الحكومة و الحكم و التحكم ، مفاهيم صارت تثار بشكل متكرر في الآونة الأخيرة بالمغرب ، وخصوصا في تصريحات رئيس الحكومة الذي لا يترك الفرصة تمر دون أن يخلط الأوراق و المفاهيم ، ليبرر وضعيات و مواقفا تسم وتطبع أداء حكومته ، مستشرفا في نفس الآن مستقبلا سياسيا له ولحزبه ، من خلال خطابه السياسي المزايد على المعارضة ، وعلى الأغلبية ، وعلى المؤسسة الملكية ، وعلى كل مكونات الدولة بالمغرب . و الأمر هنا يتعلق بممارسة خطاب سياسي مقصود و محين ، قد يكون تبريريا ، و لا يصل إلى مستوى و محتوى التحليل السياسي ، وإن كان – تجاوزا – هذا الخطاب السياسي يبقى مشروعا و من حقه ، ومن حق غيره ، ومن حق الطامح والطامع في استمرار الهيمنة على المشهد السياسي ، و اكتساح صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية ليوم 7 أكتوبر المقبل ، من أجل العودة إلى الحكومة نفسها ، مع إمكانية غض النظر و التغاضي حين بلوغ ذلك الهدف عن الاكراهات و التناقضات التي يسوقها ، وعن موقفه من الحكم و التحكم الذي ينتقده.
لن ندخل في محاصرة المفاهيم المضمنة و المشكلة لهذا راهنا ، لكن ثمة إشارات تشي بالمزايدة و التحذير و التخدير ، والكثير من الشعبوية في الخطاب المزدوج و المتناقض مع أشكال التدبير و المواقف التي تصرفها الحكومة منذ ولايتها بعد انتخابات 25 نونبر 2015 ، في ظل دستور 2011 ، وفي سياق رجة ذات ربيع عربي أربك حسابات الجميع حينها .
أسئلة كثيرة تطرح نفسها و نحن نحلل الخطاب ، آخذين مسافة من سياق وصول حزب العدالة و التنمية للحكومة ، أو المشاركة في الحكم رغم سلطة التحكم – كما يقول خطاب بنكيران – . فهل كان حزب العدالة و التنمية قبل توليه المسؤولية يجهل قانون اللعبة السياسية بالمغرب ؟ وفي ذلك الظرف بالذات ؟ وهو نفس الحزب الذي يدعي أن وزارة الداخلية سبق أن أرغمته على التراجع عن اكتساح صناديق الاقتراع سنة 2003 ؟
فإذا كان الحزب يجهل ذلك و يعلنه صراحة فتلك مصيبة ، وموقف ، و قرار سياسي يحسب ضد حزب العدالة و التنمية ، بحكم أنه لم يكن يتحكم في المعطيات الإستراتيجية للوضعية السياسية بالمغرب ، ولا يعي نسبة و توازن موازين القوى المؤثرة في المشهد السياسي بالبلاد. أما إذا كان يعي ذلك و يضعه في اعتبار حساباته ، فهذا يعني أنه قبل الدخول إلى الحكومة في إطار الانتهازية السياسية ، أو الريع السياسي ، أو المغامرة و المقامرة السياسية ،أو الرهان على سياقات أخرى خارجية .. فالمصيبة هنا أعظم ..
وكيفما كان الحال و الرهان ، فالأمر يقودنا منهجيا إلى سؤال ثان و مباشر : ماذا فعل حزب العدالة و التنمية لتقويم – وليس تقييم – المشهد السياسي من داخل أروقة أو حتى كواليس الدولة ؟
نعلم ونرى أن الأداء الحكومي ، ونحن نقترب من نهاية الولاية الأولى بنسختيها يؤكد معطيات أخرى ، إذ أن الحكومة ضلت مختبئة وراء مبررات هلامية ، من قبيل وجود التماسيح و العفاريت خلف الستار. ولم تصرح فعليا و إجرائيا في قراراتها و مواقفها بنقط أو مجالات الخلل و الضغط التي تفرضه التماسيح ، أو العفاريت ، أو أهل الحكم الآخرون . هذا في الوقت الذي تصرح فيه – في الخطاب الموجه للعامة – أنها لا تحكم وحدها … بمعنى أن ما قامت به من إجراءات إيجابية و شعبية ، في رأيها و حسب طرحها و منظورها يحسب لها وحدها . وكل ما هو سلبي و مستعصي على الإنجاز سببه و المسؤول عنه هو من يحكم معها أو يحكمها … ، أو الجهة الأقوى منها في صياغة القرار، أو لوبيات التحكم ، والتي يفهم من تصريحات بنكيران أنهم يشكلون دولة أخرى داخل الدولة . وهذا منطق غريب يقود إلى الازدواجية و السكيزوفرينيا السياسية ، أو على الأقل لتبرير التملص من المسؤولية المرهونة بالمحاسبة حسب نص دستور 2011 .
كما أن المقال و المقام يفرض أن نطرح سؤالا آخرا يؤكد تناقض الخطاب الحكومي ، وخطاب العدالة و التنمية : فمن المسؤول إذن على النهج ، و السياسات ،و القرارات ، التي أشرت عليها الحكومة ، و التي يجمع العديد من المتتبعين على خطورة تأثيرها على الاستقرار الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي بالمغرب ؟ هي – أي الحكومة ؟ أم من يحكم معها ؟ أم الحكومة الثانية التي لا يعلمون من يقودها ؟ أم أولياء التحكم ؟ ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
- تحرير الأسعار و تقليص أداء صندوق المقاصة .
- تحرير أسعار البترول و ما نتج عنه وما سينتج من مضاربات ، رغم أن أسعار البترول حاليا في أدنى مستويات أثمنتها .
- ارتفاع كلفة المعيشة ،واتساع مجال المضاربات المتحكمة في الأسواق .
- زعزعة صناديق التقاعد و تمرير القانون الجديد في جلسة مشبوهة بمجلس المستشارين الذي لا تتوفر فيه على أغلبية ، مما يشي بالتحكم الذي تمارسه الحكومة على مكونات المجلس في نفس الوقت الذي تشتكي أنها ضحية التحكم .
- تحميل الشغيلة و الموظفين كل أعباء تعديل منظومة التقاعد الجديدة .
- عدم مباشرة التحقيق اللازم في وضعية صناديق التقاعد و غيرها من الصناديق التي صارت في وضعية لا تسمح لها بمسايرة الواقع وفق التدبير المرغوب و المتوخى .
- إنزال المرسومين الخاصين بإقصاء توظيف عدد من الأساتذة المتدربين خلال السنة الحالية ، رغم أن الوضعية الراهنة للتعليم تقول بضرورة توفير أطر أكثر لإغاثة المدرسة العمومية من السكتة القلبية .
- عدم أجرأة كل بنود الحوار الاجتماعي و عرقلة الحوار إلى درجة تجميد كل الامتيازات و التحفيزات .
- إرباك سوق الشغل في ظل سياسة اقتصادية يطبعها التردد .
- العمل على تنزيل قانون التوظيف بالعقدة ،وإمكانية تأثيره على الحق في التشغيل ،و أيضا على صناديق التقاعد المتهالكة أصلا ، وهو قرار يسير ضد تيار إصلاح هذه الصناديق .
- الرفع و الدفع بمديونية المغرب إلى أقصى مستوياتها .
- إضعاف الاستثمار ، و ضعف و هشاشة التوافقات اللازمة مع الباطرونا .
- خلط الدين بالسياسة ، و السياسة بالدين ، و إنتاج وترويج خطاب عاطفي شعبوي .
- إنزال الخطاب السياسي إلى مستوى ” الحلقة ” و التهريج و القفشات و الديماغوجيا .
هذه فقط أجزاء من الكل ، لكن ما لا يقوله خطاب بنكيران علنا ، هو السياق الذي راهن عليه الحزب إبان الانتخابات التشريعية الأخيرة ، بنية و خلفية التماهي مع المد “الإخواني ” إقليميا وبالمنطقة العربية ، و الذي لم يتم و لم تستمر بالشكل الذي ارتضاه الإخوان و إخوانهم بكل من مصر و تونس ، وعدم القدرة على مسايرة سياسة تركيا وحزبها الحاكم المتسم بالحربائية و تغيير مسار التحالفات و الأولويات الدولية …
فمعطيات كثيرة تؤكد أن حزب العدالة و التنمية يحاول فبركة خطاب على مقاسه ،يليق بإيديولوجيته ، ويبرر مرحلة مسؤولية حكومية لم يتحكم في سيرورتها وجل عناصرها … فلو هبت و استدامت الرياح إقليميا لصالح حلفائه في المرجعية لكان هناك خطاب مغاير و موقف مغاير .
ولكل مقام مقال في صياغة ، و تبني ، و تمرير خطاب العدالة و التنمية بالمغرب .
*الاربعاء 7 يوليوز2016.