة في بلادك ترتدي ملابس طويلة لا يعني أن المرأة مكشوفة الساقين في أوروبا هي بلا أخلاق.
ومن أفظع ما ارتكبه فقهاؤنا الأفاضل هو خلط الأمور بين الحرام والحلال، والأمر والنهي، والمعروف والمنكر، فالحلال بالنسبة لهم هو المستحسن والمسموح والمأمور به، والحرام هو المستقبح والممنوع والمنهي عنه، ودمجوا الحلال بالمعروف والحرام بالمنكر، وما زالوا إلى اليوم يحكمون بسيف “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وأتت الجماعات المسلحة لتطبقه سيفاً حرفياً على رقاب العباد.
فكيف إذاً ننظر إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هو تكليف إلهي لم يحدد الله تعالى آليات ممارسته بل تركها للأعراف السائدة من جانب، والذوق العام من جانب آخر، ضمن إطار التعارف والتعايش بين أفراد المجتمع، بعيداً عن القمع والإكراه، فلا سوق للناس بالعصا إلى الصلاة ولا إكراه للنساء على لبس الحجاب، عملاً بقوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} (آل عمران 110)، فاصطفاء محمد ليكون الآمر بالمعروف هو تكريم إلهي له {إنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات 13)، وهو الصادق الأمين بين أهله وعشيرته، وقد مارس الرسول هذا المبدأ الرسالي في جوهره والنبوي في تطبيقه بحيث يسير بالمجتمع نحو الأفضل، وهو لم يحاسب أحداً على صلاة أو صيام، بل حاسب على سرقة وغش، وإن ابتدأت مهمته بدعوة الناس إلى الإيمان بالله بعد الشرك، فقد تحولت مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد النبي إلى وظيفة الحسبة، وتدرجت من مراقبة أمور المجتمع وضبط المخالفات حتى أخذت في العصر العباسي شكلاً سلطوياً سياسياً.
لكن إذا كانت مهمة الحسبة هي مراقبة الدولة على المجتمع، فإن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي العكس تماماً، أي مراقبة المجتمع على الدولة {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران 104)، وتأتي هذه المراقبة اليوم في الدول المتحضرة، من خلال منظمات المجتمع المدني والصحافة والمعارضة السياسية السلمية، على أن يكفل الدستور حمايتها.
وبالتالي ومن خلال هذا المنظور، فإن الأمر بالمعروف لا يعطيك سلطة كفرد لأمر جارك بالذهاب إلى صلاة الجمعة مثلاً، والنهي عن المنكر لا يعطيك الحق بإحراق الحانة القريبة من منزلك، وإنما هو نقد بناء لأمور عامة لا خاصة، ولا يدخل ضمنها الحلال والحرام، وواضعاً قوله تعالى {وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران 159) نصب عينيك، وآخذاً في الاعتبار أنك كلاجىء ضيف في دولة أخرى، لها أعرافها المتناقضة مع أعرافك، عليك احترامها حتى لو لم تعجبك.
ومن جهة أخرى، ووفق رؤيتنا لدولة مدنية مأمولة، تقوم على فصل السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، فإننا نرى في سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السلطة الرابعة، المراقبة لأمور الدولة والمجتمع، وتجدر هنا الإشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري الذي ذكرناه أعلاه، فإذا أردنا تحديد مهمة السلطة الرابعة علينا تغيير أولويات الحديث، حيث كان الترتيب لتغيير المنكر: اليد ثم اللسان ثم القلب، فنضع “اللسان” كمرتبة أولى، موكل بها إلى وسائل الإعلام على اختلاف أشكالها، مرئية ومسموعة وإلكترونية، ومنظمات المجتمع المدني، ثم تأتي “اليد” كمرتبة ثانية، وهنا اليد لا نقصد بها العنف بل استخدام السلطة التشريعية لإصدار القوانين التي تنهى عن المنكر، كالفساد مثلاً، والسلطة التنفيذية لمحاسبة الخارجين عن القانون، حتى لو كان هذا الخروج هو إخلال بالآداب العامة مثلاً، بحيث تصبح “سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” هي قلب المجتمع النابض وضميره الجمعي.
للأسف فقد دمرت دولنا المدعية العلمانية المجتمع الأهلي، ولم تسمح للمجتمع المدني بالظهور، بل أعطت المجال لفئة رجال الدين للسيطرة على المجتمع، وهذا ما ندفع ثمنه اليوم، وبقي تغيير المنكر في قلوبنا إلى أن انفجرت، وكل ما نملكه الآن هو العمل على اندماج المغتربين في مجتمعاتهم الجديدة، والأمل ببناء إنسان بلادنا على أسس جديدة متوازنة.