لربما كانت ( الأزمة) من أكثر مصطلحات اللغة العربية تداولا واستعمالا في حياتنا اليومية خلال الزمن الراهن. فهي حاضرة على كل الواجهات، في كل القطاعات و المجالات. ترتبط بحياة الناس في الشوارع والبيوت والمعامل والمدارس والمستشفيات والإدارات العمومية، كما ترتبط بالحياة السياسية، في الأحزاب والمنظمات والهيئات و الحكومات والمؤسسات البرلمانية.
يعني ذلك أن “الأزمة” ليست حكرا على المجتمع، فحضورها قوي و متعدد في السياسة و الاقتصاد والثقافة، يستعملها الزعماء و الوزراء و المدراء و المثقفون بكثافة، كل من موقعه واختصاصه، بعضهم يوظفها في خطاباته الإيديولوجية و بعضهم الآخر يتحدث عنها ويشرحها بمناهج البحث العلمي، والبعض الآخر يقلب أوراقها، يفككها ويعيد تركيبها بمناهج وأساليب وصيغ إعلامية مختلفة و متباينة . جرائدنا الورقية والالكترونية و مجلاتنا و فضائياتنا و كتبنا و منابرنا الإذاعية ملئ بالكلام عن الأزمات التي تطوقنا و تحيط بنا من كل جانب، فأزمة الحكم و السلطة، كأزمة الثقة و أزمة الاقتصاد، و أزمة التشغيل و أزمة التخطيط كأزمة النص و” أزمة المنهج “و” أزمة النقد ” و” أزمة القراءة ” كلها تصب في أزمة بنيوية/ هيكلية/ شاملة؛ تحيط بنا من كل زاوية، و من كل جانب.
منذ عقود بعيدة، انتقلت هذه المفردة العجيبة بهدوء من تعابير المبدعين والمثقفين و النقاد، إلى تعابير السياسيين والاقتصاديين والحقوقيين والرياضيين، فأصبح كل في مجال تخصصه، يعيش الأزمة/ يشرح الأزمة. أو يفعل آليات مواجهتها. ففي المؤتمرات و الملتقيات الثقافية والفكرية والسياسية والإعلامية، كما في المجالس الحكومية والحملات الانتخابية تتحول الأزمة إلى أداة للعمل. وإلى خارطة طريق سالكة إلى عقول المناضلين و الناخبين و الرياضيين و الاقتصاديين و المثقفين، تتحول إلى عملة رابحة، للذين “يصنعون” الأزمة و الذين “يبحثون” لها عن حلول.
و منذ عقود بعيدة أيضا، لم يتوقف خطاب الأزمة على المستوى الشعبي، كما على المستوى الرسمي، لتصبح “الأزمة” قضية منهجية تعايشنا ونعايشها في كل ثانية من حياتنا، بعدما مست عدواها كل البيوت والمرافق والمؤسسات والقطاعات، لتصبح شاملة تمس كل الأحاسيس والمشاعر. و تسكن كل العقول والقلوب، بعدما، اتخذت لنفسها بسبب ظروفنا التاريخية، أوسع مجال في حياتنا العامة، فنحن لا نخرج من أزمة إلا و لندخل في أخرى بإرادتنا أو بعدمها، لتصبح هذه الأزمة سيدة اللغة و التعبير و البلاغة في خطابنا السياسي/ الاجتماعي/ الاقتصادي/ الثقافي. ولتصبح سيدة الموقف في كل خطاب وبرنامج و إيديولوجية، تنتقل من مفهومها المادي إلى مفاهيمها الحسية، تتخذ صورتها في الواقع، من خلال صورتها في مكونات و هياكل هذا الواقع.
يعني ذلك بوضوح أن ” الأزمة ” في حياتنا/ في واقعنا، ليست حالة اعتراضية، فهي تمتد، تتوسع عبر مساحات لا نهائية، و كأنها قدر محتوم، تتعمق في وجداننا، على جدارية الأخلاق، تتجاوز حدود الذات الفردية، لتشمل الذات الوطنية الشاملة.
إلى منتصف القرن الماضي، كانت “الأزمة” في أوربا الغربية نتاج طبيعي و مباشر للخلخلة الاقتصادية التي عرفتها هذه القارة بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تكن تمس المناحي الأخرى في حياة الناس، لأنها كانت محاصرة بموانع الثقافة و الفكر، و بأسس التربية الأولية للأفراد، لكن يبدو أن ” أزمة ” العالم المتخلف/الفقير/الذي يسير في طريق النمو، تتخذ اليوم منحى آخر، تطورت كمفهوم و كواقع اقتصادي/ اجتماعي/ سياسي/ ثقافي عام، إلى الحد الذي أصبحت شاملة تتحدى كل الموانع الموضوعة في طريقها.
و إلى منتصف القرن الماضي أيضا، كانت ” الأزمة ” في المغرب، اقتصادية بحثه، و لكن و بسببها، بدأت المقومات الأخلاقية في الانهيار، و بدأت التوازنات الاجتماعية في الانحدار، و أصبحت الأزمة تأخذ حجم ” الغول ” الذي يلتهم كل ما في طريقه، فلم تترك لجيل الاستقلال وقتا يتنفس فيه الصعداء، ليعقلن أوضاعه وأزماته، و لم تتح له الفرصة للخروج بالتاريخ إلى مرحلة اشمل وأرحب وأكبر. فبقي هذا الجيل أسير أزماته المتميزة بعنف الصراعات، و المنغمسة حتى القعر في الفساد و السوداوية. فطبعت الأزمات المترابطة، حياته و سلوكه الفردي و الجماعي، و أصبحت جزء لا يتجزأ من كينونته، و من سيرورته النفسية و الأخلاقية.
الجيل المغربي الجديد الذي تربى و ترعرع في أحضان ذلك الركام المفزع من الأزمات، والذي يغطى في مغرب اليوم مساحة هامة في تراثنا البشري ( حوالي 80 % من الساكنة الوطنية)، أزماته تختلف ــ بكل تأكيد ــ عن أزمات الأجيال التي قبله، أزماته اليوم تغطى كل حياته، فهو جيل ملئ بالتمزقات المؤلمة. ملئ بالفراغ الروحي والجسدي، يعيش بين آلام الفقر والمرض والأمية. وآلام البؤس الاجتماعي والحضاري والإنساني، يتفرج على أزماته تكبر أمامه بتحد صارخ، و هو لا حول له و لا وقوة.
على المستوى الاجتماعي، وجد الجيل المغربي الجديد نفسه داخل أكثر الطبقات اكتظاظا و أكبرها حجما، و هي طبقة الفقراء و العاطلين و المعطلين و المهمشين، يتصارع مع الخبز و الصحة والشغل و التعليم و السكن، في بلد مازالت بنيانه الاقتصادية، تشتكي من أمراض الماضي بسبب التخلف الذي يجتم عليه من كل الزوايا، و يدفعه إلى التصنيف ضمن أكثر بلاد العالم فقرا و تخلفا، و بفعل هذا التصنيف القهري، أصبح هذا الجيل يتفاعل مع كل السلبيات المخيفة : الفساد/التخلف الحضاري/الأمية/ البطالة/ الفراغ/ التهميش/ المرض… ليكون رصيده القوي من الأزمات الروحية و المادية الخفية و الظاهرة، مبهرا و محرجا، و خارج كل التصورات الممكنة و المستحيلة.
على المستوى السياسي الذي يشكل مشهدا عاما للأزمات تتجلى صوره البئيسة، بشفافية ووضوح.وجد الجيل المغربي الجديد، نفسه ينخرط في نضالات متعددة الأهداف. فهو مع الديموقراطية وحقوق الإنسان ودولة المؤسسات/ دولة الحق والقانون، و لكنه لا يستطيع أن يلعب دوره التاريخي على الساحتين الوطنية و الدولية. لا يستطيع أن يلعب دوره بإتقان في الدفاع عن الوحدة الوطنية، ووحدة التراب الوطني . أو أن يأخذ هذا الوطن، حقه من وسائل الازدهار و التقدم الحضاري و التكنولوجي. أو أن ينخرط بجدارة في المنظومة الحضارية الحديثة، للعالم الحديث.
المفارقة العجيبة التي صنعها هذا الجيل، أنه هو نفسه الذي يخوض معارك الديمقراطية والتنمية و حقوق الإنسان على واجهة الأزمات الاجتماعية/ الاقتصادية القائمة. و هو نفسه الذي يوظف مكاسب الأجيال المغربية السابقة و نضالاتها من أجل بناء مغرب جديد قادر على السير والاستمرارية والانتقال، مدمج ومنخرط في المنظومة العربية الإسلامية، كما في منظومة العصر الحديث الحضارية.
و السؤال: هل يستطيع هذا الجيل، الاستمرار في رفع راية التحدي، والأزمات المتداخلة تحاصره من كل جانب وتغرقه حتى القعر في قضايا التخلف والتهميش و السوداوية.
في ظل هذه الحقيقة المؤلمة، يأتي السؤال ملحا : ما هي صيغة المستقبل الذي ينتظره مغرب الألفية الثالثة،/المغرب الذي وجد نفسه مكرها في زمن التقدم العلمي والتكنولوجي والعولمة، يعاني من أمراض وأزمات وإشكالات ورث بعضها عن الماضي الاستعماري. وكرس بعضها الآخر أو أغلبها في زمن عهد الاستقلال…؟
ما يزيد من قلق هذا السؤال، أن مغرب اليوم، المطوق بهذه الأزمات والإشكالات، ليس له أي دخل في الصورة التي وجد نفسه عليها. أنه استيقظ من إغماءاته في منتصف القرن الماضي/ الإغماءات التي استمرت قرابة قرن من الزمن، ليجد نفسه في مطلع الألفية الثالثة، مكبلا بعشرات القيود والالتزامات، وليجد نفسه أيضا، يعاني من تفشي الجريمة والفساد الأخلاقي والفساد الإداري. والفساد المالي، يعاني من الانفجارات الديمغرافية الغير مخططة، وهو ما يفرض عليه إيجاد المزيد من الخبز والأدوية والمدارس والمستشفيات ودور السكن ومناصب الشغل التي لا قدرة له على توفيرها، والبحث على المزيد من القروض والخبراء الأجانب، لمواجهة حاجيات التخلف التي أصبح العالم يشترط عليها التنازلات المخجلة.
ومن باب الاستئناس، يمكن التأكيد أن أزمات المغرب الراهن، أصبحت لا تطالب الحكومة الراهنة…أو الحكومات القادمة بإصلاحات هيكلية في إدارته وماليته وسياساته الاقتصادية والاجتماعية لإذابة هذه الأزمات، بل إن تحديات العولمة التي تقوده مكرها إلى
السكتة القلبية، هي التي أصبحت تتطلب إحداث خمسة ملايين منصب شغل. ومضاعفة عدد المعلمين والأساتذة والأطباء والمهندسين ومكوني التكوين المهني والأطر التربوية والإدارية. ومضاعفة عدد الفصول الدراسية في المدارس الابتدائية والثانوية. ومضاعفة عدد المعاهد العلمية والجامعات لتأمين المقاعد المدرسية والجامعية والتكوينية/ لإصلاح وتوسيع وإعادة هيكلية، قطاعات الصحة والصناعة، والصناعة التقليدية والزراعة والتجارة والعدل والتربية الوطنية و التعليم العالي والديبلوماسية والإدارة العمومية والسياحة و الخدمات، وكل المجالات والقطاعات الحيوية الأخرى… وهو ما يجعل الأزمة حادة، وتقيله، وبألوان الطيف.
أفلا تنظرون…؟
في محاور هذا الكراس، محاولة للاقتراب من بعض أزماتنا المغربية، ليس من كل الأزمات، وهي قبل وبعد كل شيء محاولة متواضعة، للكشف عن خبايا بعضها و ليس عن خباياها الكاملة، فذلك يحتاج بلا شك، إلى هيئة عليا من الخبراء لتقصي الحقائق/ حقائق الأزمات التي تقود بلادنا المسالمة إلى الجحيم… ولكن مع ذلك فما يحتضنه هذا الكراس من محاور حول الأزمات المغربية،على بساطته ومحدودية معلوماته، يفتح أمامنا نوافذ متعددة، يمكننا أن نطل من خلالها على مشاهد متعددة لأزماتنا المترابطة.
نرجو الله سبحانه وتعالى، أن يفتح عقول وقلوب المسؤولين في بلادنا عليها، وأن يفتح بصيرتهم على منافذ الإصلاح قبل أن تحل العاصفة بهم…وبنا.
والله الموفق لما فيه خير البلاد والعباد.