قبل الخوض في صلب الموضوع، وتجنبا لسوء الفهم ودرءا لشبهة التعريض أو نية القذف أو التجريح…في الأشخاص، نرى أنه من الواجب أن نحدد من نقصد بتجار الدين وما المعنى الذي نعطيه لكلمة الغفلة.

وقبل هذا وذاك، نشير إلى أن التجارة هي ترويج للسلع أو البضائع بهدف الكسب، أي الربح. فالتجارة، إذن، هي مهنة يقوم فيها التاجر بدور الوسيط بين المنتج والمستهلك. وقد تتم هذه الوساطة، خاصة في علاقتها بالمستهلك، طبقا لما يرضي الله ولما يحفظ مصلحة الطرفين (لا ضرر ولا ضرار)؛ وقد يتم فيها إجحاف بحق المستهلك، إما غِشا وإما مبالغة في الربح؛ وفي كلتا الحالتين، يكون الربح غير مشروع. وفي هذه الحالة، نكون أمام تجارة فاسدة.

وهذا الفساد لا يسلم منه المجال الروحي؛ أي المجال الديني الذي يفرض فيه البعض نفسه وسيطا، فيستغل المعتقدات للتكسب والربح المادي والمعنوي؛ إذ هناك تجارة يمكن اعتبارها من أقذر أنواع التجارة، ألا وهي التجارة في الدين. فهي أخطر تجارة فاسدة على وجه الأرض، لأنها تستغل، لأهداف خسيسة ووضيعة، القيم الروحية والمقدسات الدينية وتحولها إلى “سلعة” قابلة للتداول ومدرة للأرباح والمكاسب المادية والمعنوية على حساب القيم والمعتقدات.

فمن هم ممارسو هذه التجارة؟ وبمعنى آخر، من هم تجار الدين؟ إننا نقصد بتجار الدين كل الذين يستغلون الدين والتدين، سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو كانوا أحزابا أو حركات، لتحقيق مكاسب دنيوية تحت الغطاء الديني.

فأن يقوم البعض بعمل، ظاهره إحساني وباطنه استغلال حاجة الناس وفقرهم لحسابات معينة، شخصية كانت أو جماعية، هو من صميم المتاجرة بالدين. وأن يتم استغلال أماكن العبادة وتوظيف الدعاة والوعاظ للدعاية لهذه الهيئة أو تلك أو لهذا الشخص أو ذاك، هي متاجرة بالدين بكل تأكيد. وأن يقوم تجار الدين بإرسال الناس إلى الفردوس الوهمي باسم الجهاد- في حين ينعمون هم بالفردوس الأرضي بعدين عن بؤر الصراع والفتن- ليس من التجارة التي لن تبور في شيء(أي لا علاقة لها بالتجارة مع الله عز وجل)؛ بل هي متاجرة بالدم البشري ونَصْب على الضحايا الذين يدفعونهم إلى الانتحار وارتكاب جرائم في حق الآمنين والمؤمنين من الناس، مسلمين وغير مسلمين، بعد التغرير بهم بالطمع في الجنة وفي حور العين. وقس على ذلك.

ويستثمر هؤلاء التجار في الغفلة بشكل رئيسي. وهنا، تحضرني مقولة، أو بالأحرى دعاء، رائج(ة)،أو على الأقل، هكذا كان الأمر في أسواقنا، ولفظها كالتالي:”الله يجعل الغفلة بين البايع والشاري”. والغفلة، هنا، تعني غياب الفطنة واليقظة والحذر، الخ.

 وإذا ما تمعنا في مدلول هذا الدعاء، سنجد أنه ينطوي على غير قليل من الخبث؛ ذلك أن الغفلة بين الشريكين (البايع والشاري) قد تعني الاستغفال، أي “الشمتة” بالدارجة المغربية. و”الشمتة” فيها القصد؛ وهو قصد خبيث؛ ذلك أنها تعني الخداع؛ وبالتالي، فهي تفترض وجود مخادع ومخدوع (أو شامت ومشموت). فالمخادع قد يكون البائع وقد يكون المشتري. وبمعنى آخر، فإن الغفلة قد تكون لفائدة البائع وقد تكون لفائدة الشاري (أو المشتري). وفي كلتا الحالتين، يكون المُغفَّل (أو الذي يتم استغفاله)، سواء كان بائعا أو مشتريا، هو الضحية.  

لكن، في مجال المتاجرة بالدين، فإن الغفلة تكون دائما لفائدة “البائع”. أما “الشاري” فيكون دائما وأبدا هو الضحية. وليس صعبا أن نفهم السبب.

فالبائع (وتجدر الإشارة، هنا، إلى أن للتعبير المجازي سطوته وسلطته في تقييم العلاقة بين البائع والشاري) يقدم “بضاعة” لها بريق خاص (شعارات رنانة، وعود وردية تسيل لها اللعاب…)، قد يُبلِّد حواس الشاري، فيعدم التمييز بين الرداءة والجودة ويضعف عنده ميزان تقييم عوامل الربح والخسارة، فينغمس في الغفلة إلى أخمص قدميه ويصبح فريسة سهلة للأوهام التي يُسوِّقها تجار الدين المستثمرين في الغفلة.

والشاري، في هذا المجال (مجال المتاجرة بالدين)، وهو مجال الاحتيال بامتياز، إما أن يكون مُغفَّلا(ساذج، جاهل…)، وبالتالي، يسهل خداعه بالخطاب الأخلاقي (أو بالأحرى الأخلاقاوي) المدغدغ للعواطف والمتستر خلف المقدس والروحي؛ وإما أن يتم استغفاله من قبل البائع باستعمال كل الحيل وكل أساليب التضليل لطمس الحقائق وتزويرها للوصول إلى الهدف، أي الغفلة بين البايع والشاري. فالبائع، هنا، يبذل جهدا لتصريف بضاعته، حتى وإن كانت بضاعة مزجاة. لذلك، لا غرابة أن يلجأ تجار الدين إلى خداع المسلم وإيهامه بأن دينه في خطر وأن عليه أن يقاتل ويحارب لنصرة دين الله. 

ويبدو أن تجار الدين قد نجحوا، ليس فقط في تضليل عامة الناس، بل وأيضا استطاعوا أن يخدعوا العديد من نخب المجتمع من أطباء ومهندسين ومثقفين وأكاديميين ورجال الأعمال وغيرهم.

وأعتقد أن المجال الذي تعرف فيه المتاجرة بالدين رواجا كبيرا ويعرف فيه الاستثمار في الغفلة طفرة نوعية وتقدما ملموسا، هو مجال السياسة.

ولا أجد من تفسير آخر غير استغلال الدين الإسلامي أبشع استغلال من قبل الأحزاب التي تدعي المرجعية الإسلامية(لمعرفتها بتشبث الشعوب الإسلامية بدينها)، وهي تعرف جيدا أن مشروعها السياسي والمجتمعي لا علاقة له بهذا الدين الذي يأمر بالعدل والمساواة والكرامة والحرية (بما فيها حرية الاعتقاد والمعتقد) ويؤمن بالاختلاف وبحق الأقليات ويعلي من شأن الجدال بالتي هي أحسن، الخ.

ولا أجد في كلام “بنكيران”، مثلا، عن الله وعن العمل لوجه الله وعن الموت في سبيل الله وغير ذلك من الكلام الموجه لأنصاره ومن خلالهم إلى الشعب المغربي، سوى استغفال الناس طمعا في أصواتهم. فهو لا يحيل على قيمة روحية إلا وعينه على الصندوق (الصندوق الانتخابي، أقصد). وخطبه، سواء في البرلمان أو في التجمعات الحزبية أو في وسائل الإعلام العمومية، مليئة بما يفيد هذا تلميحا وتصريحا. 

ويعتبر “بنكيران” (وكذا الحزب الذي يرأسه) أكثر واحد يستثمر في الغفلة. ويمكن اعتبار خطاب التهريج والشعبوية والمظلومية، الذي يستخدمه رئيس الحكومة، أسلوبا ومنهجا للاستغفال. ويبدو أنه قد نجح في ذلك؛ وإلا، فكيف سنفسر النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الجماعية الأخيرة، بينما قرارات الحكومة التي يقودها لا تزيد وضعية الطبقات المتوسطة والفقيرة إلا تدهورا وتأزما، بعد إجهازها على المكتسبات الاجتماعية والحقوقية التي تحققت بفضل نضالات مريرة وتضحيات جسام؟      

وحتى عندما يهدد الدولة والمجتمع بإحداث الفتنة والنزول إلى الشارع إذا لم ينجح حزبه في الانتخابات المقبلة، فهو لا يحيد عن أسلوبه المعتاد. فهو يريد أن يفهمنا بأنه ليس  مسؤولا عن الانتخابات، والحال أنه هو المسؤول الأول عنها قانونيا وتنظيميا. فكل خلل يقع في هذه الانتخابات، فهو مسؤول عنه. وكونه لم يأبه بالمذكرة التي قدمها الاتحاد الاشتراكي للحكومة والأحزاب من أجل العمل، سويا، من خلال حوار جدي ومسؤول، على إيجاد وسائل قانونية وإجرائية قادرة على حماية العملية الانتخابية من التلاعب وصيانة مؤسساتنا وديمقراطيتنا الفتية من عبث العابثين، لدليل على أن الرجل استمرأ الاستغفال واستحلى السلطة التي أفقده بريقها التميز بين المؤسسات والمقامات واختلطت عليه الصلاحيات والسلط الدستورية.

فـ”بنكيران” لم يعد يفهم من الديمقراطية سوى استمراره في السلطة بأي ثمن. وقد وصلت به الوقاحة إلى تهديد الجميع، بما في ذلك الملكية أو ما سماه بالدولة الرسمية التي يرأسها محمد السادس. ويكون بهذا قد تجاوز الاستغفال والاحتيال الذي يمارسه تجار الدين للظفر بامتيازات السلطة.               

* محمد انفي مكناس
 الجمعة 1 يوليوز 2016.

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…