حين يتحدث عقل استراتيجي من قيمة مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق “زبينو بريجنسكي”، فإن عقل الدولة الأمريكية هو الذي يعبر عن نفسه.. وفي آخر خروج للرجل بالمجلة الأمريكية “المصلحة الأمريكية” (the american interest) لمناقشة مستقبل العلاقات الدولية، فإنه لأول مرة يصدر عن رؤية قلقة، غير هادئة، ليست معتادة من خبير استراتيجي مثله. هذا يعكس، لربما لأول مرة، قلقا استراتيجيا بواشنطن، يؤكد أن خيوط النظام العالمي في أفق 2050 قد بدأت تفلت من يد بلاد العم سام، بشكل مختلف عن الذي كان، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945. بدليل أن الانفعال الرؤيوي الذي صدر عنه الرجل، فيه نوع من ” الاستعطاف المبطن” إذا جاز لنا التعبير، لمن تراهم واشنطن الأحق معها بقيادة العالم، في الأفق المنظور، وهما الصين وروسيا. مع تسجيل أنه يجزم، أن لا موقع أو مكانة لأروبا في ذلك التطور الاستراتيجي.
لقد عكست لأول مرة لغة بريجنسكي تخوفا أمريكيا من أنها تفقد قيادة العالم، فالتجأت بشكل نادر إلى خطاب القلق على مستقبل البشرية. حتى والحقيقة أنه مجرد خوف على مستقبل مكانة واشنطن ضمن التحول العالمي لصعود قوى عالمية جديدة من الجنوب ومن خارج المنظومة الكلاسيكية لصناعة القيم الكونية كما ظلت تصنعها وتخلقها المركزية الغربية منذ القرن 17. بالتالي فإنه لأول مرة تمة منطق خطابي استراتيجي أمريكي منقوع في قاموس مثير، يصيح أكثر مما يحلل.
وفي القلب من ذلك الخطاب يحضر مستقبل الجغرافية العربية والإسلامية، التي يراها بريجنسكي مجالا لإعادة ترتيب خرائط ما بعد الزمن الاستعماري. معتبرا أن التعاون بين واشنطن وموسكو (القومية أخيرا كدولة بالنسبة لها، كونها تخلت عن أحلامها القيصرية) والصين، في الجغرافية الممتدة للشرق الأوسط، هي البوابة الحاسمة لترتيب مصالح العالم الاستراتيجية الكبرى خلال القرن الجديد. وهو هنا، يكاد يعيد ذات خطاب نهاية القرن 19، بخصوص هذه الجغرافية العربية والإسلامية، زمن الفكرة التوسعية الاستعمارية، التي دافعت عنها ونفذتها كل من لندن وباريس وبرلين.
هل هذا يعني أننا بإزاء خريطة جديدة بين كبار القوى العالمية على حساب الجغرافيات العربية والإسلامية؟. خاصة وأن الرجل يحدد القوى الجديدة التي يجب التعامل معها في ذلك المشرق الملتهب، في أربع دول هي: إيران، تركيا، مصر وإسرائيل. موجها نقدا صريحا للسعودية، التي اعتبر أنها لا تندرج في هذه الجغرافية الاستراتيجية الجديدة، بسبب العطب الكامن في بنيتها الداخلية كدولة. محددا بوضوح أن الغاية هي تحويل العالم الإسلامي ليكون في خدمة المصالح الأمريكية. وهو ذات خطاب الخارجية البريطانية في نهاية القرن 19، الذي نفذ في النصف الأول من القرن 20.
واضح، أننا كما تقول قصيدة الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور: “ضبطت الصيرفي العجوز/ يرسم صورة لجوادي/ فصحت بالفقراء أن احذروا إن بالموائد سما”. واضح، أننا كعرب ومسلمين، أمام صفقات عالمية جديدة، لإعادة ترتيب المصالح بين الكبار، ستكون على حساب جغرافياتنا ووجودنا كتجمع بشري له وعاء حضاري (اللغة)، لكنه بدون مشروع سياسي يجعلنا أقوياء كتكل ضمن باقي التكتلات العالمية. هل هذا ممكن الوقوع قدريا بذات الشكل الذي كان في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20؟. صعب الاستكانة إلى هذا اليقين، لأن الفرد العربي والمسلم اليوم ليس هو هو، كما كان عليه الحال في 1900، ولأن العالم أيضا غير العالم. وهنا مكمن الضبابية، المفاجئة، في رؤية عقل رصين، مثل الخبير الاستراتيجي زبينيو بريجنسكي.