أعتقد، شخصيا، أن أسوأ وأقبح ما في الإنسان، هي أنانيته. ومن تستحكم فيه  هذه الآفة، يصبح غير قادر على التمييز بين المصلحة الآنية العابرة وبين المصلحة الحقيقية الدائمة؛ وحتى القيم تختلط عنده، فبعجز عن الحفاظ على القيم الخالدة ويساير القيم الزائلة. وبمعنى آخر، فهو يعدم الإدراك لمصلحته الحقيقية لكون الأنانية تجعله لا يرى أبعد من أنفه. ولذلك، تجده يُقيِّم كل شيء من منظور”أنا أولا أحد” أو “أنا ومن بعدي الطوفان” أو “علي وعلى أعدائي”، الخ.  

ما دفعني إلى التفكير في هذا الموضوع، هو ما ألاحظه، منذ مدة ليست بالقصيرة، من ضمور واندثار، في سلم القيم الاجتماعية والسياسية، لمكانة بعض الشخصيات الوازنة التي استطاعت، في ظروف معينة،  أن تصنع لها، بفعل مواقفها ونضالها، موقعا متميزا ومكانة مرموقة في المجتمع. غير أنها لم تستطع أن تحافظ على هذه المكانة وهذا الوضع الاعتباري لكونها لم تتمكن من الصمود في وجه الأنا وضعفت إلى الحد الذي جعلها تفقد أغلى ما كانت تملك؛ وهو احترام الناس وتقديرهم.

فالأنانية تجعل الإنسان يأتي أفعالا، يصغر بها في أعين من وثقوا فيه ومنحوه إن لم يكن حبهم ووفاءهم، فعلى الأقل تقديرهم واحترامهم. فحين تطغى الذاتية على الإنسان، فهي تأتي على كل شيء لكونها تجعله يتخذ مواقف ويقوم بأفعال تقوض أركان البنيان الذي بناه لبنة لبنة بالمواقف النبيلة والتضحيات الجسيمة (انظر “عن الذات المقيتة”، محمد إنفي، “أخبارنا”، 11-07- 2014)، فيصدق في حقه المثل الشعبي “للِّي حرث اجْمل دَكُّو”.

ولو أردت أن آخذ أمثلة للقامات التي انهارت وتصدع إيمانها بمبادئها، إما بسبب صدمة الجحود الذي لقيته من البعض الذي أنكر عليها أهمية مساهماتها في البنيان المشترك (حزب، نقابة، جمعية) أو بسبب الضعف الذي أظهرته أمام مصلحة ذاتية عابرة(منصب، موقع، حظوة معينة، الخ)، فضحَّت برصيدها المعنوي ورأسمالها الرمزي، لاحترت في الاختيار؛ ذلك أن ضعف النفس البشرية لا يسلم منه إلا من أخذ الله بيده. فكم من الناس، مثلا، ضعفوا أمام مصلحة ريعية معينة، سواء كان الريع ماديا أو معنويا أو هما معا (انظر “معضلة الريع في العمل السياسي والنقابي والجمعوي”، محمد إنفي، “صحراء بريس”، 19- 11- 2014)، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها حين شعروا بنهاية الاستفادة من هذا الريع. 

لكن، هناك أناس آخرون، منحهم الله عزة النفس وقوة الشكيمة ونعمة البصيرة وفضيلة الصبر والتواضع… فلا تغريهم الأطماع المادية ولا ينقادون وراء الطموحات الزائدة ولا يتملكهم الغرور والكبرياء ولا تحركهم الرغبة في الانتقام…؛ بل يعرفون كيف يحافظون على رصيدهم المعنوي ويحفظونه من التآكل والضياع، فلا يكابرون ولا يعاندون ولا يتحدَّوْن ولا يقاومون التجديد والتغيير…؛ بل، ينصرفون في الوقت المناسب وبدون ضجيج من ساحة “المعركة”، تاركين وراءهم الذكر الحسن الذي يحافظ لتاريخهم الشخصي على إشراقه ولرصيدهم الرمزي على حضوره.

وإذا كان الناس معادن، كما جاء في الحديث النبوي الشريف، فمن هذه المعادن، كما يظهر من التصنيف أعلاه، ما هو نفيس ومنها ما هو غير ذلك(أي تافه)؛ كما أن منها ما هو صلب ومنها ما هو غير ذلك(أي واهن). وكما تتنوع المعادن، تتنوع أصول الناس و طبائعهم وشخصياتهم. فمنهم الأمين والوفي والصادق والخدوم والصبور والمتسامح والمتواضع…؛ ومنهم الانتهازي والمخادع والغدَّار والحقود والغشاش والكذَّاب والمنافق والمغرور والمتعجرف، الخ. ومن معدنه أصيل ونفيس، أي لا يصدأ، تجده يعض بالنواجذ على المبادئ والقيم التي يؤمن بها؛ أما من معدنه غير ذلك، فقد يهدم، في لحظة غضب، كل ما بناه؛ وقد يكون ذلك لأتفه الأسباب.

وإذا ما أسقطنا هذا التحليل على المجال السياسي والنقابي والمجتمع المدني، سنجد أن المشتغلين في هذه المجالات لا يخرجون عن التصنيف الوارد في الفقرة أعلاه. ولن يفيد هذا الإسقاط إلا إذا ضيقنا الأمر وحصرناه في القادة؛ ذلك أن هؤلاء مفروض فيهم أن يكونوا قدوة. والقدوة إما أن تكون صالحة وإما أن تكون فاسدة. وهنا، يبرز الدور الخطير للنموذج الذي يقدمه هذا القائد أو ذاك. والقائد لا أعني به، هنا، الزعيم أو المسؤول الأول عن هذا التنظيم أو ذاك، بل أعني به كل شخص استطاع، في مؤتمر من مؤتمرات هذا التنظيم، سواء كان سياسيا أو نقابيا أو جمعويا، أن يصل إلى أن يكون من بين التشكيلة التي تُكوِّن قيادته الوطنية، التنفيذية على الخصوص، بين المؤتمرين.

وأود أن أحصر التمثيل على الظاهرة في المجال السياسي. وحتى في هذا المجال، سوف أكتفي بحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، اعتبارا لتاريخه ولرمزيته النضالية والسياسية، واستحضارا لتضحيات مناضلاته ومناضليه في مواجهة الاستبداد دفاعا عن الحرية والديمقراطية والكرامة (وتقارير هيئة الإنصاف والمصالحة شاهدة على ذلك)، ونظرا، كذلك، للهزات الداخلية التي رافقت محطاته التنظيمية الوطنية بسبب الخلافات التي لعبت فيها الطموحات الزائدة والذاتية المقيتة والحسابات الشخصية الضيقة دورا حاسما.

غير أن هذا لا يعني أنني سأدخل في تفاصيل الأحداث أو أستعرض مواقف الأشخاص وذكرهم بأسمائهم. فلن يجد القارئ، في هذا المقال، لا اسم فلان ولا لقب علان [وأحيل من يستهويه هذا الموضوع (أي الاطلاع على بعض الأسماء) على الموقع التوثيقي “مغرس” (maghress.com/author/ محمد إنفي) الذي قد يرضي فضوله إذا ما اطلع على بعض المقالات ذات الصلة].

لكن، لا بد من أن أسجل أن أقوى إساءة لحزب القوات الشعبية هي التي أتته من أبنائه. فليس هناك حزب مغربي عرف ما عرفه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من صراعات داخلية، خاصة على مستوى القيادة. فمنها ما أدى إلى الانشقاق وتأسيس حركات أو أحزاب توهمت أن تصبح بديلا عن الحزب الأم.  ومنها ما أدى ببعض الأشخاص، بعد أن دقت ساعة نهاية استفادتهم من الريع الحزبي، إلى سل سيوفهم من غمدها والضرب في كل الاتجاهات، معلنين وفاة الاتحاد الاشتراكي، دون أدنى أي اعتبار لا لتاريخ حزبهم ولا لتاريخهم الشخصي داخل هذا الحزب.

ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء من فاجأتهم الدينامية الجديدة التي عرفها الحزب بعد مؤتمره التاسع، ولم يستطيعوا مسايرة إيقاعها، فراحوا يبحثون لأنفسهم عن مبررات واهية، في كثير من الأحيان، للتغطية عن عجزهم وعدم قدرتهم على الانخراط الفعال في استعادة المبادرة.  

من حسن الحظ أن التاريخ (الخاص والعام) قد سجل، عبر مراحل مختلفة، بمداد من الفخر والاعتزاز وبقدر كبير من العرفان والامتنان أن الكثير من القيادات والشخصيات الاتحادية البارزة قد فضلت، بعد استشعارها لنهاية دورها القيادي، الانسحاب من الواجهة بهدوء وعزة نفس وسمو أخلاقي… وهكذا، توارت إلى الخلف وترفعت عن الصغائر، فحافظت على مكانتها الرمزية داخل البيت الاتحادي وخارجه.

 ويسجل نفس التاريخ أن البعض من الذين كان يقام لهم ويقعد ويحسب لهم ألف حساب، ليس فقط داخل الحزب (حزب الاتحاد الاشتراكي)، بل وأيضا في الساحة السياسية الوطنية، قد ردموا تاريخهم الشخصي (الذي هو جزء لا يتجزأ من تاريخ حزبهم)  ودكُّوه دكا، بعد أن  استسلموا للحقد والغل والضغينة وحب الانتقام. ولهذا، فقدوا وزنهم وأصبحوا في عداد المنبوذين بعد أن كانوا أصحاب حظوة سياسية واجتماعية متميزة؛ وإن منهم من طواه النسيان أو لا يتم تذكره إلا لمواقفه السيئة.

ويعرف الاتحاديون والاتحاديات من هم الأشخاص الذين استسلموا لذاتيتهم المقيتة، فقوضوا تاريخهم الشخصي وأساءوا إساءة بالغة إلى حزبهم وإلى تاريخه المشرق.  ومنهم من لا يجد حرجا، بعد كل الضربات الموجعة التي وجهها لهذا الحزب، في أن يأسف على الوضع  الذي آل إليه، ملقيا باللوم والتهم على الغير، ناسيا أو متناسيا أن معاول أمثاله هي التي أوصلته إلى هذا الوضع الذي تجتهد القيادة الحالية من أجل إخراجه منه.

ولن أمل من التذكير بأن الشيء الوحيد الذي نجح فيه الذين حلموا بتأسيس البدائل الفاشلة عن الاتحاد الاشتراكي والذين تسابقوا على إصدار شهادة وفاة في حقه وهم يرون أنه يتعافى أو غيرهم من الذين يحاولون عرقلة مسيرته بهذه الطريقة أو تلك، هو إضعاف حزبهم الذي كان يشكل القوة السياسية الأولى في البلاد. وبهذا، أدوا، بوعي أو بدونه، بمقابل أو بدونه، خدمة لا تقدر بثمن لخصومه. ولن يغفر لهم التاريخ ذلك. وها قد بدأ يستقبل البعض في مزبلته.    

*الخميس 14 يوليوز 2016.

 

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…