لقد شكّلت السلطة القائمة على القوة والنفوذ والوجاهة، عبر تاريخ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، القيمة المركزية المُوجِّهَة لحركة مجتمعاتها في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة، إذ إنها تتحكم في فكر الناس وأجسادهم وسلوكهم، كما أنها تنهض على ثقافة تعتقد أن كل ما يوصل إلى مقاليد الحكم يستحق التضحية كلها، وكل ما يعوق ذلك يستوجب محاربته.
وهذا ما جعل تاريخ هذه المنطقة عبارة عن سلسلة من الأحداث الكبرى الدامية التي حوَّلَت مسار تاريخها، وعطَّلت العقل العربي الإسلامي، وحطَّمت الوجدان، وكشفت أن حبَّ السلطة والمال والجاه متغلغل في ثقافتها وقيَّمها…
وإذا كانت مجتمعات هذه المنطقة تشمئز من الجرائم التي عرفها تاريخ المجتمعات الأخرى، فإنها لا تشعر بالشيء نفسه تجاه العنف المروِّع المتتابع الذي طبع تاريخها الخاص، بل إنها ما تزال سجينة ماضيها إلى اليوم. ويعود ذلك إلى أن أهل هذه المنطقة قد تشرَّبوا ثقافة تمجيد الماضي، ما جعلهم لا يجدون حرجا في تسويغ أحداث الاقتتال والمذابح والمجازر التي حدثت وما تزال تحدث فيها بدافع الاستيلاء على السلطة والثروة. ويعجُّ تاريخ هذه المجتمعات بأمثلة عديدة تؤكد أنها كانت دوما مسرحا للحروب من أجل الحُكم، حيث حكمت زعاماتها، مثلا، الأندلس لمدة ثمانية قرون، لكن نزاعاتها على السلطة جعلتها تُطرد من هذا البلد، علما أن الأمر لم يكن مفاجئا لها، حيث استغرقت عملية طردها من الأندلس من قِبَلِ الإسبان أربعة قرون. وبالرغم من الهزائم المتلاحقة للعرب والمسلمين طيلة قرون، فقد ظل النزاع على السلطة بينهم مستمرا إلى يومنا هذا، ما جعل بعض الدارسين يستنتجون أن التغيرات السياسية تحدث في مجتمعاتهم دائما نتيجة نزاعات على السلطة، مما جعل تاريخ مجتمعاتهم لا يعرف تحوُّلات ثقافية واجتماعية، وإنما انقلابات تستبدل زعيما بآخر، أو قبيلة بأخرى، أو طائفة بأخرى. ويعني ذلك أن زعاماتها لا تمنح أية قيمة للمجتمع، ولا لجماعاته، ولا لأفراده. فالمهم هو من يحكم وليس من يُحكَم، ما يفسر أن تاريخ مجتمعات الشرق الأوسط لم يعرف أيَّ تحوًّل اجتماعي فعلي يخدم مصلحة المجتمع ومستقبله. لذلك، فتاريخها هو تاريخ السلطة التي لم تفكر يومًا في تغيير المجتمع، وإنما فكرت في كيفية الحفاظ على ذاتها.
وهذا ما يفسر افتقارها إلى قِيَّم الإخلاص للحق وحب العلم والمعرفة واكتساب الخبرات، وترسيخ قيمة الفرد وروح المبادرة، والقدرة على التعامل مع الخطأ بواقعية وموضوعية إلى غير ذلك من القيم الحضارية، ما جعل الاهتمام يتمحور حول السلطة والنفوذ والوجاهة والثروة. وعندما نتأمل موقع السلطة في ثقافة الدول الديمقراطية نجد أنها وسيلة وليست غاية في ذاتها. أما في الثقافة العربية الإسلامية، فالسّلطة هي القيمة المركزية الأصل لكل القِيَّم، كما أن الوصول إليها في هذه المجتمعات لا يعتمد على الكفاءة والمؤهلات العلمية، ولا على الإخلاص وغيره من القيم التي شيَّدتْ صرح الحضارة الإنسانية.
ويفيدنا التاريخ أنه ما كادت دولة الخلافة العثمانية أن تسقط حَتّى انخرط العرب والمسلمون في مسلسل التشتُّت الذي أفضى إلى إنشاء اثنتين وعشرين دولة. ويمكن أن نستنتج من تطور الأحداث الجاري اليوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن هذا العدد قد يتضاعف، ولا يُستبْعَدُ أن تتحول هذه الرقعة الجغرافية من المعمور إلى مجرد قبائل، أو طوائف، أو مماليك صغيرة لا استقلال لها، ولا حول لها ولا قوة.
ويؤكد ما يجري اليوم في هذه المنطقة أن قابلية التشرذم هي ظاهرة عربية إسلامية بامتياز بسبب التنازع على السلطة والثروة والوجاهة والاقتتال من أجلها. فكان من نتائج ذلك تحكُّم الأهواء وتكالبها، وغياب إرادة تطوير ثقافة ومؤسسات وآليات تصحيح الرؤى والأفكار والمسارات والأوضاع. كما ضعفت النزعة الفرديّة، فأدى هذا الغياب والضعف إلى رهن اتجاهات الناس ومصائرهم بولائهم لزعماء القبائل والطوائف وسادة القوم وعلِّيتهم وغيرهم من أهل النفوذ والوجاهة… وهذا ما أفقد الإنسان العربي المسلم فرديته، فصار مجرد جزء من القطيع القبلي أو الطائفي.
بالإضافة إلى ذلك، فقرارات الزعيم القبلي أو الطائفي مرهونة بمصالحه، حيث لا يحترم الحق أو يرفضه عن قناعة وبعد تقصي الحقيقة، وإنما يقاتل أو يجنح للسلم رغبة أو رهبة وخوفا. لذلك يقال عن الزعيم العربي المسلم: إنه الرجل الذي إذا غضب غضب له مائة ألف فارس لا يسألونه عن سبب غضبه، بل يهبُّون تلقائيا إلى الموت من أجل محاربة مَن أغضبه.
قد يعتقد البعض أن ظاهرتي الطائفية والقَبَلِية قد تعرضتا للتلاشي في بعض الأقطار العربية الإسلامية، لكن يبدو أنه توجد اليوم مؤشرات كثيرة تفيد أن الأمور تسير في الاتجاه المعاكس لكلام هؤلاء، إذ إن ولاءات التحزب والتمذهب في الوقت الراهن لا تختلف في العمق عن الولاءات الطائفية والقَبَلِية التي تقصي الأفراد وتلغيهم، وترهن مصائر المجتمعات والأوطان باتجاهات أفراد معدودين يدفعون جحافل القطيع الخنوع والمطيع إلى الهاوية.