نهاري يُعيد تكوين المهندسين!!
ألقى الخطيب عبد الله نهاري يوم 15 فبراير 2013 خطبة أمام حشد من الطلبة المهندسين بالرباط، أطلق فيها لسانه بدون لجام،كما ستعلم مما يأتي من كلام. عبد الله نهاري، لمن لا يعرفه، هو نفسه الخطيب المتابع حاليا أمام المحكمة بتهمة فتوى القتل الصريحة التي أصدرها في حق الصحفي المختار الغزيوي. أما الجمهور الذي يستقبله، هذه المرة فعَيِّـنَةٌ أخرى مُتميزة، هم الطلبة المهندسون. الطلبة الذين ينفق عليهم المغرب الملايين الكثيرة ليهندسوا مستقبله، وليس مجرد دار أو طريق أو قنطرة. بهذا الجمهور حقق مَنْ يقفون خلفَ نهاري اختراقا نوعيا كما قال أحد مُحاوريه في فيديو موجود على اليوتيوب: الانتقال من عامة الناس البسطاء والباعة المتجولين إلى الأساتذة والمهندسين، من الغرف الضيقة التي أصدر منها فتواه بقتل المختار الغزيوي عند الحدود الشرقية للمغرب إلى مدرج مؤسسة جامعية كانت لها قيمة بالعاصمة الرباط.
شدني الجمهور الشاب الأنيق إلى معرفة ما يمكن أن يقوله داعية اشتهر بالصياح والاهتزاز والضرب عل خشبة المنبر أو ذراع الكرسي أو حتى على صدره وفخذيه. كيفَ سيتفاعل معه هؤلاء الشباب الذين ينتمون إلى النخبة المنتقاة. توقعتُ أن يُراعيَ المقامَ ويتأدَّبَ ويخوضَ في القيم العليا والفضائل التي تلتقي حولها الفِطَرُ السليمة، توقعتُ أن يُقدمَ معلوماتٍ تستسيغها العقول النيرة. وأخيراً شدتني صفوفٌ طويلة عريضة من الشباب بزي تغلب عليه الزرقة، يكاد يكون موحَّدا: الذكور على يمين الخطيب والإناث على يساره(1) .
الذي وقع هو أن نهاري انتقلَ إلى مدرجات الجامعة بنفس المحتوى الفكري والخِطابي الذي أدى إلى عزله من الخطابة فوق منابر المساجد المغربية ووضعه تحت تصرف القضاء، ونحن نراقب وننتظر! دخلَ نهاري حرمَ العلم والعلماء بخطاب غير علمي، ودخل مجال الإقناع بخطاب التحريض والكراهية، ودخل مجال الذوق والجمال بالسوقية والإسفاف. ثلاثة عيوب تقصم ظهر أية جامعة.
كلام مرصودٌ كلُّه لتهييج الغرائز العدوانية، وترسيخ مشاعر الكراهية إزاءَ كل ما هو حديثٌ، بل إزاء كل مخالفٍ لعالم الكائنات التي لا تتحرك إلا في الظلام. ومع ذلك يتلقاه شبابنا بجمود واستسلام! لم يَبدُ على الحاضرين ما يدل على الانزعاج أو الحرج.
تقربا إلى الله، وخدمة لأولئك الطلبة الذين هم أبناؤنا وأملنا في مستقبل أحسن، وخوفا على وطننا من الفتنة التي يسعى إليها الخوارج عبر التاريخ، سأبرز بعض عيوب هذا الخطاب. وأملي في الله أن ينتفع الخطيب نفسه بما سأوجهه إليه من نقد صريح لا مجاملة فيه، فالدين النصيحة. كلامُ الرجل مُخـتَل ومَعيبٌ من أوله إلى آخره، ولذلك سأقتصرُ على ثلاثِ نقطٍ تدل على ما لا يتسع المقامُ لذكره:
1) لغة الإسفاف وخطاب الكراهية، 2) قلب الحقائق العلمية، 3) الاختلال النسقي.
1 ــ السوقية وخطاب الكراهية
1 ــ 1ـ السوقية: تحدث البلاغيون القدماء عن الحوشي والسوقي والوحشي من الألفاظ والتعابير، وهي تنتمي، في الغالب، إلى جفاء الطبع والبداوة، وإلى اللغات الإقليمية والمحلية التي لم تستوعبها الفصحى وثقافة المدينة:كل ما ينافي المعجم المتحضر الذي يراقبُه الذوق الرفيع المثقف، وتحكمه الكياسة في مراعاة المقامات الخطابية. ومثلوا لجانب من هذا الجَفاء بقصة ذلك الأعرابي الذي مدح الخليفة بقوله: أنت كالكلب..وكالتيس.. وكالدلو، فاشمأز الخليفة من كلامه وأمر بتثقيفه وتليين طبعه(2).
اللغة التي يَستعملها الخطيب عبد الله نهاري بعيدةٌ عن سُـمُوِ وسَماحة لُغة الوُعاظ والمربين، قريبةٌ من لغة “الحلايقية” في الأسواق الشعبية، تستورد أكثرَ مُعجمها، ألفاظا وتراكيبَ، من اللغة السوقية، لغة الصعاليك والمنحرفين. وتُخـرجُ ذلك كُلَّه في قالب “باقشيشي”(3) أخطأ طريق الأسواق الشعبية فدخل المدرجات الجامعية في هذا الزمن الملتبس المليئ بالألغام “الإخوانية”.
لستُ أدري كيف استمرتِ الطالباتُ المهندساتُ في الجلوس أمام شخص لا يتوقف عن الصياح والاهتزازك، شخص يجرؤ على امتهان كلمة “أم”! يجرؤ على ذكر “الأم”، والمرأة عامة في سياق السوء، حيث تكررت في كلامه العبارة الزنقوية المستعملة في التعنيف: “مُّـــكْ” عِدَّةَ مَرَّاتٍ. فحينما قال ابن نوح مثلا: “سآوي إلى جبل”، رد عليه نهاري بقوله: “دارتُــــو لِـيكْ مّْكْ”!! وعندما تحدث جاليليو عن كروية الأرض علق نهاري بهذه العبارة السوقية: “?ـالُو لُــو: لـَمَّكْ الأرضْ نيشان”.!! وحين رفض بنكيٌّ صرفَ شيك مكتوب بالعربية [!!] ــ حسب ادعاء الخطيب (في عين اللوح) ــ قال له نهاري: “خَلَّصْ لَمّْك:!”. وقال في سياق آخر: “لَبْسُ نْتَا لَمَّكْ”، وقال: “نْدَ?ْـدَ?ْ لَــلاَّهْ…”.
يستغرب المرءُ كيف سمحَ لنفسه أن يقول، وهو ينظر إلى الفتيات: “تَعِسَ عبْدُ المرأة”! ولكن هذا الاستغراب يزول عندما نستحضر العقلية “الأصولية المتزمتة” التي تعتبر المرأة من جملة المتاع وأسباب الغواية الشيطانية. وفي هذا الإطار يفهم قوله وهو يحملق فيهن: “الحاجة التحتانية تخدمها الحاجة الفوقانية”، مع إيماءات جنسية إلى أجزاء الجسد، “والبيكيني المستحب”!! ويقول: “فمن درس فللشهوات ومن ابتكر فللشهوات”..الخ.
ومن هذه اللغة الشهوانية المهينة للمرأة أطلق عبارة غاية في فساد الذوق قائلا لطالبات كلية الشريعة بسوس العالمة المتدينة المحافظة: “المغرب أصبح قبلة لمن أراد أن يُسيل ماءه الحرام في مراحيض آدمية”. لا شك أن المختار السوسي وكلَّ أعضاءِ جمعية علماء سوس الذين ضحوا بالغالي والنفيس في تشييد المعهد الإسلامي بتارودانت لخدمة الإسلام واللغة العربية يتقلبون في مضاجعهم ألما وحسرة على ما آل إليه حال المؤسسة الجامعية والدينية في منطقة سوس. ولا شك أن النحوي البارع السي محمد الوديمي قد وُخِز في قبره، رحمه الله، وهو يسمع نهاري يقول: “ما أحلى كلامُ ربي”! في كلية الشريعة في سوس العالمة! و”ما أصغر الإنسانُ”! بالضم. (في كلية الآداب بمكناس). فهذا نموذج من الأخطاء التي دلت على فساد الفطرة والسليقة اللغوية في القرن الأول الهجري فكانت من أسباب وضع النحو.
ومن أراد أن يُسمم ملكتَه اللغوية فعلا، ويأخذ بطاقة السوقية بامتياز، فما عليه إلا أن يستمع إلى “محاضرته” في كلية الشريعة في العاصمة العلمية، في حضرة القرويين. وهذه عينات منها: “لا تمهلُك حتى تجعلُك[بضم اللام!!] تجري كالثعبان”. “ثبت أنهم متورطين” نصب خبر أن!!. “وسيبقى انتصار الدعوات كلها رهنٌ” هكذا بالضم!!. “أليس إبراهيم معروفٌ” ضم خبر ليس، وحقه النصب…الخ. يخطئ حتى في تمييز العدد: “سبع عشر سنة”، والصواب: سبعَ عشْرةَ سنة. فهل مازال طلبة كلية القرويين يحفظون هذا البيت المحبب عند أسلافهم:
تكون حتى حرف عطف يا فتى **وحرفَ نصب للمضارع أتي
لماذا لم نسمع أحدا منهم يقول لنهاري: “ارْكَــــــزْ”!. لو سمع هذه الأخطاء طلابُ القرويين وأساتذتها يوم كانت القرويين مرجعا في علوم القرآن واللسان لَـ”رقَّصوا” نهاري، ولَكانتْ لـِ”محاضرته” نهايةٌ غيرُ سعيدة(4).
هكذا تُهانُ اللغةُ العربية في معقليها: في كليتي الشريعة في سوس العالمة وفي العاصمة العلمية التاريخية للمغرب فاس، في جامعة القرويين.
وحين تنتقل الكاميرا إلى عين اللوح، وما في حكمها من المدن/القرى، لا يتغير شيء: يتمادي الرجل في استعمال نفسِ الخطاب السوقي أمام مُستمعين في مظهر الكهول والشيوخ المحترمين. كثيرا ما يُتبع هذه السوقية التعبيرية بضحكة مفتعلة مكشرا عن أنيابه: “هي هي هي…” مستدرا التصفيق، فيصفقون!!.
ماذا أصاب هذا الجمهور؟ أخشى أن يصدُقَ على المصفِّقين للسوقية والوحشية والأخطاء النحوية قولُ الجاحظ: “الوحشيُّ من الكلام يفهمُه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي ّ”. إنا لله وإنا إليه راجعون.
سأل أحدهم الخطيب نهاري: “لماذا تُبلِّغ بالتهريج؟” فأجابه: “نْبلغْ بالتهريجْ خِيرْ مَا نْـهَـرَّجْ بَـلْبَلاغ”!! أنقل هذا الكلام ليتأكد قراءُ هذا المقال أن الرجل يعرفُ من نفسه أكثرَ مما ذكرتُ عنه.
1 ــ 2 ـ خطاب الكراهية: من الكلام السوقي الذي لا تتسع له المدرجات الجامعية في العصر الحديث السخريةُ من الديانات، من معتقدات الآخرين! تهكَّم نهاري مراتٍ من التثليث المسيحي، ووصفَ اليهودَ والنصارى بأقبح النعوت. إلى غير ذلك مما لا تتسع له مدرجات الجامعة. المدرجات الجامعية ــ خاصةً في مدارس المهندسين والتجارة والتدبير وما شابه ــ تتسعُ لجميع طالبي العلم بقطع النظر عن معتقداتهم، وهي مظنة للمعرفة والحوار، وليس لهجاء الآخرين وتنقيصهم. ومع خطورة هذا التوجه فالذي يشغلنا أكثر من هذه القضية هو توظيفُ الخوارج والـمُكفرين عامة لهذا الخطاب العنصري العدواني ضد حقوق الإنسان، وضد المطالبين بها من أبناء الوطن. وهنا سأعممُ على كل خطبه وأركِّب محتواها في السياق العام.
المتتبع لخطاب نهاري وأمثاله من “شيوخ الفضائيات” العربية يتأكد من أن تنقيص اليهود والنصارى موظفٌ لغرض بلاغيٍّ ساذجٍ ومَكشوف: هو إسقاطُ كل ما يُلصقُ بهم من مساوئَ على كل من ينادي بحقوق الإنسان من الاشتراكيين والليبراليين العرب، مسلمين وغيرِ مسلمين. فهم يبدؤون جميعاً من التهجين الديني لليهود والنصارى مخرجين النصوص الدينية من سياقها الفكري والثقافي، متدرجين من قوله تعالى:
“وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ”(المائدة 60)،
فإذا ما رسخوا هذه الصورة الشوهاء، عبْرَ أخبارٍ وأحاديثَ مُلفَّقة أو معدولة عن مسارها وسياقها، انتقلوا في خطوة ثانية إلى الربط بين “الكتابيِّ الخنزيرِ” و”الحقوقي العميل” بقوله تعالى:
“وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم”. (البقرة 120).
وفي الخطوة الثالثة يقولون: الملة الحديثة /الجديدة لليهود والنصارى هي “مدونة حقوق الإنسان”.
(وفي هذا الإطار يُفهم إصرارهم على القول بعدم كونية حقوق الإنسان، واحتجاجُهم المتهافت بعدم مشاركة المسلمين في وضعها، وعدمُ اعترافهم بتصديق دولهم عليها، برغم كل تحفظاتها).
بعد ذلك تأتي الخطوةُ الحاسمة والغرضُ المقصود، وهو: من اتبع حقوق الإنسان فقد اتبعَ اليهود والنصارى، وفارق القرآن. يمكن تقريب هذا القياس الخطابي الضمني المترامي الأطراف بالصياغة البلاغية/الحجاجية التالية:
1ـــ مقدمة أولى: مدونة حقوق الإنسان مؤامرة يهودية نصرانية (واليهود والنصارى قردة وخنازير).
2 ــ مقدمة ثانية: الديمقراطيون (الاشتراكيون الليبراليون) يتبنون مدونة حقوق الإنسان.
3ــ النتيجة: الديمقراطيون يهود ونصارى (قردة وخنازير)! أو هم عملاء لليهود والنصارى في بلاد الإسلام.
هذا ما قاله الأصوليون، في المغرب، بوضوح حين طُرحت “خطة إدماج المرأة في التنمية”، وهذا ما قالوه عند المطالبة بالاعتراف بالدولة المدنية عند وضع الدستور.. كلما طُرحت قضيةُ حُقوق الإنسان قالوا: هذا استيراد من اليهود والنصارى، وهذه مؤامرة قديمة حديثة على الإسلام، فرجعوا إلى النصوص القرآنية وصرفوها عن سياقها وعن أسباب نزولها(5).
ومن الجرأة التي تتجاوز كل الحدود، وتكشف مدى خطورة الخطاب التكفيري، ما جاء في خطبة نهاري في عين اللوح. فقد شبه القائلين بمدنية الدولة المغربية (عند وضع الدستور) بالمرأة اليهودية التي حاولت تسميم الرسول صلوات الله عليه، وباليهود الذين قتلوا الأنبياء. فالذين جادلوا في مصطلح “الإسلامية” يلتقون مع هؤلاء اليهود في محاولة اغتيال الدين، وليس مجرد اغتيال الرسول شخصيا حسب قوله ولفظه. ولم يقل لمستمعيه بأن الخلاف كان بين من يقول: المغرب بلد مسلم، أو دينه الإسلام، وبين من يقول: المغرب دولة إسلامية. وهذا الخلاف اجتهاد داخلَ الإسلام وليس بين مسلمين وغير مسلمين. لقد بدأ نهاري، بعد تجربة التكفير المباشر التي جرته إلى المحكمة، يستعمل أساليبَ بلاغيةً يعتبرُها مُعقدةً خَفيةً، وهي معروفةٌ مفضوحة: لجأ هنا إلى تشبيه ضمني مبني على الحكي، وهو معروف عند القدماء والمحدثين. من سترته بلاغةٌ فضحَته بلاغة، لأنه مهما أخفى ولوَّح لا بد أن يُضمِّن كلامَه ضمانات توصيلية، وإلا فلا فائدة منه.
وفي قمة هذيانه يدعي، أو يروي كلاما شاذا، مفاده أن مغربية قالت: “كِـي محمد كي ساركوزي”، ويعلق: “تَتَجْعلْ الكافرْ بْحالْ سيدي النبي”!! بئس الراوي إن كان الخبر صحيحا، وبئس المعلق لو كان عاقلا.
قال قبل الانتخابات الرئاسية في مصر: “قيَّضَ [الله] لأرض الكنانة رئيسا… يغيظ الذين كفروا” (في فاس). وبعدها حدد هؤلاء الكافرين بالاسم في جبهة الإنقاذ: البراذعي ومن معه.
كلامه كله تهييج سيكولوجي عنيف، ولكنه ينفعل أحيانا فيُشَرِّع الإرهاب نفسه. ففي حديثه عن تخاذل العلماء في النهي عن المنكر، وتفريقهم بين الإسلام والإرهاب قال (في أيت ملول): “قالْ لِيكْ هذا [أي العنف] ماشي إسلام، هذا إرهاب.. إِيــوَ مّْكْ نَلْعَبْ لِيكْ! نْخَلِّكْ أنت تْديرْ اللِّي تَبْغي، تُوطا على شرع ربي.. “. هذا الكلام موجه للعلماء الذين يجتهدون في إبعاد تهمة الإرهاب عن الإسلام!!
ومعنى هذا الكلام: ليكنْ إرهابا! فأنا سأمارسه! وهذا مبني عنده على موازنة خاطئة، وهي: إما أن نمارس الإرهاب أو نفرط في الإسلام!
وهذأ يتكامل مع قوله للطلبة في نفس الخطبة: “أنْتُما [أي الطلبة] ما عندكمْ ما تْخسرُوا: لا زوجة ولا وْلِيداتْ”!. قال هذا في قمة زوبعة من التهييج السيكولوجي شبيه بالذي يجري في مخيمات اللاجئين المطرودين من أوطانهم الذين لا خيار لهم إلا الارتماء بأجسادهم أمام نيران العدو الغاصب. فهل هذا هو واقع المغرب؟ وما دلالة اقتران هذا الكلام بقوله: “لا إله إلا بشار”!! وصلت الرسالة وارتفعت التكبيرات: الله أكبر ، الله أكبر.. أين نحن؟
ومن كل هذه المقدمات تفهم قولَه بأن كل المنكر الذي عم المجتمع الإسلامي (من فن وحرية ومساواة…الخ) إنما هو من عمل العملاء الذين تركهم الاستعمار بعد ذهابه، وهي نفس الدعوى التي بنى عليها الفقيه الريسوني حديثَه عن الفرنسيس المغاربة، والملاحدة المغاربة. فكل من يخالف المتطرفين في هذيانهم المغامر فهو صنيعة الاستعمار واليهود والنصارى!! وبالمناسبة فإن حديثه عن عدم كونية حقوق الإنسان مجرد ترويج لمقولة خرج بها الفقيه بن حمزة منذ شهور مثيرا استغراب من كانوا ينظرون إليه بعين أخرى. وبهذا يظهر أن هناك توزيعا للأدوار بين المنظرين والمروجين لخطاب الكراهية… وهذا من الحديث الذي يتبع ويتابع.
2ـ قلبُ الحقائق التاريخية
يَـحكي نهاري أن شخصا سأله في ألمانيا عن مؤلفاته فأجاب: “ما عَنْدي مُؤلفاتْ مَا والُو! كَنَهَضَرْ أُو صافي … أنا ماشي عالَمْ بَاشْ نْدِيرْ المؤلفاتْ، ما عندي حتى شِي حاجَة! مَا تْدَوَّرْ شِي عْلِـــيَ، ما عندي شي عِلْمْ غِيرْ نَــزْ?ِـي أُو صَافِي”. وترجمته لمن لا يعرف الدارجة المغربية: “ما عندي لا مؤلفات ولا أي شيء! أهذر وكفى! أنا لست عالما لكي أضع المؤلفات، ليس لدي أي شيء، لا تبحث عني [بين العلماء]، ليس لدي شيء من العلم، وإنما أزعقُ وكفى”. وهذه هي الحقيقة الوحيدة التي عبر عنها في كل كلامه. وإليك البيان.
إن تَتبُّع زلاتِ نهاري العلمية في “محاضرته” أمام الطلبة المهندسين مما لا يتسعُ له هذا المقال، ولذلك سأكتفي بمثال مركزي هو منطلقُه ومرجعه في تحقير الحضارة الإنسانية، وتنميةِ شوفينية ثقافية قاتلة. ينطلق الخطيب في نقده للحداثة والغرب الذي جاء بها من ادعائه ـــ باللفظ الصريح ــ أن الغرب عاش في ظلام وتخلف من القرن 14 إلى القرن 19.
ويدعي أيضا أن الحضارة الإسلامية كانت مزدهرة وقتَها، وهي التي انتشلت الغرب من ذلك الظلام. ويستعرض أسماء أكابر علماء الغرب فيجعلهم في كفة ميزان فلا يزنون عنده عالما واحدا من العلماء العرب، عرب زمان طبعا. ويرى أن البيئة الدينية العربية الإسلاميةلم تعرف ما عرفته البيئةُ الكَنسية الغربية من اضطهاد للعلم والعلماء…الخ، إلى غير ذلك من الادعاءات البعيدة عن حقيقة ما وقع تاريخيا.
الذي يؤلم هو أنه لم يصدر عن المهندسين ما يدل على استغرابهم لهذا التزييف التاريخي، بل ظلوا يستمعون ويصفقون. ولذلك أقول لهم بعيدا عن نهاري وعن مَن جاءوا به، ولعموم الطلبة الذين سيستقبلون نهاري قريبا حسب ما “بَشَّر به” من برنامج جولاته: الحقيقةُ التاريخيةُ هي نقيض ُكل ما سمعتم! الحقيقة التي لا غبار عليها هي أن العالم العربي الإسلامي هو الذي دخل في ظلام دامس، في هذه الفترة التاريخية، قرنا بعد قرن حتى سقط لقمةً سائغة في يد الاستعمار قطعةً بعد قطعةٍ. ظل المسلمون يغطون في نومهم (بعد القرن14) حتى وجدوا أنفسهم يصولون بالمناجل والسيوف على ظهور الجياد فتنفجر الأرض تحت أقدامهم بفعل المدافع الثقيلة التي تحصدهم من بعيد. فإذا كانت التكنولوجيا هي ترجمانَ العلوم وثمرةَ الفلسفات، باعتبارها مفتِّقة القدرات الذهنية، فقد كان القرن التاسعُ عشرَ قرنَ الاستثمار التكنولوجي لقرون البناء الفكري والتنويري الذي انطلق في الغرب مع القرن الخامس عشر على الأقل. وكان من علامات انطلاقه توسيعُ نطاق نشر المعرفة وتداولها باختراع المطبعة الحديثة (1447م). ومما يدل على نومنا العميق أن هذه المطبعة التي طورها يوهان ?ـوتنبير? لم تصل إلى المغرب إلا بعد أربعة قرون، في أواخر القرن التاسع عشر (1864ه) بمبادرة فردية لقاضي تارودنت الطيب التيملي، بعيدا عن أية خطة رسمية، أو مشروع حضاري، فكانت بدون جدوى. بل الذي وقع هو أن المطبعة لم تلق القبول من طرف الأصوليين المحافظين في العالم العربي الإسلامي بعد أن بادر المسيحيون والأرمن وبعض المستعربين لإنشاء مطابع بالحرف العربي في تركيا وسوريا ومصر. وقد دخلت إلى مصر أيضا مع حملة نابوليون وخرجتْ معها. إن قصة المطبعة وحدَها، وما عرفتْه من تطورات خلالَ القرن التاسع عشر لتدل على الهوة السحيقة التي انحدر إليها العرب والمسلمون منفصلين عن المسيرة العلمية التي قادت العالم الغربي إلى الهيمنة على العالم.
وحين اقتنى العثمانيون مطبعةً بحروف عربية شرط رجال الدين ألا يُطبع فيها القرآنُ الكريم لأنه مقدس وهي من حديد! وما ظهر جديدٌ في مجال الحضارة والعلم يخالفُ ما دَرجَ عليه الجامدون المتحجرون إلا حطت الغربان فوق الخرائب وبدأت في النعيب. هل نتحدث عن الموقف من تمدرس الفتاة، أم عن تحريم التلفون والراديو…الخ
لكي يعلم طلبتنا المصفقون للجهل والكسل الفكري إلى أي “متحجرات” ينتمي نهاري ومن على شاكلته أنقل لهم نصا من كتاب الاستقصاء للناصري (ص9/162)، قال فيه: “وفي هذه المدة [أواخر القرن 19] وَفَـد على السلطان، أيده الله، عدةُ باشادورات للأجناس، مثل باشدور الفرنسيس، والاصبنيول، والبرتغال، وغيرهم. وتكلم الفرنسيس في شأن بابور البر والتلغراف واجرابهما بالمغرب كما هما بسائر المعمور، وزعم أن في ذلك نفعا كبيرا للمسلمين والنصارى، وهو والله عين الضرر، وإنما النصارى أجربوا سائر البلاد فأرادوا أن يجربوا هذا القطر السعيد الذي طَهَّرَهُ اللهُ من دنَسِهم. نسألُه سُبحانه أن يَكْبِتَ كيدَهُم، ويَحفَظَ المسلمين من شرهم”.
هل تعرفون ما هو “بابور البر” الذي أراد الفرنسيون أن يفسدوا به المغرب، وينشروه على جلده ما ينتشر الجرب؟ إنه القطار!! النصارى يريدون أن يفسدوا بلاد الإسلام بالقطار والتلغراف!! هؤلاء الأصوليون مصابون بالعجز عن استشراف التاريخ، ولذلك يهزمهم التاريخ يوما بعد يوم، ويجعلنا بسببهم أضحوكةً بين الأمم. في مثل جمهورهم والمصفقين لهم قال المتنبي منذ ألف سنة: “يا أمة ضحكت من جهلها الأمم”!
حماقات المسيحيين التي يَـلوكُها الأصوليون اليوم (ليخدروا بها الشباب غير المطعم ضد الأوبئة الفتاكة) أخذت جولتها وانسحبتْ من قرون، طواها التاريخ، وحماقات فقهائنا وصوفيينا قائمةٌ مُستمرةٌ، وشبابنا في ضياع.
“الله إجيـبكْ عْلَى خيرْ أسي نهاري! ويعفو على المغفلين الذين يصفقون لجهالاتك في رحاب الجامعة، والله يأخذ الحق من الذين بهذلوا المدرجات بإحضار أمثالك إليها “.
أنا من أكثر الناس اعتزازا بالجهد الذي بذله علماءُ من أصول وجنسيات مختلفة في إطار اللغة العربية والدين الإسلامي، ولا أشعر بحاجة لتزييف التاريخ لكي أجد لهذا الجهد المخلص موقعا في تاريخ العلم والحضارة العالمية. الحضارةُ العربية الإسلامية6 حلقةٌ من حلقات تاريخ البشرية، حلقةٌ لها قيمتُها واعتبارُها. لعلمائها وحكمائها اجتهاداتٌ في مجالات مختلفة يعلمها المختصون في العلوم الصلبة واللينة. يسجلون بإعجاب عمل ابن الهيثم في البصريات والخوارزمي في الرياضيات وعبد القاهر الجرجاني في البلاغة…، فضلا عن عمل العبقريين سيبويه والخليل بن أحمد في علمي النحو والعروض…الخ. ولكنهم يسجلون أيضا أن هذه الجهود قامت على تفاعل مع تراث الأمم الأخرى من هنود وفرس ويونان…الخ. بعضُ عمل العرب المسلمين مجرد ترجمات ركيكة رَمَّموها بتلخيصات وشروح فيها اجتهاد، وبعضها فيه زيادة وإبداع. وهذه هي سنة التفاعل الحضاري بين السابق واللاحق من الحضارات.
مسيرة الحضارة الإنسانية سباق جماعي تكاملي. ومشعلُها، مثلُ عصا السباق، لا تستقر في يد: عندما يبذل متسابق قصارى جهده، ويستنزف أكثرَ قوته وطاقته يَتسلمها المتسابق الثاني من يده ويندفع إلى الأمام بانيا على جهد من سبقه، وهكذا يفعل الثالث والرابع. وفي نهاية السباق يتقاسمون المجد بالتساوي، ويأخذون جميعا نفس الوسام. المفاضلة بين الحضارات من أعقد الأمور، فما يُكتشفُ في عصر من العصور يبدو في العصور اللاحقة بديهيا، وربما سخيفا، ولكنه كان في عصره عملا عبقريا أحدث ثورة ما كان يمكن أن يأتي ما بعده بدونها. المهم أن الحضارة تتقدم باستمرار، ولكن الشعوب في مد وجزر. ولو كان بالإمكان الوقوف عند لحظة واحدة من التاريخ لكان الإنسان واحدا من الحيوانات المحيطة به. عند الإنسان شيءٌ يرفضُ أن يتنازل عنه، وهو عقله، وهو حصيلة تجربة الإنسانية جمعاء، ومنا اليوم من يقاتل من أجل أن نتخلى عن عقولنا ونكتفي بنقولنا، خابَ المسعى.
وهكذا، فعندما بلغت الحضارة العربية الإسلامية نهاية قوة دفعها (قبل القرن 14م)، وبدأت دولُ الإسلام وإماراته في الشرق والغرب في التفكك والانحسار، أخذت أوروبا الزمام فخرج طرف من العرب المسلمين من الأندلس، ودخل أكثرهم تحت حكم الأتراك، وأصبح المسلمون جميعا عالة على مصانع السلاح الناري في هولاندا وإنجلترا وإيطاليا وفرنسا…الخ، تعبث بهم رياح الصراع بين القوى الغربية الصاعدة. (قضى أحمد المنصور وإخوتُه وأعمامه قبلَه حياتهم في المناورة والموازنة بين مطالب الإسبان والأتراك والهولانديين والإنجليز، وانتهى عصرهم “الذهبى” دون أن يضعوا أيةَ لبنةٍ علميةً أو تنظيمية/سياسية في المغرب، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تؤسس لنهضتها العلمية. ثم خرب أبناؤهم وأحفادهم ومن جاء بعدهم تلك الآثار الضئيلة التي تركوها، إلى أن قال الملك إسماعيل لمبعوث لويس الرابع عشر الذي لامه على قهر رعيته: قل لِــلويــز إنه يحكم البشر وأنا أحكم البقر!).
وما يصدق على الإنجاز الحضاري للعرب والغرب يصدق أيضا على البيئة العلمية التي عَمِلَ فيها العلماء والحكماء والمصلحون. لكَ أن تَسخرَ ما شئتَ من “صكوك الغفران”، ولكن لا تنسَ أن لدينا من الخرافات والفضائح المنسوبة للدين (من الفقهاء والصوفيين) ما يوازيها ويفوقها قديما وحديثا، واسْخرْ ما شئت من مصير جاليليو، ولكن لا تنسَ نكبة ابن رُشد، ومصيرَ كُتب ابن رشد. وكان ابنُ رشد في قمة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية. بل ارجع إلى الوراء إلى بداية تأسيس الدولة العربية الإسلامية، وتَذكَّرْ مصيرَ الحكيمِ النابغةِ ابنِ المقفَّع: ضاق الحكام من أفكار ابن المقفع في تدبير شؤون الرعية بالعدل والحِلم والإنصاف فمدَّ أحدُهم يَدَهُ، حسْبَ ما جَرتْ به العادة) إلى حقيبة الفقهاء فأخرجَ منها التهمة التي ذبحوا بها عشرات العلماء الأحرار: الزندقة. قطعت أطراف ابن المقفع ووضعت في الفرن، ومات تحت التعذيب. والحال أن كتب ابن المقفع تنضح بنفس إيماني أخلاقي عميق.
وحين ضاق الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بالنقد المرير الذي وجهه غيلان الدمشقي للدولة الأموية التي كان عارفا بأسرارها فوَّضَ أمرَه للإمام الأوزاعي فنصب له فخا من الألغاز في شكل أسئلة تُكفِّره في جميع الأحوال، فقطعت يده ورجله ومات(7). علاقة العلماء والفلاسفة برجال الدين في البيئة الإسلامية ليست مفخرة على الإطلاق، وإلا ما تخلَّفنا إلى الحد الذي نحن عليه الآن. التحالف بين بعض رجال الدين الميكيافليين والحكام المستبدين ضد العلماء الأحرار حقيقةٌ لا يمكن أن يغطيها أي غربال، تآمروا حتى على أكابر الفقهاء المستنيرين مثل أبي علي اليوسي. حين نتحدث عن الجمود الفكري الديني ينبغي أن تكون نظرتُنا موضوعيةً شاملةً حتى نتمكن من التخلص منه.
ألم يقل فقهاء المغرب، في القرون التي ذكرتَها، بسد باب الاجتهاد؟ أي بإلغاء العقل. في القرن الثامن عشر انتصبَ الفقيهُ البلاغي المؤرخ محمد الصغير الإفراني لتدريس التفسير في جامع ابن يوسف بمراكش، فتصدى له المتزمتون المهيمنون على الأحباس من فقهاء مراكش مدعين أن تدريس التفسير في مراكش يؤدي إلى الجفاف، واصطدموا في مجلسه بالنعال، فتدخل حاكم مراكش، بو حفرة، ومنعه من تفسير القرآن. وعندما تغيرت الأحوال ومات بوحفرة هجاه الإفراني بقصيدة جاء فيها: “بوحفرةٍ في حُفرةٍ قد وقعَا”، كما هجا فقهاء الأحباس في عصره هجاء مقذعا مشبها إياهم بالبغال الشيب التي لا يهمها غير العلف(8).
لقد أخذ العرب المسلمون من الحضارات الإنسانية وأعطوا، والذي أخذوه ماثل للعيان الآن، وأنتَ تستهلكه في رحلاتك المكوكية بين القارات أكثرَ مني. أما في التاريخ فلم يجد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وأرضاه، غضاضة في الاستفادة من تنظيم شؤون الدولة بما وجده من نظم الفرس والروم، وكذلك فعل الخلفاء/ الملوك اللاحقون في عصر الدولة الأموية، فاستعاروا نظام الدواوين: ديوان الجند، وديوان الخراج خاصة..الخ. وهي صورة أولى لنظام الوزارات المتبع الآن في كل أنحاء العالم. كانت دواوين الخراج في أول أمرها بالفارسية واليونانية ثم عربت في عهد عبد الملك بن مروان في أوائل العقد الثامن الميلادي. ثم لعبت الترجمة دورا حاسما في نقل ثقافات الأمم التي لم يكن للعرب القادمين من جزيرتهم مفر من التفاعل معها. كان هذا قبل تأسيس بيت الحكمة في عهد العباسيين. فبأي عقل أو علم تقول: إن جميع علماء الغرب لا يزنون عالما عربيا واحدا؟!!
إن الذين صفقوا لتجاوزاتك الخطابية من طلبة الهندسة لا يُرجى منهم خير إلا أن يكون تصفيقهم تهكما وسخرية. أفترض أن أكثرهم كان يمارس فرجة، يتفرج وكأن الأمر لا يعنيه! أفترض هذا لأني رأيتهم قبل ذلك يصفقون للفكرة ونقيضِها في نفس المكان: رأيتُهم يُصفِّقون حين قال أحد الأصوليين أنه يضع حقوق الإنسان تحت قدميه، ويصفقون حين قلب عليه محاورُه العلماني كلامَه واتخذه حجة ضده قائلا: إن كلامَ الشيخ ف. هو الحجة القاطعة على ضرورة اعتماد العلمانية(9). صفقوا للعلمانية المؤسِّسة لحقوق الإنسان، وصفقوا في نفس الجلسة للأصولية الدينية المتطرفة التي تدوس تلك الحقوق صراحة. أما الذين كبَّـــروا بقوة لخطاب السوقية والكراهية والأخطاء النحوية في كليتي الشريعة بفاس وأيت ملول ، وفي كلية الآداب بمكناس فحكاية أخرى.
نهاري يسير في نفس نهج دوس حقوق الإنسان، وهذا هو موضوع خطبته في مكناس حين اعتبر كونية حقوق الإنسان خرافة يجب التخلص منها، كما يجب التخلص من كل المعجم الحقوقي المترتب عنها. وقد خصص نهاري خطبة مكناس (في كلية الآداب) لهجاء القيم الإنسانية الرفيعة وتجريمها، وفي مقدمتها الحرية والفن وكونية القيم…
3 ــ الاختلال النسقي
أقحم نهاري نفسه في مجال ليس مجاله، وهو مجال التعريفات العلمية والأنساق المعرفية. كلامه مختل من أوله إلى آخره، ولذلك سأقتصر على قضية تعتبر عموده الفقري، بعدما تناولنا لُـحْمته في الفقرة السابقة. سأقتصر على مثال واحد ولكنه مركزي. سأل الخطيب نهاري الطلبة المهندسين وكأنه يلقن درسا لتلاميذ الابتدائي: ما هي مكونات الحضارة؟ كثر اللغط حتى استقر الأمر على: “المعمار”… قالوا: المعمار. ثم سألهم عن المكون الثاني، فعم اللغط مرة أخرى.. وفشل الجمع في الاستقرار على رأي فأجاب الخطيب: المكون الثاني هو الإنسان. ثم فصل الإنسان إلى روح وجسد، والروح إلى عقل وقلب.. وعلق على العملية بانتشاء: “فصلناه كما يْـفَصَّلْ الـ?ـزار الحولي”!! وهي عبارة صحيحة بالمفهوم العامي! لأن المفروض في الـ?ـزار أن يصيب المفصل، وهو لم يصبْه.
والسؤال هنا، ياطلبة الهندسة! هو:كيف يمكن وضعُ الإنسان والمعمار جنبا إلى جنب باعتبارهما مكونين حضاريين؟ والحال أنهما ينتميان إلى درجتين مختلفتين من السلم المنطقي: الإنسان هو صانع المعمار، وفي المعمار يظهر الإنسان، ويمكن التعرف عليه، كما يتعرف على كل مؤثر من أثره. الإنسان يصنع الحضارة التي يشكل المعمار جزءا منها، فكيف قبل الطلبة المهندسون أن يستأسد عليهم رجل أعلن جهلَه صراحة بهذا الكلام المختل. أي طائر كان فوق رؤوسهم! هذه مأساة!
الحضارة هي أثر مادي وروحي للإنسان في زمن ومكان بأدوات إنتاج وتصريف واستهلاك، وهي تنفعل بالإنسان وتفعل فيه. والمعاجم تفرق بين معنيين للحضارة معنى وصفى وآخر معياري، معنى يقربها من مفهوم الثقافة، ومعنى يقربها من مفهوم التمدن. والكلام في تفصيل طبيعتها ومكوناتها دقيق وعميق، ليس مما يتسع له عقل خَطابي/شفوي غير كتابي.
وإليك مزيد بيان:
حين فصل الإنسان كما يُفصل الحُـولي ــ دون اعتراض المهندسين ــ جعلَ ما دون الجسد عقلا وقلبا، وسألهم عن السابق: هل هو العقل أم القلب؟ فدخلوا مرة أخرى في اللعبة الفاسدة: لم يسألوه، كما هو المنتظر من طالب العلم، عن معنى القلب والعقل، بل عَمَّ اللَّغَطُ مرة أخرى كما يعم بين أطفال التحضيري! قال بعضهم العقل، وقال بعضهم القلب، فحَسَم هُو الأمرَ بأن السابق هو العقل.. ومع استمرار الحديثِ قايضَ القلبَ بالدين، وجعل الدين في المقام الأول والقوم نائمون، وجعل الحضارة الغربية باطلة لأنها بدون قلب: فوضى مفهوميةٌ عارمة، وطلبةً نائمون مخدرون. فاستعمال القلب في السياق الديني القرآني لا بد أن يستحضر مفهومه في القرآن نفسه، حيث قال جل جلاله: ” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا” صدق الله العظيم: “إنها لا تَعْمَى الأبْصارُ، ولكنْ تَعْمى القُلوبُ التي في الصُّدُورِ”. (الحج22/46). والمشكل نفسه يطرحه “العقل” في اللغة، وعلاقته بالفكر.. هذا النقاش ضروري في مدرجات الجامعة، وإلا فلا فائدة من أن تنفق الدولة عشرات الملايين على كل طالب هندسة إذا كان سيصبح ريشة في مهب ريح “الحلايقية”! نحن جميعا نتمتع بمثل هذا الكلام المختل في جامع الفنا: تمسيسي منين؟ والضب منين؟ …الخ، قد يحدث أن نضع منطقنا العلمي وبرامجنا الجدية بين قوسين للعيش في لحظة سريالية بقواعدها، ولكن الجامعة ليست جامع الفناء، لكل فضاء منطقه ووظيفته.
إذا كان الداء في حديثه عن موضوع تفاعل الحضارات راجعا للجهل بالتاريخ، من جهة، والتعصب الأيديولوجي، من جهة ثانية، فإن الخطأ النسقي يتعلق بالكفاءة العقلية نفسها، الكفاءة العقلية للخطيب، وهو معذور، والكفاءة النقدية للطلبة وهم غير معذورين: فهم إن وجدوا العذر لعدم المعرفة بالتاريخ لن يجدوه لضعف الحاسة النقدية. لم يكونوا كمشة منتقاة من المخدرين أيديولوجيا بل كانوا جَـمًّا غفيراً.
الخلاصة:
عندما سمع المغاربة يوم الاثنين13 غشت 2007 أن “مهندسَ دولةٍ” يُدعى هشام الدكالي جهز قنينة غاز بطريقة بدائية كأي أمي مخدر، وقصد بها حافلة السياح بساحة الهديم في مكناس، فانفجرت باترة يده قبل أن يدخل الحافلة، أصيبوا بصدمة مزدوجة: صدمةِ رعْبٍ من الحدث، وصدمة خيبة الأمل في الشخص الذي أنفقوا أموالا طائلة لتعليمه. لم يفهموا شيئا! بدأوا يتساءلون عن حالته النفسية! لم يفهموا كيف يقوم مهندس قضى سنوات في مدرجات الجامعة بنفس العمل الذي قام به الشباب العاطل في الحي الهامشي سيدي مومن. فهم بدورهم حملوا نفس القنينات واتجهوا إلى فندق فرح والمقهى الإيطالي حيث يتجمهر الأبرياء، وإلى المقبرة اليهودية حيث تكمن رمزية يصر نهاري وأمثاله على إبرازها وهم يرددون القدح في اليهود والنصارى وليس الإمبريالية والصهيونية، إنهم يعرفون ما يريدون.
لم يفهم المغاربة أن مدرجات الجامعات تحولت إلى أحواض لغسل الأدمغة بمنهجية خطيرة طورها التكفيريون: يبدأ الدرس الأول فيها بتأثيم المجتمع والتيئيس من الإصلاح، وغرس الكراهية للديانات والأفكار المخالفة. وقد قدم نهاري مفاتيحها في مكناس فيما سماه حرب المصطلحات. هناك مصطلحات شيطانية ينبغي توسيخها واستئصالها، وعلى رأسها: الحداثة والعلمانية والكونية (كونية حقوق الإنسان)، والفن (الحرب على الرقص والغناء والمهرجانات)، ..وهذه اللائحة تستحضر بسرعة المتهمين بها، وهم: عملاء الصهيونية والغرب عامة، من علمانيين، وحداثيين، واشتراكيين وشيوعيين…الخ
وفي نهاية الهجوم تُحدَّد الأهداف التي يفترض أن تكون على رأس القائمة المرشحة لهجوم الأتباع. في هاتين المناسبتين (الرباط ومكناس) ذَكَــر: M2، وموازين، ومدير لا رام الذي منع الحجاب. وندد بوزارة الأوقاف وبالعلماء المنتمين لها عدة مرات…الخ. وقد ذكرت وسائل الأعلام التونسية أن شريك قاتل شكري بلعيد قال بأنهم قتلوه بناء على فتوى صادرة عن أحد الأئمة. لا تستغربوا غدا إذا رأيتم طلبة الجامعة يلتحقون بمهندس ساحة الهديم!
أخيرا أرجو من المتنورين من الحزب الذي يلعب دور حصان طروادة لإدخال المهرجين والمحرضين إلى حرم الجامعة أن يستمعوا إلى شريطي نهاري في الرباط ومكناس وغيرهما، ويسجلوا لنا انطباعهم، وتقويمهم العلمي والأخلاقي لما جاء في الشريطين. بل لماذا لا تكون هذه الأشرطة موضوع ندوة في التلفزة المغربية أو في البرلمان، الأمر خطير. ولا يجوز للمشاركين في اللعبة السياسية أن يلعبوا أيضا هذه اللعبة الكيدية الخطيرة.
❊باحث في البلاغة وتحليل الخطاب. www.medelomari.net
1 ــ ذكرني ذلك المشهد الفِصالي بتهريج وجدي غنيم: “مساواة!! ألللله!! الديك ديك والفرخة فرخة!!”. هل صارت الجامعة فعلا على فلسفة “الديك والفرخة “؟! (يكفي أن تدخل اليوتيوب وتكتب عبارة: “اضحك مع وجدي غنيم” لترى وتسمع نفس الهراء والتصفيق!
إنما ذلك كان مع الدهماء في ملعب لكرة القدم، وهو هنا مع “الصفوة” في مدرج جامعي! ذكر لي أحد الطلبة أن أصحاب الزي الأزرق هم طلبة المدرسة المحمدية للمهندسين شبه العسكرية، والآخرون من مدرسة المعادن).
2 ـ يروى أن الشاعر البدوي علي بن الجهم قدم على الخليفة العباسي المتوكل فأنشده قصيدة جاء فيها :
أنتَ كالكلبِ في حِفاظِـكَ لِلـــوُد و كالتيْس في قِراع الخُطوبِ
أنتَ كَالدَّلْوِ، لا عَدِمْنـاكِ دَلْـواً مِنْ كِبارِ الدِّلاَ، كَثيـرِ الدَّنـُوبِ
فعرف المتوكل بداوته وجفاء طبعه فقال : مَدِّنوه. فأسكنوه قصرا على ضفة دجلة حتى رق طبعه وقال متغزلا:
عيونُ المَها بيْنَ الرُّصافـةِ والجَسْـرِ جَلبْنَ الهَوَى مِنْ حَيْثُ أدْرِي وَلَا أَدْرِي
أَعَدْنَ لِيَ الشَّوْقَ القَديمَ ولمْ أكــنْ سَلَوْتُ، وَلَكِنْ زِدْنَ جَمْراً عَلى جَمْرِ
ويروى أن الخليفة قال حين سمع هذه القصيدة: أوقفوه! أردنا أن يلين فذاب.
3 ــ “باقشيشْ”: شخصية مسرحية شعبية مغربية تعتمد العفوية في الإضحاك بما تيسر بدون حدود. هي أقرب إلى مفهوم الأراجوز عند المصريين. أو المهرج بصفة عامة.
4 ـ كنت أسمع هذه العبارة في مجالس حفظة القرآن الكريم حين يخطئ أحدهم في قراءة القرآن أو قاعدة من قواعد رسمه. ثم سمعتها في مدرجات الجامعة من أستاذ النحو المرحوم محمد بن تاويت. وعلمتُ، فيما بعد، أنها تعني ــ في الأصل ــ أن يقوم المخطئ بتنفيذ عقوبة الرقص في هيئة جارية/راقصة أمام الطلبة، وقد شد وسطه بحزام، تأديبا له حتى لا يعود إلى خطئه.
5 ــ ومن أقوى الأدلة على أن قضية “القردة والخنازير” موجهة نحو الداخل، نحو دعاة حقوق الإنسان، ما نلاحظه اليوم من مودة وتفاهم بين من وصل من الأصوليين إلى الحكم وبين أمريكا وإسرائيل (رسالة مرسي إلى بيريز مثلا).
6 ــ هذه النسبة (العربية الإسلامية) لا علاقة لها لا بالعنصر البشري ولا بالمحتوى العقدي، تعني شيئا واحدا، هو: ما كتب بالخط العربي في البلاد التي “حُكمت باسم الإسلام”، وسميت أحيانا “بلاد الإسلام”. وهي نسبة لم نجد ما يؤدي معناها.
7 ــ أوردنا هذه “المناظرة” في كتابنا: في بلاغة الخطاب الإقناعي. ص. 46 ــ47.
8 ــ انظر تفصيل هذه الوقائع في كتابنا: الإفراني وقضايا الثقافة والأدب . طبع الدار العالمية. الدار البيضاء 1992. ومن أجمل عبارات الإفراني التي غمز بها رجال الدين المتزمتين في عصره قوله: “ولعمري إن كل من لا يتعاطى صناعة الأدب، ولا يَنْسُل لاجتلاء غرره، واجتلاب درره من كل حَدَب، ما هو إلا صورة ممثلة، أو بهيمة مرسلة”. (انظر مقدمة المسلك السهل).
9 ـ مناظرة بين الشيخ محمد الفزازي والأستاذ أحمد عصيد. موجودة على اليوتيوب.