مثل ما أن سر نكهة وجبة الطعام يكمن في توازن العناصر الأولية للطبخة، كذلك طبيعة بعض الأحداث التاريخية ودلالتها يجب تلمسهما ضمن جملة من الوقائع المنسية أو المجهولة لدى معاصريها. وربما كان الناس قد تعودوا على أن يتناولوا أطباقا معينة من الأكل ولكننا نراهم يظهرون الدهشة حين تقدم إليهم ويتصرفون إزاءها كما لو كانت مكتشفات جديدة.
بعض الناس يتصرفون مع أحداث التاريخ بنفس العقلية، وأحيانا يتعاملون معها كما لو كانت قطعة حلوى لذيذة يشتهون تذوقها، ومنهم من يخافون أن تكون القطعة مغشوشة أو ملغومة فيعزفون عن الإقتراب منها.
هذه العلاقة الشفهية مع التاريخ : حاضره الماثل للعيان وماضيه القريب أو البعيد المطمور في الذاكرة، تكاد تكون معلما بارزا من معالم الحياة العربية.
التاريخ العربي، مثل الثروة القومية العربية، يظل محدود التداول، لأنه مجال مراهنات استراتيجية، تتصل بلعبة الدول. والمواطن الباحث عن تاريخه مثل المواطن الباحث عن رزقه وكرامته، لا بد له أن يملك قدرا كبيرا من الصبر والمثابرة حتى يظفر بضالته المنشودة.
التاريخ عند الحاكم مادة «ديناميت» لا يجوز الإقتراب منها، وهو عند الحاكم العربي المتسامح يدرج في خانة الأسرار المنزلية التي لا يعرفها إلا المقربون من صفوة الحاشية. أما عند النخبة فهناك إجماع رخو صامت لعدم الإقتراب من مجاهله التي تهم حياة الأجيال الصاعدة. لذلك تنزل الأحداث على المواطن العادي نزول الصواعق على الرعاة في الفيافي، فلا يملك إلا أن يحني ظهره لها حتى تمر.
أقول ذلك وأنا أهم بالكتابة عن التطورات الجديدة، المذهلة، الحاصلة في مشكلة الصحراء المغربية وفي النزاع الدموي القائم بين دولتي المغرب الأقصى والمغرب الأوسط، أي المملكة المغربية والجمهورية الجزائرية حولها، عبر جبهة البوليساريو.
هذه التطورات هي تتويج للعبة دول معقدة، حان الوقت لأن يعرف الرأي العام في المغرب والمشرق العربيين، خلفياتها ومضاعفاتها على الدول المنخرطة في اللعبة وعلى منطقة المغرب العربي كله.
وأريد، في مستهل هذه المعالجات أن أبدأ بوضع ديكور أولي، قبل أن أتقدم للخوض في صميم هذه الإشكالية التي تحكمت منذ استقلال المغرب (2 مارس 1956) في حياتنا السياسية الداخلية، وحكمت، منذ استقلال الجزائر (5 يوليوز 1962) علاقات البلدين العربيين المتجاورين وسممت أجواء السياسة العربية والإفريقية ونسجت حولها المراهنات الإقليمية والعربية والدولية.
أريد أن أقوم بهذه المحاولة لأن انتهاء النزاع الجزائري-المغربي حول الصحراء المغربية يطوي صفحة كاملة من تاريخ المنطقة، ويضع الحكام والمحكومين أمام مسؤوليات وتحديات جديدة.
وأعود إلى المثل المجازي الذي ضربته، أعود إليه لأضع القارئ فيما أتصور منذ الآن أنه سيكون مناخ هذه المقالات.
إنني أتخيل القارئ الذي قد تتاح له فرصة الإطلاع في المغرب والمشرق، ضيفا مدعوا إلى تناول وجبة من حقه أن يتساءل عن مكوناتها.
ولعلي أجازف استجابة لفضوله وأُحَدِّثُه في هذه التوطئة عن ما أسميه «توابل الطبخة»، وهما عبارتان أرجو أن يفهم ما تنطويان عليه من معان حين يستكمل هذا المدخل المخصص للديكور.
وأنا لا اتردد في تحريض القارئ على التواطؤ بما يعنيه من تأجيل لإصدار الاحكام في انتظار معرفة العناصر الجديدة.
«توابل الطبخة» أو الديكور الأصلي لما عرف بمشكلة الصحراء المغربية أو النزاع الجزائري المغربي بشأنها، يمكن لنا أن نكتشف عيناتها الأولى، زمانا ومكانا، في هذا المجال التاريخي الجغرافي الذي نسميه المغرب العربي وفي تفاعلات هذا المغرب العربي مع العالم.
لكنني أريد أن اسجل منذ البداية ملاحظة لا بد أن تظل حاضرة في الذهن كخط أحمر :
إن مشكلة الصحراء هي في جوهرها مغربية (نسبة إلى المغرب الأقصى) أي أنها وليدة ملابسات معينة هي بدورها ثمرة لتلك العلاقة «الألفية Millénaire» المعقدة القائمة بين الدولة المركزية المخزنية وبين الشعب المغربي.
وبين ذلك اليوم الصيفي القائظ الذي ركب فيه الشاب الوالي مصطفى السيد (أو لولي بالتعبير الصحراوي)، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو)، سيارة لاندروفير من مدينة طرفاية المغربية، في شهر مايو 1972، قاصدا مدينة تندوف الجزائرية، عبر مفازات الحمادة الصخرية، وذلك اليوم الشتوي الأصقع في الأسبوع الأول من شهر يناير 1989، الذي هبطت فيه طائرة جزائرية خاصة في مطار ابن جرير العسكري تحمل وفدا من جبهة البوليساريو، برئاسة بشير مصطفى السيد، شقيق المرحوم الوالي مصطفى السيد، لمقابلة العاهل المغربي، الملك الحسن الثاني، بين ذينك اليومين، رغم الفاصل الزمني الطويل، قاسم مشترك يمكن اختصاره في جملة قصيرة :
لقد خرجت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب أي البوليساريو حقيقة ومجازا من رحم التاريخ المغربي، أي تاريخ المملكة المغربية، ولعلها تعود من جديد لتجد لها مكانا في الكيان المغربي، بهذه الصيغة أو تلك.
ولذلك «الخروج من رحم التاريخ المغربي» قصة ستأتي في مكانها من سياق هذه الحلقات.
ولدت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، ولادة شرعية مغربية، ولكنها تمردت وشقت عصا الطاعة ووجدت من شجعها على العصيان، فترعرعت ونمت ونبتت لها أجنحة حاولت أن تطير بها، وها هي تجد نفسها اليوم مطالبة بأن تتخلى عن «عقوقها».
ولعلي أضع خلاصة هذه التوطئة في بدايتها لأقول : أن الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، هي ثمرة من ثمار ما يمكن أن نطلق عليه «عقد أو حقبة أزمات المشروعيات» (أي تلك المدة الممتدة من 1965 إلى 1975). إنها سنوات المخاض الكبير الذي سيشهد ميلاد عدد من الظواهر الفكرية والسياسية في مشرق الوطن العربي ومغربه، وهي سنوات توفرت بذورها وأسمدتها، بالنسبة للمسألة التي تعنينا هنا، في الملابسات الخاصة المحيطة باستقلال المغرب، وفي الظروف المرافقة لاستقلال الجزائر، وفي ما تلاها بين الإستقلالين من صراعات داخلية، وفي ما رافق هذه الصراعات الداخلية من منافسات إقليمية ومن تحالفات دولية ومن تفاعل مع أحداث المشرق العربي والعالم الثالث.
جبهة البوليساريو، في وجه من وجوهها ابن، ولكن بالتبني فقط، لتلك المرحلة العربية والعالمية.
أما البنوة الشرعية، فلا جدال في أنها مغربية خالصة. والعنصران الأولان في «أزمات المشروعيات» سوف يكون مسرحهما الدار البيضاء والجزائر.
الدار البيضاء، شهدت في شهر مارس 1965، أول انتفاضة طلابية شعبية، كانت بحجمها والشعارات التي طرحتها وبالضحايا الذين سقطوا فيها، أول تعبير عن اهتزاز المشروعية الوطنية بشقيها الرسمي والشعبي.
تعبير «المشروعية الداخلية الرسمية» في المعنى المقصود هنا، يميل إلى إمكانية الدولة الوطنية، بأجهزتها الأمنية والقضائية والتربوية في أن لا تظهر للأجيال الصاعدة، كيانا منفصلا ومناوئا لها. أما بالنسبة للأحزاب السياسية فالتعبير ذاته يطرح جدواها وجدارتها ومصداقيتها، في صلتها المزدوجة مع الدولة ومع المجتمع المدني، ومحدودية قدرتها في أن تأخذ على عاتقها مطامح الأجيال المتمردة وأحلامها ومخاوفها.
انتفاضة الدار البيضاء جاءت بمثابة إرهاص بالذي سيحدث فيما بعد، وكانت، وهذا الجانب هو الذي يعنينا منها هنا، نتيجة لسياسة منهجية عملت الدولة المركزية الناشئة على فرضها وترسيخها بأسلوب الترهيب والترغيب. إنها سياسة الحيلولة دون نشوء أو نمو أية قوة سياسية مدنية خارجة عن رقابة الدولة. وقد كانت نتيجة هذه السياسة ترك الجماهير بدون تأطير سياسي حقيقي وإبقاء الدولة وجها لوجه أمام الشارع وبالنتيجة إظهار أي تذمر شعبي غير مؤطر وكأنه مساس بالمشروعية وتهديد للمقدسات.
لقد حدثت الإنتفاضة بعد مرور سنتين على عمليات القمع الواسعة التي تعرض لها اليسار والتي اتسمت باعتقالات تعسفية ومحاكمات صورية فيما عرف بقضية المؤامرة (يوليوز 1963).
إنني أذكر انتفاضة الدار البيضاء. لعلاقتها الوثيقة بما قبلها وما بعدها، ثم لصلة هذا «القَبْل» وذلك «البَعْد» بأزمة الثقة المزمنة، المستحكمة بين الدولة المركزية المخزنية والمجتمع المدني، ولأن هذه العوامل شكلت البذور الأولى في خلق التربة الملائمة لاستفحال مشكلة الصحراء، وأدت فيما بعد إلى نشوء جبهة البوليساريو.
ومن دون نبش التاريخ، يعنيني أن أشير في اختصار شديد إلى أن حوادث الدار البيضاء توجت سنوات من الشكوك بين الدولة واليسار المغربي.
ولن أمل من تكرار هذه الحقيقة التاريخية : لقد كان العمل المسلح من أجل استعادة الصحراء المغربية أصل الأزمة الأولى التي نشبت بين القصر الملكي وأجزاء هامة من الحركة الوطنية، بل كان التمسك بهذا الخط السياسي سبب الإنشقاق الحقيقي داخل حزب الإستقلال. والتذكير بهذه الحقيقة التاريخية في هذه المناسبة لا يرمي إطلاقا إلى إحياء ذكريات قديمة بقصد تسجيل أسبقية مزعومة في الوطنية، وإنما يهدف إلى إنارة لحظة تاريخية حاسمة من لحظات نضال اليسار المغربي في سبيل الوحدة الترابية للبلاد.
تَنَاوُلُنا لانتفاضة الدار البيضاء يتم فقط من زاوية علاقتها بمشكلة الصحراء المغربية. وأريد هنا أن أشير باختصار شديد إلى نتيجتين : الأولى فكرية، لن تتبلور نتائجها العميقة إلا بعد حرب الأيام الستة (يونيو 1967) والثانية سياسية عملية حصلت في نفس السنة.
وسوف أؤجل الحديث عن الأجواء الفكرية التي نشأت فيها جبهة البوليساريو داخل الوسط الطلابي اليساري المغربي، نتيجة للرجة النفسية العميقة التي أحدثتها الإنتفاضة البيضاوية، سوف أؤجل ذلك لفترة قادمة لأتوقف عند البعد السياسي ومضاعفاتها على المشكلة الصحراوية.لقد عالجت الدولة أزمة المشروعية الناشئة بينها وبين المجتمع المدني وفقا لسياسة الترغيب والترهيب الأزلية.
هكذا رأيناها تبادر بفتح مفاوضات ومشاورات مع القوة السياسية اليسارية الأكثر نفوذا آنذاك في الشارع ولدى النخبة، أي الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتلوح بإجراء تعديل وزاري. وسوف تنتهي تلك اللحظة الإنفتاحية بنتائج يحيد بعضها بعضا : إطلاق سراح مجموعة من المناضلين المعتقلين، واختطاف القائد السياسي الوطني الكبير المهدي بن بركة، وتصفيته بالطريقة الوحشية التي خلدها المخرج الفرنسي التقدمي، إيف بواسي في فيلم «الاغتيال» الجنرال مـحمد أوفقير والكولونيل أحمد الدليمي، اللذين أشرفا على قمع انتفاضة الدار البيضاء، هما اللذان سيتوليان تلك الجريمة التي ستفتح صفحة جديدة ومؤلمة، في العلاقة بين الدولة المركزية والمجتمع المدني.
المرحوم المهدي بن بركة -وهذه واقعة أظن أنها تكشف لأول مرة- كان في نطاق تحضيره لمؤتمر القارات الثلاث يريد إحضار وفد يمثل الصحراء المغربية، وكان قد مهد لذلك بالإتفاق مع مقر منظمة التضامن الإفريقي الآسيوي بالقاهرة. وكانت الفكرة هي أن ينضم أحد أعضاء الوفد الخارجي للإتحاد، ويستحسن أن يكون من أصل صحراوي، إلى الأمانة الدائمة لمنظمة تضامن شعوب إفريقيا وآسيا في العاصمة المصرية، ثم يلتحق بهافانا، عاصمة كوبا، ليتحدث باسم سكان الصحراء المغربية، أمام مندوبي حركات تحرير آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
مرة أخرى، ليس الغرض من ذكر هذه الوقائع سوى إنارة لحظة ما تزال معتمة من لحظات ذلك المخاض الطويل والعسير الذي رافق ولادة جبهة البوليساريو في المغرب.
وإذا كانت سنة 1965 قد بدأت في فصلها الأول (الربيع) بانفجار أزمة المشروعية عبر انتفاضة الدار البيضاء وانتهت باختطاف المهدي بن بركة من ساحة الحي اللاتتيني في باريس، فإنها قد شهدت في الجزائر أزمة مشروعية أخرى. ففي التاسع عشر من يونيو عام 1965، قام جماعة من الضباط الجزائريين على رأسهم العقيد هواري بومدين بالإطاحة بنظام الرئيس أحمد بن بلة وبإعلان مجلس لقيادة الثورة يتولى مقاليد السلطة في البلاد، بأسلوب جماعي.
إنقلاب الجزائر كانت له صلة مباشرة بالنزاع المغربي الجزائري حول الحدود الصحراوية، وسوف تكون له بعد عشر سنوات من حصوله مضاعفات وتداعيات عملية على إسناد مشروع فصل الصحراء المغربية عن الوطن بهدف إقامة دولة مصطنعة فيها.
من جملة التهم الكثيرة التي وجهها بومدين ورفاقه للرئيس أحمد بن بلة ونظامه، تهمتان خطيرتان تقول إحداهما أنه، فتح أبواب الجزائر على مصراعيها للأجانب وأشركهم في إدارة شؤونها. وتزعم الثانية أنه كان يستعد لتوقيع اتفاقية حدودية مع المغرب يتنازل فيها عن مدينة تندوف. بل إن هناك تهمة ثالثة روج لها الإنقلابيون في الكواليس تدعى أن أحمد بن بلة مغربي وليس جزائريا.
وإجمالا، فقد كان حسم الصراع على المشروعية بالجزائر في صيف ذلك العام (1965) على صلة وثيقة بالعلاقات المغربية الجزائرية. وأزمة المشروعية الجزائرية، التي برزت في انتفاضة الدار البيضاء (23 مارس 1965)، غداة استقلال ذلك البلد.
لقد رافق استقلال الجزائر قيام نزاع عنيف بين الحكومة المؤقتة من جهة وقيادة الجيش وأحمد بن بلة من جانب آخر. وقد توجت أزمة المشروعية الأولى للدولة الجزائرية بانتصار المكتب السياسي بزعامة أحمد بن بلة المدعوم من قبل الجيش بقيادة هواري بومدين وبتكوين نظام سياسي رئاسي يستند إلى الحزب، ظاهر السلطة، أنه يتركز بين أيدي الأمين العام وحقيقتها في الجيش. هواري بومدين الذي كان وزير الدفاع والضباط الكبار الذين أصبحوا فيما بعد أعضاء معه في مجلس قيادة الثورة واجهوا أول امتحان جديد لهم في حرب الرمال الأولى (سبتمبر 1963) مع المغرب ولم يغفروا لِبَن بلة إهماله أو ما اعتبروه إهمالا منه للجيش. وسوف تكون تلك «الإهانة» الأولى التي لحقت بالجيش الجزائري في هضاب صحراء الحمادة الشرقية على مشارف مدينة تندوف إحدى الذكريات المؤلمة التي ستدفع الرئيس هواري بومدين إلى تعبئة الطاقات العسكرية والمالية والدبلوماسية في منتصف السبعينيات لمنع انضمام الصحراء المغربية إلى المغرب. صداقات أحمد بن بلة المغربية وكونه من مواليد مدينة مغنية بالغرب من وجدة، بل انتماء أسرته إلى عشيرة مغربية من مدينة قلعة السراغنة، كانت أيضا من «المآخذ» التي أخذها عليه مناهضوه. لقد تحولت الجزائر في عهده إلى جبهة خلفية للمعارضة المغربية التي كان يُعَامَلُ زعماؤها كإخوة له يشركهم في مناقشة مشاكل الجزائر، ووضع معهم الخطط المشتركة الخاصة بتحرير إفريقيا وذلك بتنسيق كامل مع مصر الناصرية. ولقد كان تحرير الصحراء المغربية، باعتبارها صحراء مغربية لا كيانا منفصلا في قلب المباحثات التنسيقية التي جرت في أكثر من مرة بينه وبين المرحوم المهدي بن بركة. والمشروع الذي أشرنا إليه في فقرة سابقة أي مشروع تكوين حركة تحرير صحراوية مغربية تنضم إلى منظمة تضامن شعوب آسيا وإفريقيا وتشارك بمؤتمر القارات الثلاث في كوبا (يناير 1966) كان واحدا من المبادرات الإستراتيجية التي أعدها الشهيد المهدي بن بركة بالتعاون مع أحمد بن بلة. لذلك لا غرابة في أن تستقبل السلطات الرسمية المغربية بارتياح سقوط أحمد بن بلة، ولكن المفارقة التاريخية الكبرى هي أن الهواري بومدين سيظهر بعد عشر سنوات وكـأنه العدو اللدود للمغرب.
وإذا كانت انتفاضة الدار البيضاء قد مهدت الطريق فكريا لخلق المناخ المغربي الذي سيترعرع فيه مؤسسو جبهة البوليساريو، فإن مجيء هواري بومدين إلى الحكم سوف يوفر الذراع الجزائرية الضاربة التي ستستعمل بعد عشر سنوات لفصل الصحراء عن المغرب. وحين يتحدث المحللون عن دوافع الرئيس هواري بومدين عادة ما يتكلمون عن مشاكل الحدود والهيمنة والتنافس الإقليمي والصراع بين الشرق والغرب لتفسير إصراره على استقلال الصحراء، ونادرا ما ينتبهون إلى عامل آخر هو رغبته في أن يقيم بالمغرب نظاما سياسيا على غرار النظام الجزائري، يكون الجيش دعامته ومحركه. إن هذه الرغبة هي التي تفسر كيف أن بومدين «بكى حزنا» بعد فشل المحاولتين الانقلابيتين (الصخيرات 10 يوليو 1971 والقنيطرة 11 غشت 1972)، بل هي التي تفسر أن شهر العسل في العلاقات الرسمية المغربية الجزائرية اقترن بأيام سطوة الجنرال مـحمد أوفقير والجنرال أحمد الدليمي واللاجئون المغاربة الذين كانوا يقيمون بالجزائر سمعوا وعرفوا بواسطة الرسميين الجزائريين أشياء كثيرة ولمسوا مؤشرات عديدة، تؤكد وجود مراهنات وتواطؤات بين الدولة الجزائرية والدولة المغربية. ولموقف النظام الجزائري هذا من الملكية المغربية، علاقة مباشرة بما يمكن أن نسميه إشكالية المشروعيات الحاكمة في العالم العربي، وهو عنصر قليلا ما يَلْتَفِتُ إليه المراقبون في تحليلهم للموقف الجزائري من الصحراء المغربية في عهد الرئيس هواري بومدين. لقد شهد ذلك العهد تعاونا وثيقا بين أجهزة القمع في البلدين، وتنسيقا متقدما ضد المعارضين وصل إلى حد تسليم أشخاص ملاحقين إلى الجنرال مـحمد أوفقير. ويبدو أن ذلك التعاون لم يكن بعيدا عن المشاريع السياسية للجيشين الجزائري والمغربي.
سنوات 1967، و1968، و1969 ستشهد هي الأخرى أحداثا عربية ودولية ستصل أصداؤها القوية والعميقة إلى المغرب وتفعل فعلها في صفوف شبابه، بمن في ذلك شبابه الصحراوي.
الحدث الأول : حرب الأيام الستة وهزيمة الجيوش العربية في المشرق العربي.
الحدث الثاني : هو إعلان وفاة القائد الثوري إرنستو شي غيفارا (أول أكتوبر 1967) في أدغال بوليفيا مكللا بهالة من المجد الأسطوري.
الحدث الثالث : ثورة الشباب في الجامعات الغربية وخاصة في فرنسا (ربيع 1968) واقتران مغامرة إرنستو شيء غيفارا، مع الموجة المناهضة للإمبريالية الأمريكية تضامنا مع شعب الفيتنام الصغير.
الحدث الرابع : (أول سبتمبر 1969) هو سقوط الملكية السنوسية في ليبيا ووصول مجموعة من صغار الضباط على رأسهم العقيد معمر القذافي إلى السلطة، بخطاب سياسي جديد تماما في ساحة المغرب العربي.
جاءت تلك الأحداث متلاحقة لتعمق الشرخ الذي أحدثته انتفاضة الدار البيضاء بين الشباب المتعلم من جهة والدولة المخزنية والطبقة السياسية التقليدية من جهة ثانية.
رد فعل المغرب الأقصى تحديدا على هزيمة العرب المهيمنة في حرب الأيام الستة آثار أزمة ثقة وأزمة مشروعية شاملة بين الشباب الواعي وأطر تحركاته السياسيية المألوفة. لقد بدأ الشباب المغربي المثقف والملتزم بفقد ثقته بنفسه أولا لينتهي إلى التشكيك، إطلاقا أو بالمطلق في مشروعية وجدوى النضال السياسي الشرعي، هكذا بدأت الخلايا الأولى الماركسية اللينينية تنشأ هنا وهناك بتأثير مزدوج من الطلاب القادمين من المشرق العربي ومن فرنسا، وتعمل معاول الهدم في إيديولوجيات الأحزاب السياسية التقليدية. وسيكون الإتحاد الوطني لطلبة المغرب أول ساحة يحتدم فيها الجدل النظري بين الشباب المثاليين المتعطشين إلى المطلقات والحلول الجاهزة وبين العاملين في الحقل السياسي بالأساليب التقليدية. شظايا هذه المعركة الفكرية سوف تمتد لتصيب، بعض الأحزاب اليسارية (أساسا الإتحاد الوطني للقوات الشعبية/ الإتحاد الإشتراكي لاحقا والآن) ثم الحزب الشيوعي (التقدم والاشتراكية اليوم).
الإتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي ظل حتى نهاية عقد الستينيات مَشْتَلا لتخريج قيادات اليسار المغربي، تحول مع ورود الأصداء الفكرية للهزيمة العربية في المشرق أساسا عن طريق أطروحات مجلة «الحرية» اللبنانية حول سقوط أنظمة البورجوازية الصغيرة العربية) وتحت تأثير الإفتتان بثورات الشباب الغربي، والنظريات الغيفارية حول البؤر الثورية وكتابات المفكر الفرنسي الشاب ريجيس دوبري (خاصة نص ثورة في الثورة) ثم تحت مفعول الثورة الثقافية الصينية، تحول تحت مفعول هذا الدفق من التجارب والنظريات والإجتهادات، وتحولت معه الجامعات المغربية إلى حلبة مصارعات وملاكمات عقائدية أخذ فيها القتال عن طهارة المفهوم النظري ونقائه وصفائه، مكانة الممارسة العملية البسيطة. والذين لم يحضروا تلك الإجتماعات «الماراتونية»، التي كانت تحصل في مراكز الطلاب المغاربة، ومنها الحي الجامعي في باريس، حيث كانت الخصومات تبدأ من التاسعة ليلا لتنتهي بعد أيام، لا يستطيعون أن يدركوا كل ما حبلت به تلك الفترة من إرادات واستعدادات وسذاجات وحالات انخطاف مذهلة.
ولعلي أسمح لنفسي، بأن أشير، بعيدا عن التشهير بالشخص، الذي لن أذكر اسمه ومن باب استكمال تصوير هذه اللحظات الأساسية في ذلك الجو الذي نشأت فيه جبهة البوليساريو إلى أن أحد الوجوه البارزة في توجيه الحركة الطلابية وفي إذاعة الأفكار اليسارية داخل صفوفها ظهر لاحقا مع مستهل عقد السبعينات في وضع يسمح بطرح جملة من التساؤلات حول ما كان يدعو إليه من «تجذير».
المهم أنه الآن صاحب «جذور» عميقة داخل أحد الأحزاب الحاكمة. لقد سمعناه ذات مرة، يتحدث بمنتهى الجدية والصرامة المعهودتين عنه عن الفرق النوعي بين «الضرطة البورجوازية» والضرطة البروليتارية».
ولإقناعنا بنظريته في الصراع الطبقي لجأ صاحبنا إلى الفيزياء والكيمياء، لأنه لا ينطق سوى «العلم الموضوعي»، وحلل المكونات الأولية للضرطتين، ممعنا في إيراد تفاصيل مثيرة عن القيمة الحرارية للفول الذي تصنع منه «البيصارة» والقيمة الحرارية للمواد التي تصنع منها «البسطيلة»، ثم خلص من ذلك الحديث، بعد أن زكم أنوفنا بالكلام عن «الحزاق الشعبي» و»الحزاق البورجوازي» ليؤكد لنا وجود صلة «حتمية» بين الجمال والثروة، ولعلي أذكر ذلك الزعيم الطلابي اليساري الذي كان يصعد إلى المنبر في اجتماع عام يشارك فيه مئات الطلاب بدار المغرب، في شارع جوردان بالدائرة الرابعة عشر بباريس، في نهاية حقبة الستينات ليلقي علينا خطبة عصماء في التنظيم الثوري وفضائله وشروطه يختمها قائلا، مِلْء حنجرته : «إيوا، عرفتو؟ إيوا الحل هو جْبْل» كان هذا الداعية اليساري يطرح علينا فكرة الكفاح المسلح علنا في اجتماعات عامة وفي وقت كانت العيون المقيمة المبثوثة تلاحق حركاتنا وسكناتنا وتحسب علينا أنفاسنا، في تعاون وثيق مع السلطات الفرنسية. وكان الرجل من أنجح خطباء تلك الإجتماعات الماراتونية، وقد أكمل دراساته الجامعية وعاد إلى البلد، ليتقلب في مناصب إدارية سامية بطريقة ملفتة للنظر…
لا أَسُوق هذا المثال ولا الذي قبله إلا لغرض واحد، هو القاء المزيد من الضوء على الزوايا المعتمة من سنوات المخاض المغربي الكبير الذي ولدت فيه جبهة البوليساريو كظاهرة مغربية محضةـ بل لعلي أخاطر منذ الآن بالإقدام على المقارنة أو الموازنة بين الظاهرتين : ظاهرة «التعقل والحكمة» التي مست نفحتها كثيرا من يساريي مرحلة السبعينات وظاهرة «العودة إلى الأصل» التي توحي بها المبادرات الجديدة لقيادة جبهة البوليساريو. وأنا لا أسمح لنفسي لحظة واحدة بأن أحاكم الناس، ولكن مهنة المتاعب، كما أفهمها، تفرض علي أن أمارس أحيانا دور «البصاص» بالمفهوم الشعبي المصري أي أن أخوض، فيما لا يعنيني، لأقدم للقارئ فكرة عن أسباب الحدث الذي أعالجه.
بالطبع ليس النموذجان اللذان مررت بحالتيهما مرور الكرام، نَمَطَيْن يمكن الحكم من خلالها على مسيرة الجو اليسراوي الذي ولدت فيه ورضعت من ألبانه. جبهة البوليساريو إنهما حالتان استثنائيتان.والحق أن الغالبية الكبرى من شباب تلك الفترة كانوا ينطلقون من معاناة حقيقية دفعوا ثمنها غالبا ودفعت الأحزاب السياسية التقدمية ثمنها معهم وما يزال العديد منهم في السجون وما يزال الطلقاء منهم، رغم تقدم العمر وتراكم الخيبات والإحباطات وانسداد الآفاق يغالبون عوامل اليأس ويحاولون إبقاء جدوة الأمل حية تحت رماد عدم الإكتراث العام وفي أجواء الإنطواء على الهموم الصغيرة. وما أردت أن أقوله في هذه التوطئة انما هو تمهيد لما سيأتي بعد، أي لمعالجة لعبة دول المغرب العربي، بما فيها دولة المغرب، تجاه الصحراء المغربية.
وقد بدأت هذه التوطئة بالكلام عن أزمة المشروعية، وأريد أن أختتمها بالإشارة إلى أزمة الثقة التي نجمت عنها بين مختلف مقومات الشعب المغربي في مستهل عقد السبعينات الذي ستولد فيه رسميا جبهة البوليساريو وتحتضنها ليبيا القذافية ثم الجزائر البومدينية. لقد انتهت أزمة المشروعية إلى ذروتها في الصخيرات (صيف 1971) وفي القنيطرة أثناء الصيف اللاحق (غشت 1972). في ذينك الصيفين المتتاليين حاولت نخبة من ضباط الجيش المقربين جدا والنافذين جدا الإطاحة بالنظام الملكي وإقامة مشروعية جديدة مكانه. وقد حظيت المحاولة الأولى والثانية بترحيب علني ومكشوف من طرف معمر القذافي، بينما قابلتهما الجزائر البومدينية ظاهرا بالحذر، علما بأنها كانت على معرفة بهما وربما على صلة بعناصرهما التنفيذية أكثر من طرابلس. ولا أريد أن أخوض في الحدثين ولكنني لا أستطيع أن أهملهما وأنا أضع أدوات هذا الديكور الأولي إطارا لمقالات آتية ستدخل في تفاصيل المشكلة الصحراوية ولعبة دول المغرب العربي، بما فيها الدول المغربية إزاءها، ولكنني لا أرغب في الإطناب بشأنها إلا من زاوية علاقتهما بالحسابات التي ستجريها الأطراف المختلفة بشأن المغرب وتقيم على أساسها استراتيجيتها الصحراوية في السنوات اللاحقة الأطراف التي أقصدها هنا هي الدولة المغربية، وليبيا والجزائر ثم جبهة البوليساريو.
ومثل ما حدث بعد انتفاضة الدار البيضاء، بادرت الدولة بفتح مفاوضات سياسية مع قادة الكتلة الوطنية، أي حزب الإستقلال والإتحاد الوطني آنذاك، ولوحت لهم بإمكانية تشكيل حكومة ائتلاف وطني. ومهما قيل عن مسؤوليات هذا الطرف أو ذاك في إخفاق تلك المحاولة الأخرى في اقتسام السلطة وتحديد المسؤوليات بين القصر الملكي والحركة الوطنية، فأغلب الظن أن التفسير الذي سمعناه ذات مرة من إحدى الشخصيات المغربية البعيدة عن المعمعة صحيح. لقد ارتأى الملك الحسن الثاني أن يوقف فكرة التعامل مع أحزاب الكتلة الوطنية بعد أن انتبه إلى أنها لا تملك تأثير الأحزاب السياسية الوطنية، كان ثمرة لسياسة «التغييب» و»التهميش» التي انتهجتها الدولة إزاءها في السنوات السابقة.
ستكون أزمة صيف 1971 وأزمة صيف 1972، ومناخ الشك العميق الذي فجرتاه بين الدولة والمؤسسة العسكرية، والقطيعة التي حصلت مع الكتلة الوطنية، ثم الشائعات القوية التي رافقت ذلك كله، ولم تحاول الأجهزة الرسمية المتعودة على احتقار الرأي العام توضيحها، سيكون ذلك كله سببا في تكوين جو من الترقب والإنتظار والحذر في الداخل والخارج، ساهم في توريط ليبيا والجزائر في حسابات وتقديرات خاطئة، وساهم أيضا في دفع جبهة البوليساريو على طريق مشروع الإنزياح الانفصالي.