تطلع علينا، من حين لآخر، فتاوى، ظاهرها فقهي وشرعي (من الشريعة)، وباطنها خلاف فكري وعقدي وسياسي (ولا يكترث أصحاب هذا الخلاف بالمفعول الاجتماعي والنفسي والفكري والثقافي لما يقترفونه من رأي مثير للجدل) ، حتى وإن صدرت هذه الفتاوى من مؤسسة دستورية مثل المجلس العلمي الأعلى، كما حدث، مثلا، مع فتواه حول قتل المرتد (انظر مقالنا بعنوان ” ملاحظات وتساؤلات على هامش فتوى المجلس العلمي الأعلى”، “هسبريس”، 14 ماي 2013).
وفيما يخص فتاوى الأشخاص (رجال الدين من دعاة وعلماء)، أي التي تتم خارج المؤسسات الدينية الرسمية، فحدث ولا حرج. فمن منا لا يتذكر الفتاوى الغريبة للمرحوم “عبد الباري الزمزمي” أو الفتاوى التكفيرية الصادرة عن أمثال “عبد الله النهاري” و “عبد الحميد أبو النعيم” وغيرهما؟
وتحتل، في هذا الباب، بعض فتاوى الأستاذ “أحمد الريسوني”(الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية، ونائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ “يوسف القرضاوي”) مكانة الصدارة من حيث الإثارة والاستفزاز الثقافي والفكري والحقوقي…، خاصة حين تتدثر في اللباس الشرعي (الديني) وتتخفَّى فيه لنزع الكرامة الإنسانية التي خص بها الله البشرية (“ولقد كرَّمنا بني آدم… وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”، الإسراء/ 70) ونفيها عمن يعتبرهم، من خصومه السياسيين ومخالفيه في الفكر والانتماء العقدي، خارجين عن الدين.
وقد استوقفتني فتواه الأخيرة بعنوان “دفن الملحدين، كيف؟ وأين؟”؛ خاصة وأن الجواب الذي يعطيه لسؤاليه هذين- بعد تقديم ما يمكن أن نعتبره أسباب نزول هذه الفتوى- يبعث على الغثيان بالمفهوم الحسي والمعنوي؛ إذ، بعد الاستناد على كلام مشكوك في صحته، أو على الأقل مبتور من سياقه، بهدف إيجاد تبرير لثنائيته المعهودة التي تقسم أبناء الوطن الواحد إلى مؤمنين وكفار أو مسلمين وملحدين، يخلص إلى أنه “من حق الملحدين أن يَدفنوا موتاهم كيف شاؤوا وأين شاؤوا، بعيدا عن مساجد المسلمين ومقابرهم وطقوسهم. فإن لم يفعلوا، فمن حق المسلمين أن يتعاملوا مع الجثث المتعفنة المهملة بما يحفظ البيئة ويدفع الأذى”.
لنقف قليلا عند هذه الصورة البشعة التي يريدها “الرسوني” للمجتمع المغربي: “جثث متعفنة مهملة”، يتم التعامل معها “بما يحفظ البيئة ويدفع الأذى”. ففي أي خانة يمكن أن نضع مثل هذه العقلية وهذا التفكير البشع الذي يريد للشعب المغربي، المعروف، إلى جانب وسطيته واعتداله، بوحدته في تعدد عناصرها وتنوع روافدها، أن يقسمه الموت، فيجعل منه قسما يهمل جثث موتاه حتى تتعفن وقسما آخر يتعامل مع هذه الجثث كما يتم التعامل مع القمامة؟
فأين هو الاحترام الواجب للموتى؟ وأين هو الاعتبار للكرامة التي خص بها الله الإنسان من بين كل مخلوقاته؟ ولما ذا كل هذه البشاعة في التفكير؟ وما كل هذا التخلف الفكري لدى من يُعتبر مرجعا لا يشق له غبار في علم اسمه “علم المقاصد”؟ وأي مقاصد هذه التي تتناسى القيم الإنسانية حين تَعارُضها مع المصالح السياسية الضيقة؟ وأي علم هذا الذي يجعل صاحبه لا يترفع عن الاختلاق والتلفيق… ؟ وأي…؟ وأي…؟
على كل، كلام “الريسوني” خطير وخطير جدا. صحيح أنه معروف عنه أنه لم يستطع تجاوز ثنائية الكفر والإيمان (انظر مقالنا بعنوان ” أحمد الريسوني وثنائية الكفر والإيمان”، “الاتحاد الاشتراكي”، يوم 29 – 11 – 2012) التي سجن فيها فكره وتفكيره منذ شبابه، رغم ما حققه من “مجد” في مجال علم المقاصد. لكن أن يصل به الأمر إلى هذا التصور البشع لمستقبل المجتمع المغربي لمجرد أنه اطلع على مطلب حقوقي (حرَّفه عن موضعه كما سنبين ذلك) حول “مدنية” المقابر، فهذا أمر مدعاة للتخوف والخوف على كل شيء في هذا البلد، خاصة من الذين يوظِّفون الدين الإسلامي لأهداف سياسية.
لقد ادعى “الرسسوني” بأنه قرأ، “منذ عدة سنوات، تصريحا لأحد الحقوقيين المغاربة، وهو يمثل منظمة حقوقية عالمية، طالب فيه بتخصيص مقابر ‘مدنية’ خاصة للملحدين المغاربة المتوفين، حتى لا يدفنوا في مقابر إسلامية وبالطريقة الإسلامية، على اعتبرا أن ذلك حق من حقوق الإنسان…”؛ وأضاف قائلا: “وقد تجدد هذا المطلب، خلال الأسابيع الأخيرة، وذلك بمناسبة وفاة شخص عرف بإلحاده ولا دينيته وتبرئه من الإسلام والمسلمين”، ليؤكد، بعد ذلك، معقولية هذا المطلب ومقبوليته بقوله: “وهذا مطلب أراه معقولا ومقبولا لعدة أسباب…” (ولمن أراد الاطلاع على هذه الأسباب، عليه بزيارة الموقع الرسمي للريسوني على الانترنت) .
واضح جدا أن “الريسوني” يبحث عن مبرر لفتواه (أسباب النزول) حتى يصل إلى هدفه؛ وهو تقسيم المغاربة إلى مسلمين وملحدين. وهذا ليس جديدا في “فكر” هذا الرجل. وككل الموظِّفين للدين لأهداف سياسية (أو شخصية)، فهو لا يتورع عن تحريف كلام غيره عن مواضعه أو اختلاق أحداث لتبرير مواقفه.
وبما أن تصديق “الريسوني” فيما استند إليه من أقوال خصومه الحقوقيين (والسياسيين) يحتاج إلى غير قليل من السذاجة، فقد فكرت في البحث عن صحة هذه الأقوال من عدمها، خاصة وقد أعطى في الفقرة الأولى من نص فتواه بعض الإشارات التي يمكن الاسترشاد بها لمعرفة صاحب التصريح الذي استند عليه “الريسوني”.
ولم يكن “أحد الحقوقيين المغاربة… [الذي] يمثل منظمة حقوقية عالمية” المشار إليه في الفقرة الأولى من فتوى الريسزني سوى “محمد السكتاوي”، مدير عام منظمة العفو الدولية- فرع المغرب، الذي طالب بـ”علمنة” المقابر في المغرب، أي جعلها “مدنية”، مُشيدا بالتجربة الفرنسية في تدبير المدافن، من خلال جعل المقابر مفتوحة أمام جميع الديانات.
ويتضح تحريف كلام “السكتواي” حين يزعم “الريسوني” بأن الأخير طالب بتخصيص مقابر “مدنية” “خاصة بالملحدين المغاربة المتوفين، حتى لا يدفنوا في المقابر الإسلامية…”. أما حديثه عن تجدد المطلب، خلال الأسابيع الأخيرة، بمناسبة وفاة شخص معروف بإلحاده ولا دينيته وتبرئه من الإسلام والمسلمين، فلا يعدو أن يكون مجرد ذريعة مُخْتَلَقَة لتسويغ فتواه التي تصر على تقسيم المجتمع المغربي إلى فسطاطين: فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر والإلحاد.
ففي الوقت الذي يتحدث الحقوقيون عن مقابر مفتوحة أمام جميع الديانات، يصر “الريسوني”، انسجاما مع ثنائيته المعهودة، على أن المطلب الحقوقي يقتصر على مقبرة خاصة بالملحدين؛ بل، أكثر من هذا، فهو ينسب إليهم رفضهم الدفن في مقابر المسلمين.
ويتضح مما سبق ومن الأسباب “الشرعية” التي اعتمد عليها في فتواه، أن الشيخ “الريسوني” لا حظ له من الاطلاع على العلوم الإنسانية الحديثة (علم النفس وتفريعاته، علم الاجتماع وتفريعاته، علم الإناسة، علم التاريخ…) ولا نصيب له من أدوات التحليل الثقافي والفلسفي والسياسي وغيره؛ وإلا لما كان قد أقدم على مثل هذه الفتوى وفي هذا الظرف بالذات وبالصيغة إياها، خاصة في فقرتها الأخيرة التي تبعث على التقزز والاشمئزاز؛ اللهم إن كان هدفه هو إحداث الفتنة. وفي هذه الحالة، يختلف كل شيء ويجوز كل شيء.