أود، قبل أن أعرض لأمثلة ملموسة من السَّفه في تدبير حزب العدالة والتنمية للشأن العام، أن أُعرِّف بالمقصود من كلمة السًّفه (أو السفاهة) حتى لا يعتقد البعض بأن القصد هو السب والشتم والقذف… ويتيه في معاني هذه الكلمة التي لا يعنيني منها سوى ما يفيد الإسراف والتبذير وهدر المال (العام، طبعا). وبمعنى آخر، فالمقصود بالسفه أو السفاهة، هنا، هي إساءة التصرف في المال العام؛ أي التصرف فيه بما يناقض الحكمة ويناقض منطق الأولويات ويتعارض مع ما يُرفع من شعارات ويعاكس الأهداف الحقيقية للمرصود من الأموال في الميزانيات، سواء كانت للتسيير أو الاستثمار.
لقد سبق لي أن كتبت مقالا “عن السفه الحكومي” (انظر” الشرق المغربية” يوم 09 – 04 – 2014) المتجلي في طريقة تدبير الشأن العام بكل مجالاته ومرافقه وفي التعامل مع الفرقاء السياسيين والاجتماعيين؛ وكذا في التعامل مع النص الدستوري.
وليست لي نية ولا رغبة في العودة إلى هذا الموضوع الذي أملته آنذاك ظروف سياسية واجتماعية محددة، تعاملت معها الحكومة، وأساسا رئيسها، بطريقة تفتقد إلى الحِلم وإلى بعد النظر. كما لن أخوض في الفضائح المتعددة التي تنفجر من حين لآخر في هذا القطاع الحكومي أو ذاك أو في هذه المؤسسة العمومية أو تلك، والتي تزكم الأنوفَ بروائح استغلال النفوذ واستعمال الزبونية والمحسوبية، سواء في توظيف الأبناء والأقرباء أو في تعيين الأتباع في مناصب المسؤولية، أو غير ذلك من الفضائح التي تورط فيها العديد من القيادات الوطنية والمحلية لحزب المصباح.
وقد فكرت في أن أقتصر على بعض الإشارات إلى الكيفية التي يتعامل بها رؤساء المجالس المنتخبة التابعين لحزب العدالة والتنمية مع المال العام الذي هم مستأمنون عليه بحكم القانون، خاصة وقد بدأت تطفو إلى السطح، رغم قصر المدة، العديد من الفضائح، أبطالها قياديون في هذا الحزب.
يكفي المرء أن يتابع ما يُنشر في الصحافة (الورقية منها والإليكترونية) حول ما يقع من تجاوزات وما يحدث من خروقات في هذه الجماعة أو تلك أو هذه الجهة أو تلك، ليكوِّن فكرة عن النخبة المحلية التي أفرزتها الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة (4 شتنبر2015).
ومن المعروف أن حزب العدالة والتنمية قد حقق، في هذه الانتخابات، فوزا كبيرا، حتى لا نقول كاسحا، خاصة في المجال الحضري، كان مفاجئا حتى للحزب نفسه؛ ونتيجة لذلك، فقد أصبح يُسيِّر أغلبية المدن المغربية بكبرياتها والمتوسط منها.
وبمجرد ما شرع عمداء المدن ورؤساء الجماعات الحضرية التابعون للحزب الأغلبي في ممارسة مهامهم، حتى بدأت الفضائح، بشتى أنواعها، تتناسل وتتواتر هنا وهناك؛ بحيث يمكن القول، دون الخوف من الوقوع في المبالغة أو الاتهام بالتحامل أو الافتراء، بأن مسلسل الفضائح، أو على الأقل التجاوزات في مجال التسيير والتدبير، يغطي التراب الوطني من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
لن أتحدث عن الفضائح الأخلاقية من قبيل تلك التي بطلها عمدة الرباط مثلا(ملف ما بات يعرف بمغادرة شركة ريضال لدواعي صحية والتعويض المحصل عليه؛ استمراره في شغل منصب مستشار في ديوان وزير التجهيز بأجرة شهرية…)؛ بل سوف أكتفي بنقطة واحدة، يبدو أنها تشكل القاسم المشترك بين رؤساء المجالس المنتخبة التي يسيرها حزب العدالة والتنمية. ويتعلق الأمر بتهافتهم وتسابقهم على تبذير المال العام، إن من أجل البذخ غير المقبول (سيارات فارهة) أو لدفع تعويضات للمقربين من العدالة والتنمية (موظفون أشباح وأعضاء في منظمات مدنية) دون التقيد بالشروط المطلوبة للاستفادة من مثل هذه التعويضات؛ مما يجعلها مجرد ريع، يستفيد منه الأتباع.
ويمكن أن ندرك بوضوح، من خلال هذه النقطة (تبديد المال العام)، درجة السفه التي يتميز بها تدبير “البيجيدي” للشأن العام المحلي. فالمطَّلع على أخبار صفقات شراء السيارات من قبل رؤساء المجالس المنتخبة المنتمين لحزب المصباح، سوف يلاحظ الاتفاق الحاصل بين هؤلاء المسئولين الجدد على تبذير المال العام واستغلاله، وكأن الأمر يتعلق بقرار حزبي(“الله ينجيك من المشتاق إلى داق”). ومن يتأمل في نوع السيارات وسعرها وعددها والأشخاص المستفيدين منها، سوف يدرك أن الأموال المهدورة، في هذا المجال، سوف لن تعود بأي منفعة تذكر بالنسبة للساكنة، بقدر ما سينتفع منها بعض المحظوظين. وهذا هو السفه بعينه.
وإذا كان ليس من السهل تتبع عمل كل المجالس لكشف الخروقات والتجاوزات، فإنه من المفيد الاطلاع على بعض الأمثلة التي تُبرز نظرة المسئولين الجدد، ليس إلى المال العام فقط، بل وأيضا إلى المرافق الاجتماعية والثقافية والرياضية وغيرها من التي يعود نفعها على المجتمع. فأن يتم اقتطاع مبالغ مالية من المشاريع المبرمجة وتحويلها إلى شراء السيارات (أسفي) أو تحويل اعتمادات خاصة بالمنشئات الرياضية والثقافية إلى شراء السيارات(الرباط)، فهو السفه في التدبير وفي الرؤيا وفي الحكامة. ثم، أليس من السفه أن يرفض رئيس مجلس مدينة أسفي (والكاتب المحلي لحزب العدالة والتنمية) الكشف عن مصدر (أو مصادر) 270 مليون المخصصة لشراء السيارات ويجيب المتسائلين:”هادا رزيق جابو الله”؟ وهنا يصبح السفه مركبا، خاصة وأن الجماعة تعاني من تراكم الديون.
ومن الأمثلة البارزة للسفه الذي يُدبَّر به الشأن العام على المستوى الترابي، ما قام به الشوهاني، عفوا الشوباني الذي يرأس أفقر جهة في المغرب؛ وهي جهة درعة تافيلالت. فبعد أن اكترى (في صفقة مشبوهة) فيلا بقيمة 50.000 درهم شهريا كمقر للجهة، عمد إلى اقتناء 7 سيارات رباعية الدفع من النوع الرفيع (كات كات توارك) بحوالي 300 مليون.
وقد أحدث هذا الأمر ضجة كبيرة على مستوى الجهة- نظرا للخصاص المهول الذي تعاني منه هذه الجهة على مستوى التجهيزات الأساسية- تمثلت في الاحتجاجات والوقفات التي عكست أصداءها المواقع الاجتماعية والمنابر الإعلامية. وبدل أن يتفهم الأمر ويعمد إلى الحوار مع المحتجين، راح يتبجح بقوله:”سنكون أول جهة تشتري طائرة هيليكوبتر لتنقل أطرها”؛ وهو ما أجج الاحتجاجات.
شخصيا، لم يفاجئني موقف الشوباني، خاصة وقد خبرنا أسلوبه، حين كان وزيرا مكلفا بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، في التدبير القائم على التبذير. ومغامراته، في هذا الباب، إلى جانب مغامراته العاطفية، سارت بها الركبان.
لكن، باستحضار السفه الحكومي الذي “يتزعمه” السيد رئيس الحكومة والسفه الذي أبان عنه رؤساء المجالس المنتخبة المنتمين لحزب العدالة والتنمية (وهذا ليس فيه تبرئة للرؤساء المنتمين للأحزاب الأخرى)، أو على الأقل أغلبهم، يتبين أن الأمر لا يتعلق بنزوات هذا الرئيس أو ذاك، وإنما هو نسق سلوكي وإيديولوجي واختيار مذهبي يقوم على استباحة المرفق العام والمال العام خدمة للمصالح الضيقة، الشخصية منها والحزبية.
وهذا ما يتناقض مع ما يدعونه من مرجعية إسلامية؛ الشيء الذي يعطي الدليل بأنهم يوظفون الرأسمال اللامادي، أي الدين الإسلامي، في العمل السياسي لاستغفال الناس وخداعهم للوصول إلى مراكز المسؤولية بهدف استغلال النفوذ والتصرف في الثروة المادية (الميزانيات) المستأمنين عليها، ليس خدمة للمصلحة العامة وإنما لتحقيق أطماعهم الشخصية والحزبية. وقد نجد في هذا تفسيرا للنزعة الاستبدادية التي تتحكم في الأشخاص ومؤسسات الحزب الأغلبي، أو على الأقل عنصرا من العناصر التي تساعد على فهم هذه النزعة.
*الجمعة 8يوليوز 2016.