أثارت فتوى السيد محمد المغراوي بجواز تزويج الطلفة ذات التسع سنين مناقشات متباينة، ومنها تلك التي ذهبت إلى:
إنكار وجود رأي فقهي يبيح ما ذهبت إليه الفتوى.
أو اعتبار ما أفتى به السيد المغراوي حكما قررته نصوص الإسلام، فالذي تجب مراجعته هو الإسلام وأحكامه وليس فتوى المغراوي.
فقد نشر بجريدة الاتحاد الاشتراكي في الصفحة الأولى يوم الجمعة 10 أكتوبر 2008 مقال بعنوان: »كيف نتخلص من قبضة المغراوي ومن شابهه«؟
وقد وردت فيه عبارات تثير الانتباه فهمت منها الدعوة إلى مراجعة الدين ونصوصه ونقدها على ضوء مناهج العلوم الانسانية والاكتشافات الحديثة في مختلف المجالات بما فيها علوم الآثار.
وسبق أن نشر مقال آخر بعنوان: «»دفاعا عن المغراوي»« انتقد فيه صاحبه الفتوى وأضاف لكنه ما دامت الفتوى مؤسسة على آية قرآنية وعلى حديثين مرويين في صحيحي البخاري ومسلم، فإن الأمر لا يتعلق بمناقشة فتوى المغراوي وإنما الواجب هو مراجعة الإسلام ذاته.
هكذا اختلط الحابل بالنابل، فمن قائل إن فتوى المغراوي لم يقل بها أحد من علماء السلف. ومن قائل إن مضمونها مقرر بنصوص القرآن والسنة، لذلك فإن هذه النصوص هي التي يجب مراجعتها ونقدها مواجهتها بمناهج العلوم الإنسانية والاكتشافات الحديثة حتى يتبين ما تصدقه هذه العلوم وما ترده.
الرأي القائل بأنه لم يقل أحد من علماء السلف بتزويج البنات في سن الطفولة:
كان ينبغي انتقاد سند هذا الرأي وليس إنكار وجوده، فالمذاهب السنية الأربعة والمذهبان الظاهري والإباضي، والمذاهب الشيعية من امامية وزيدية وغيرهما جميعها تقول بجواز تزويج الصغيرات، نعم هنالك رأي مخالف ولكن أهملته المراجع المذهبية إلى حد ادعاء الإجماع على إباحة تزويج الطفلات.
ينقل الشوكاني في نبل الأطار(ج.6 ص 252): «قال المهلب أجمعوا أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر ولو كانت لا يوطأ مثلها». وجاء عند ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث رقم (5081) من صحيح البخاري: «»وقال ابن بطال: «يجوز توزيج الصغيرة بالكبير إجماعا ولو كانت في المهد، لكن لا يمكن منها حتى تصلح للوطء»(فتح الباري-1549) والبنت تكون في المهد في السنتين الأوليين من ميلادها.
وفي المغني لابن قدامة(ج.6/490) «أن الصغيرة ذات التسع سنين أو أقل من التسع يزوجها أبوها بغير إذنها» وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر الفقهاء.
ومن أراد المزيد فليرجع مثلا إلى مدونة الإمام مالك والأم للإمام الشافعي وإلى غيرها من المراجع المعتمدة في المذاهب المختلفة.
فهل بعد هذا يقال لم يجز أحد من علماء السلف تزويج الصغيرة<(نعم هناك من يمنع غير الأب من تزويجها،ومن يمنع الأب كذلك إذا كانت الصغيرة ثيبا.)
أنلجأ إلى هذا الادعاء لمجرد الاستسلام والخضوع للثقافة التي تستهجن مناقشة السابقين في الأدلة التي أسسوا عليها آراءهم والتي لا تميز بين الأحكام المقررة بصريح نصوص الشريعة الثابتة وبين الاحكام الأجتهادية القابلة للمناقشة في كل وقت؟
الرأي الثاني القائل بأن تزويج الأطفال مقرر بنصوص الشريعة:
تزويج الصغار لم يقرره أي نص قطعي الثبوت والدلالة، وإنما هو رأي فقهي اجتهادي أسس على تفسير نص يحتمل أكثر من دلالة، وعلى واقعة مشكوك في حدوثها تاريخيا، وإلى جانبه رأي اجتهادي آخر يمنع تزويج الصغار قبل الرشد مطلقا.
لذلك، فإن ما تحب مراجعته هو تفسير النصوص وليس النصوص ذاتها. وبالتالي، فإننا نعتقد أن ما ينبغي أن يناقش فيه السيد المغراوي عندما تحمل مسؤولية الإفتاء باسم الشريعة في زواج الصغيرات هو:
1 إهمال الرأي الفقهي القائل بمنع تزويج الصغار ذكورا وإناثا.
2 نقل الرأي القائل بإباحة تزويج الصغار دون مناقشة سنده وبيان أسباب اقتناع السيد المغراوي به.
3 إهمال موقفه من أهلية الزواج المقررة في مدونة الأسرة.
*أولا: الرأي المانع لتزويج الصغار:
ممن روى عنهم هذا الرأي القاضي الكوفة الشهيرة ابن شبرمة وطاووس وقتادة وسفيان الثوري وعثمان البتي وأبو بكر الاصم.(المحلي لابن حزم-4599و459/9 الأحوال الشخصية لمحمد أبو زهرة ص123) وسندهم في ذلك: المبدأ الذي أجمع عليه الفقه، وهو استقلال كل فرد بتسيير مصالحه الشخصية والمالية، ولكن بصفة استثنائية في حالة عدم تمتع الفرد بالتمييز والدراية الكافيين لحماية مصالحه من الإضرار بها.
-يسند ذلك التسيير إلى من ينوب عنه. وهذه الصفة الاستثنائية تفرض قصر صلاحيات النائب على إدارة المصالح الآنية للمنوب عنه، والصغير ذكرا وأنثى- ليست له مصلحة ولا حاجة آنية في الزواج قبل البلوغ/ الرشد، ولذلك يبقى الزواج خارج صلاحيات ولي الصغير أبا كان أو غيره.
وابن حزم، يعتمد سندا آخر لمنع زواج الصغير، وهو الآية( »ولا تكسب كل نفس إلا عليها«) ولكنه يقصر المنع على الصغير دون الصغيرة.
*ثانيا: سند الرأي المجيز لتزويج الأطفال:
حسب فتوى السيد المغراوي السند هو:
الآية: “واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن“.
الرواية التي تقول إن الرسول (ص) خطب عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست أو سبع سنوات والتحقت ببيت الزوجية وعمرها تسع سنوات.
1 تفسير الآية:
مما يستبعد التفسير الذي نقله السيد المغراوي:
أ – أن القصد الذي يبدو أقرب وأنسب من عبارة »»واللائي لم يحضن»« هو النساء اللائي لديهن عيوب خلقية أو بيولوجية فلا ينتجن بويضات التلقيح، وبذلك لا تأتيهن العادة الشهرية وإن تجاوزن العشرين أو الثلاثين سنة من عمرهن.
ب – على فرض أن الاية تشمل كذلك المطلقات قبل البلوغ اللائي كن موجودات بالفعل في المجتمع، فإن بيان عدتهن لا يعني تشريع اباحة تزويجهن، فعدد من الأحكام جاء لتطبق على أوضاع قائمة، ولا يعني ذلك تشريع هذه الأوضاع وتعبد الأمة بها، مثلا بين القرآن عقوبة الأمة المرتكبة لجريمة الزنى، ولا يؤخذ من ذلك قطعا أن القرآن شرع العبودية وتملك الإماء وبيعهن في الأسواق ما دام لم ترد أية واحدة بهذا التشريع.
ج- الآية 6 من سورة النساء (»وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم)« تنص صراحة على ربط أهلية الزواج بالأهلية المدنية أو الرشد القانوني. فلفظ »»النكاح»« كما يعني الاتصال الجنسي يعني كذلك «»الزواج««، وقد ورد بهذا المعنى الثاني في القرآن أكثر من عشرين مرة. والقرآن نقل ذلك من الاستعمال اللغوي الذي تثبته عشرات النصوص النثرية والشعرية السابقة على ظهور الإسلام.
لكن الفقه الذي نشأ في مجتمع حاضن لظاهرة تزويج الصغار باعتبارها عرفا مقبولا وتقليدا مرغوبا فيه، ولكي لا يصطدم مع هذا العرف – التجأ إلى التأويل وتفسير كلمة «النكاح» بلفظ «الحلم» رغم أنه لاعلاقة بين اللفظين، لا لغوية ولا اصطلاحية.
حتى الاستعمال المجازي يحتاج ادعاؤه إلى سند يثبته فضلا عن وجود جامع بين اللفظين المستعمل أحدهما مكان الآخر. كل ذلك لم يعن الفقه بمناقشته.
ويبدو مؤكدا أن السيد المغراوي – وهو ممن كتبوا في تفسير كتاب الله – أهمل هذه الآية بناء على التفسير المنقول عن السابقين. لذلك يحق لنا أن نسأله وهو باحث. ومفسر، وفقيه كيف اقتنع بتفسير «الزواج» بـ «الحلم» هل بناء على استعمال لغوي ورد به نص نثري أو شعري، أو استعمال اصطلاحي جاء في آية قرآنية أو حديث نبوي؟
وإذا فقد الاستعمال اللغوي والاصطلاحي لم يبق إلا التأويل الباطني أو العشوائي فأيهما اعتمد في الفتوى؟
2– رواية زواج عائشة رضي الله عنها:
بصرف النظر عن سند الرواية وما قيل في المنفرد بها هشام بن عروة بن الزبير، نود إثارة ملاحظتين على متنها ومضمونها.
الأولى تتعلق بثبوتها، والثانية باعتمادها سندا لقبول تزويج الأطفال.
أ- الثبوت التاريخي:
مما يؤكد عدم صحة الرواية التي تحدد سن زواج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في ست أو سبع سنين أمران:
الأول: ما رواه الإمام البخاري عنها من حكاية لوقائع عاشتها في طفولتها.
والثاني: الرواية الخاصة بزواج أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بالرسول صلى الله عليه وسلم.
1 رواية البخاري:
أورد الإمام البخاري حديثا مطولا عن أم المؤمنين عائشة تحكي فيه عما عاشته في الأيام الأولى للنبوة. الحديث يحمل رقم 3905 (كتاب مناقب الأنصار) وجاد فيه:
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
«لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة – وهو سيد القارة – فقال أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج.. «إلى آخر الحديث الذي يحكي عن إجارة ابن الدغنة لأبي بكر إلى أن طلب المجير من أبي بكر مراعاة شرط الجواروهو عدم الجهر بصلاته، فأجابه أبو بكر «فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل».
أشارت عائشة رضي الله عنها في هذه الرواية إلى واقعتين: زيارة الرسول «طرفي النهار بكرة وعشية» وخروج أبيها للهجرة إلى الحبشة وتفاصيل ما جرى له مع ابن الدغنة.
زيارة الرسول لبيت أبي بكر طرفي النهار بكرة وعشية، تؤكد أنها كانت قبل الجهر بالدعوة لأنه بعد الجهر بها لم يبق مبرر لتوقيت الزيارة طرفي النهار(في تفسير الآية»وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل…» يقول الطبري أولى الأقوال بالصواب في تفسير طرفي النهار ان القصد صلاتي الصبح والمغرب-جامع البيان-129/7. ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالصدع برسالته والجهر بالدعوة بعد بدء الوحي بثلاث سنوات.
إذا كانت عائشة رضي الله عنها عقلت الزيارات المتكررة للرسول في السنوات الثلاث لبدء الرسالة وضبطت أوقاتها، فإن سنها وقت الهجرة التي كانت بعد ثلاث عشرة سنة من بدء الوحي – يكون تجاوز الأربعة عشر أو الخمسة عشر عاما، وهو ما تؤكده رواية تقول إن أولاد أبي بكر الصديق ولدوا جميعهم في الجاهلية.
والهجرة إلى الحبشة، كانت في السنة الخامسة، يقول الطبري: كان خروج المهاجرين إلى الحبشة في رجب من السنة الخامسة من حين نبئ رسول الله صلى لله عليه وسلم.(تاريخ الطبري1/546)
إذا صدقنا الرواية التي تقول إن سن عائشة رضي لله عنها عند الهجرة إلى المدينة كان ثمان سنوات. فإن ذلك يعني أن ميلادها كان في السنة السادسة من بدء الوحي أي بعد الهجرة إلى الحبشة، أليس هذا متناقضا مع التفاصيل التي أوردتها في الحديث 3905 من صحيح البخاري السالف الذكر، حيث أوردت اسم المكان الذي وصله أبوها، وما جرى بينه وبين ابن الدغنة، وبين هذا الأخير وأعيان قريش في بداية الجوار وعند نهايته..؟ إن هذا يؤكد أنها في السنة الخامسة من بدء النبوة كنت فتاة تعقل الأحداث وتتبعها.
II –السن المزعوم لخديجة رضي الله عنها عند زواجها بالرسول صلى الله عليه وسلم.
قصة زواج الرسول بابنة أبي بكر الصديق ليست منفصلة عما يحكى عن زواجه بخديجة بنت خويلد. فالأولى تصور الرسول عليه السلام قبل البعثة مرغوبا عنه. وبعد البعثة نجد ضمن الحكايات عن الزواج بعائشة ما لا يصدر إلا عن غير الأسوياء. ولا يعقل أن يصدر ممن اختارهم الله لتبليغ رسالاته. وقد تعرض الطبري في تاريخه لحكايات اختلقت وقائع للزواج بأم المؤمنين خديجة لا تليق بأدنى رجل في قريش. فكيف تصدق إزاء المنتسب إلى العشيرة الأمينة على مفاتيح الكعبة؟ كما قدمت التحاق أم المؤمنين عائشة بزوجها في المدينة في مشاهد يمجها الذوق الاجتماعي قديما وحديثا، فكيف تنزلق إليها أم عائشة بمشاركة نساء الأنصار وأفراد أسرة أبي بكر جميعهم إضافة إلي الرسول المبعوث ليتمم مكارم الأخلاق؟
نتجاوز هذا إلى وقائع مادية، كان ينبغي أن يتنبه إليها السيد المغراوي قبل أن يعتمد في فتواه على تصديق الحكاية التي تنسب إلى عائشة التحاقها ببيت الزوجية في التاسعة من عمرها.
هذه الوقائع التي نقلها إلينا الرواة والإخباريون تقول:
تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها وعمره خمس وعشرون سنة أو واحد وعشرون سنة، وعمرها هي أربعون سنة أو خمس وأربعون سنة (أسد الغابة لابن الأثير-6/80 وسيرة ابن هشام1/198.
ويتفق الرواة والمؤرخون على أن خديجة رضي الله عنها ولدت مع الرسول خمسة أطفال هم القاسم الذي توفي صغيرا وزينب، ورقية، وأم كلثوم وفاطمة. وكلهن تزوجن، وأزواجهن معروفون بأسمائهم. وهنالك من يقول إنها ولدت ستة أطفال،ومن يرفع العدد إلى سبعة. والطبري في تاريخه يقول إنها ولدت ثمانية وذكر أسماءهم وهم: القاسم، والطاهر، والطيب، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
ويقول ابن الأثير في أسد الغابة إن زينب «هي أكبر بناته ولدت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون سنة، ويضيف أنه روى كذلك أنها أكبر من القاسم.
ولا نسترسل مع روايات أخرى تفاديا للإطالة، ويكفي أن نقف قليلا مع هاته التي أوردناها.
تزوجت خديجة وعمرها أربعون أو خمسة وأربعون عاما، وولدت خمسة أطفال أو ستة أو سبعة أو ثمانية ليس فيهم توائم.
أول ولاة لها كانت – حسب ابن الأثير – عندما بلغ الرسول الثلاثين من عمره، أي إن ولادتها بدأت بعد خمس أو تسعة سنوات من الزواج حسب ما إذا كان سن الرسول إذ ذاك خمسا وعشرين أو واحدا وعشرين.
أليس التلفيق ثابتا بيقين في هذه الروايات التي تزعم أن أم المؤمنين خديجة تزوجت بالرسول وهي في الأربعين أو الخامسة والأربعين من عمرها، والحال أنها أنجبت بعد هذا الزواج خمسة أو ثمانية أطفال؟
قد تنجب المرأة طفلا في الخامسة والأربعين أو ما يقاربها. ونقرأ بين الفينة والأخرى في الصحف عن حالات نادرة تحمل فيها المرأة بعد تجاوزها عتبة الخمسين.
لكن من المستحيل حدوثه واقعيا وعلميا أن يتتابع إنجاب المرأة بانتظام بعد الخامسة والأربعين إلى خمس أو ثمان ولادات.
وقد أشرنا إلى أن الرواية التي نسجت حول سن زواج عائشة مرتبطة بما اختلق حول زواج خديجة. والهدف هو النيل من الرسول صلى الله عليه وسلم. فعندما كان يحيى حياته العادية في مكة، كان مرغوبا عنه، ولم يجد من يقبل الزواج به إلا امرأة يفوق عمرها ضعف عمره. ولما تنبأ وتبعه الناس وتجاوز الخمسين من العمر انتقم لنفسه وتزوج طفلة في السادسة، ودخل بها في التاسعة، وفي بيت أبيها وعلى فراشه.
إذا ثبت التلفيق في سن خديجة عند زواجها بالرسول صلى الله عليه وسلم فكيف تصدق الرواية المتعلقة بسن عائشة عند الزواج بها؟ والحال أن الهدف من نسجهما واحد؟
ومن الجدير بالملاحظة أن الشيعة الإمامية لم تثبت لديهم الرواية المنسوبة إلى عائشة رضي الله عنها. ومع ذلك، وتأثرا بالعرف كذلك، أباحوا تزويج الصغار بناء على رواية تقول إن الإمام الباقر والد الإمام جعفر الصادق سئل «عن الصبي يتزوج الصبية هل يتوارثان؟ فقال إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم.(فقه الإمام جعفر.تأليف محمد جواد مغنية-5/332.
ب– اعتمادها لتشريع إباحة تزويج الاطفال
مع الشك الذي يقرب من اليقين في السن الذي حدد لابنة أبي بكر الصديق عند زواجها، يثور التساؤل حول اعتمادها سندا شرعيا للسماح بتزويج الاطفال ولو افترضت صحة هذه السن؟
أثار الفقهاء منذ القديم تقسيم أقوال وأفعال الرسول الى ما يكون فيها مبلغا للوحي. والى ما يمارس به حياته كإنسان، أو يدبر به شؤون الامة بصفته قائدها الموكول اليه تسييرها. وان القسم الأول هو الذي يشكل شريعة الإسلام الموحى بها إليه. لكن هذا التقسيم النظري لم تتابع مناقشته في التطبيق ومحاولة التمييز الفعلي بين أقوال الرسول وأفعاله الداخلية منها في دائرة تبليغ الوحي والخارجة من هذه الدائرة.
وقد ثبت تاريخيا ان تزويج الصغيرات كان سلوكا عاديا ومقبولا. فاذا افترضنا صحة زواج الرسول ببنت تسع سنين الا يدخل ذلك في ممارسة شؤون حياته الشخصية ضمن التقاليد والأعراف المقبولة في الجماعة التي يحيى وسطها؟
مثلا من الاعراف التي كانت مقبولة الاستعباد الناتج عن الانهزام في الغارات العشائرية والاختطافات للاطفال ومن لا قوة له للدفاع عن نفسه، ويروي التاريخ أن زيد بن حارثة اختطفته عصابة وعمره ثمان سنوات من أمه التي كانت ذاهبة الى زيارة أهلها بيع زيد في اسواق مكة، اشترته السيدة خديجة ووهبته لزوجها الذي أعتقه فيما بعد. فهل يقبل اعتماد هذه الواقعة لنقول انها شرعت إباحة استعباد الاطفال المختطفين وبيعهم، فالرسول أقر زوجته على شراء زيد بن حارثة ورتب على ذلك قبول هبته منه.
وإذا قبل ان واقعة زيد حدثت قبل بدء الوحي، فإن من الثابت بعد الوحي وبعد الهجرة استمرار الاستعباد بمصادره وآثاره، ومن غير المقبول ان يقال ان ذلك يشكل تشريعا أباح به الاسلام استعباد الانسان وبيعه في الاسواق مثل الحيوان. فالفرق واضح جدا بين أحكام الشريعة التي أمر الرسول بتبليغها. وبين استمرار أوضاع أو تصرفات لم ينزل الوحي بالامر بها أو بالنهي عنها.
وبعبارة اخرى، شريعة السماء لم تنزل في شكل قوائم تحدد جميع الواجبات والممنوعات والمباحات… ويقتصر دور الانسان على تتبع مفردات كل قائمة وتطبيقها لان هذا لا يفي بمفهوم تحمل الأمانة، ويعطل وظيفة العقل المناط به التكليف والمسؤولية عن الخلافة في الارض. فاذا تعرضت نصوص الوحي الى بعض الواجبات والممنوعات والمباحات فانها لم تتناول كذلك كثيرا من انواع السلوك والاوضاع التي كانت موجودة في المجتمع العربي تاركة مسؤولية التمييز بين الصالح منها و غير الصالح وملاءمتها مع تطور حياة الانسان- للمخاطبين بها في ضوء المبادئ العامة والقيم العليا التي كررت الامر بها عشرات الآيات في القرآن. وبذلك يتحقق معنى الآيتين (ايحسب الإنسان أن يترك سدى)(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا).
ثالثا: إهمال أهلية الزواج في مدونة الأسرة
دخل نظام »»التشريع«« او»»القانون»« الى العالم الاسلامي بالحديد والنار وبحماية من جنود الاحتلال حتى مضمونه نقال في البداية من تشريعات المستعمر وقوانينه. هذا ما أحدث رد فعل ضد هذا النظام شكلا ومضمونا.
بعد رحيل الاستعمار استمرت مناهضة التشريع الذي تقوم به الدولة ومؤسساتها الدستورية بأسلوبين اثنين
الأسلوب الأول: التصريح علنا بمخالفة »القانون الوضعي« للشريعة واتهام الدول والمجتمعات التي تطبقه بالكفر والمروق من الدين.
والأسلوب الثاني: الاكتفاء بالترويج لمقوله ان الفق هو وحده المكون لاحكام الشريعة واهمال وجود »القانون الوضعي« ومقتضياته موافقة كانت أو مخالفة لأحكام الفقه. ويظهر هذا بوضوح في الفتاوى التي تنشر بكل وسائل الإعلام والتواصل.
اذا كان الفريق الاول يكشف عن رأيه بلسان المقال،فان الفريق الثاني يعبر عن نفس الرأي بلسان الحال.
ولبيان ذلك نقول: ان الثقافة الراسخة في وجدان المجتمع الاسلامي تعتبر المفتي ناطقا باسم الشريعة وليس باسمه.
يقول الشاطبي مثلا:- المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم. فالمفتي مخبر عن الله، كالنبي وموقع للشريعة على افعال المكلفين بحسب نظره كالنبي، ونافذ امره في الامة بمنشور الخلافة كالنبي.(الموافقات-4/246)
وابن القيم أطلق على المفتين اسم «»الموقعين عن رب العالمين» في كتابه المعروف»إعلام الموقعين عن رب العالمين».«
والقرافي قال ان مثل المفتي مع الله تعالى مثل قاضي القضاة. ولله المثل الاعلى، يولي شخصا ترجمانا بينه وبين الاعاجم. فالترجمان يتعين عليه اتباع تلك الحروف والكلمات الصادرة عن الحاكم، ويخبر بمقتضاها من غير زيادة ولا نقص. فهذا هو المفتي، يجب عليه اتباع الادلة بعد استقرائها، ويخبر الخلائق بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص(كتابه:الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام-ص12.
مثل هذه الآراء التي رسختها قرون التقليد والاملاء والتلقي ثبتت اعتقادا عاما هو ان المفتي يخبر بحكم الشريعة ولا يقدم مجرد رأيه في الموضوع، الذي سئل عنه.
ولذلك، فإن المفتي عندما يقتصر على نقل حكم فقهي في فتواه ويهمل الحكم المخالف المقرر في مدونة الاسرة او في اي من التشريعات المعمول بها، يؤكد بلسان المقال للمستفتي ولغيره من المتلقين ان ما افتى به هو الشريعة. وبلسان الحال بأن الحكم الوارد في المدونة »قانون «وضعي»« مخالف للشريعة. اذ بالبداهة أحكام الشريعة لا تتعدد ولا تتناقض.
هذه هي النتيجة الحتمية المترتبة عن الافتاء بآراء فقهية مع اهمال مناقشة الأحكام المخالفة لها في المدونة، استحضرها السادة المفتون عند الافتاء او لم يستحضروها.
إننالا نقصد بهذا منع انتقاد بعض مقتضيات مدونة الاسرة ممن يرى وجود مبررات لهذا الانتقاد. وانما الذي ندعو اليه هو استيعاب التمييز بين وقائع مختلفة والوعي بنتائجها المتبانية وهي مرتبطة بحالة عدم اقتناع المفتي بحكم مقرر في المدونة.
إن المدونة صدرت وفق النظام الدستوري الذي توافق عليه المغاربة وتسير به جميع شؤونهم. وهذا لا يمنع من انتقاد بعض احكامها ممن لديه مبررات لهذا الانتقاد الذي يجب أن يقدم بأسلوب الحوار والاقناع ومبررا بالتعليل المنطقي والافكار التي بني عليها المنتقد رأيه الشخصي. فضلا عن بيان الاسباب التي توهن في نظره سند الحكم الذي اخذت به المدونة.
ولكن ما لا يبدو مقبولا هو الاقتصار على إصدار الحكم وتذييله بآية أو حديث أو نص من مراجع الفقه لاضفاء صفة »الحكم الشرعي« عليه مع إهمال الرأي او الاراء الأخرى في تفسير الاية او الحديث. ودون أية إشارة كذلك الى المقتضى المخالف في مدونة الاسرة.
إن هذا الاسلوب يؤدي قطعا الى تزكية التيار الذي يكفر المجتمع بسبب تطبيقه ل»القانون الوضعي» وعزوفه عن »احكام الشريعة«. فعندما يقول المفتي مثلا، وباسم الشريعة، ان الطلاق المعلق نافذ، بينما المدونة تقرر عدم نفاذه، فإن النتيجة البديهية لذلك تكون اعتقاد المتلقين للفتوى عدم شرعية حكم المدونة مع ما يترتب على ذلك من تداعيات.
ما نأمله هو أن تتظافر جهود المجلس العلمي الأعلى، والرابطة المحمدية للعلماء ومؤسسات التعليم والدراسات الاسلامية لطرح الموضوع للمناقشة والتحليل. أعني به إقرار القاعدة الملزمة في تدبير شؤون المجتمع ومرافقه.
هناك وضع دستوري يعرفه الجميع، وتحدث أسلافنا عن ولي الأمر، وأهل الحل والعقد. وجاء في القرآن (»وأمرهم شورى بينهم)« كيف نجمع بين هذه المنفصلات للتوافق على نظام يلتزم به الجميع ويطمئن اليه في صياغة القواعد المنظمة للمجتمع ولعلاقات أفراده؟
*د. احمد الخمليشي مدير مؤسسة دار الحديث الحسنية الرباط