انجلترا خارج الاتحاد الأوروبي. أكيد ستنزل دمعة من على تمثال جون موني (الأب الروحي لفكرة وحدة أوروبا، التي تولدت لديه وهو منفي، هربا من النازية في العاصمة لندن). ونتائج الاستفتاء ليلة الخميس/ الجمعة، قد جعلت ليس البريطانيين وحدهم من ظل ساهرا للفجر، بل كل بورصات العالم. فالحدث جلل بكل المقاييس، لأنه يخشى أن يكون قد دشن لبداية نهاية فكرة «الاتحاد الأوروبي»، وعودة الدول/ القوميات بالقارة العجوز، بكل ما لذلك من نتائج على رزنامة كاملة من العلاقات الدولية والاتفاقيات العالمية، وأيضا على مستقبل عملة اليورو.
صحيح، أن لندن، كانت عضوا في الاتحاد الأوروبي، بمقاييس إنجليزية، حيث حرصت على عدم الدخول أبدا إلى منطقة اليورو، وحافظت على عملتها الوطنية «الجنيه الإسترليني»، مثلما ظلت باريس وبرلين، تعيب عليها انخراطها الدائم وراء حسابات السياسة الخارجية لواشنطن، أكثر من التزامها الواضح مع السياسة الخارجية لبروكسيل. لكن، أن يقرر أكثر من 51 % من مواطنيها مغادرة الاتحاد الأوروبي، فإنه يفتح باب السؤال كبيرا، حول مستقبل أوروبا كلها، لأنها قد فتحت الباب بذلك، لعودة فكرة «القوميات» بالقارة العجوز، تلك التي تتأسس على المحافظة وليس على التعايش. وهنا يكبر السؤال أكيد: من له مصلحة في ذلك، ومن هو الرابح الأكبر في توجه مماثل؟ أكيد واشنطن، القوة الحليفة ضمن منظومة الحلف الأطلنتي، التي منذ 1945، وهي تريد أوروبا على المقاس، أي تابعة للاستراتيجية الأمريكية ضمن النظام العالمي، وليس أوروبا موحدة ومستقلة القرار.
لكن، علينا ربما أن لا نغفل أمرا آخر أشد خطورة، هو أن تكون نتائج هذا الاستفتاء الإنجليزي المزلزلة، التي أسقطت حكومة ديفيد كاميرون، هي البداية لعودة مقلقة للفكر المحافظ القومي، في كامل أوروبا، لأن سيناريو لندن، لن يبقى أكيد محصورا في أرخبيل بريطانيا، بل إنه سيمتد إلى باريس في حال صعود حزب ماري لوبين اليميني المتطرف في نتائج الانتخابات، وفي حال صعد اليمين المتطرف في جغرافيات أوروبية أخرى، ليس أقلها ما حدث مؤخرا في النمسا. وهذا يعني أن الحدث الإنجليزي انعطافة جد مقلقة لمستقبل العلاقات الأوروبية مع العالم، بذات الشكل الذي حدث بعد أزمة 1929/ 1930، التي أفضت إلى ميلاد النازية والفاشية بالقارة العجوز. ويحق هنا التساؤل: أليست تفاعلات الأوضاع في مجتمعات القارة العجوز، اليوم، ليست سوى نتيجة لتداعيات الأزمة المالية العالمية لسنة 2008/ 2010؟ لأنه بعد إنجلترا، سيأتي ربما الدور على اليونان وعلى إيرلندة وعلى البرتغال وعلى إسبانيا. فينفرط عقد الوحدة الأوروبية التي لم تعمر سوى نصف قرن من الزمان.
علينا مغربيا ومغاربيا وشمال إفريقيا، أن نقلق جديا حول هذا المنعطف الجديد. ولأن السياسة هي فن التوقع، فإن ذكاء النخب السياسية ببلدان الجنوب المتوسطي، في لحظة امتحان، من أجل الاستعداد، لما قد تؤول إليه التطورات خلال العقد القادم في أوروبا. لأن مشاريع عدة سيعاد فيها النظر، واستراتيجيات كاملة سيعاد ترتيبها، اقتصاديا وأمنيا وسياسيا. ولعل أكبر الدروس التي يمكن استخلاصها أمام هذه الانعطافة، هي أن الاقتصاد وحده لا يخلق الوحدة، بل لا بد من جذر ثقافي هوياتي موحد. ومن يدري، فقد يكون الزلزال الإنجليزي، بداية التحول أوروبيا للانتباه إلى ذلك. والذي لن تكون نتائجه سوى مفيدة لنا شمال إفريقيا، نحن المتوفرون أصلا على جذر ثقافي هوياتي موحد مشترك، لم نحسن حتى الآن استثماره للتأسيس لتكتل جهوي قوي.