لقد خاض المغرب تجربة فريدة فيما يتعلق بالعدالة الإنتقالية وطي صفحة الماضي الأليم والتي تميزت بإنتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان والتضييق على البناء الديمقراطي واحتكار شبه كلي للسلطة في مختلف مظاهرها.
إننا عندما نتحدث عن التجربة المغربية، فإننا لا نقدم نموذجا قابل للإستنساخ في باقي دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل هي تجربة أحاطت بها خصوصيات شديدة، لكن هذه الخصوصيات تصلح أن تكون -في طابعها الإجرائي- نموذجا إرشاديا فيما يتعلق ببناء المصالحة في الدول التي تعرف نزاعات ممتدة منذ ما سمي بالربيع العربي.
عناصر خصوصية التجربة المغربية والتي ساهمت في نجاحها إلى حد كبير تتمثل بالخصوص في العوامل التالية:
1- عدم الإختلاف حول طبيعة النظام السياسي المتمثل في النظام الملكي الدستوري.
2- أصالة التعددية السياسية والحزبية الممتدة من مرحلة ما قبل الإستقلال سواء في المنطقة الشمالية حيث تم تأسيس حزبي الإصلاح الوطني والوحدة المغربية، وفي الداخل والجنوب كان هناك حزب الإستقلال وحزب الشورى والإستقلال والحزب الشيوعي المغربي، هذه التعددية ساهمت في غياب الخطاب التخويني بخصوص الإستقلال، وأن الصراعات التي عرفتها السنوات الأولى للاستقلال سرعان ما تم إخمادها، حتى قبل أول دستور وانتخابات عرفتها البلاد بداية الستينات، بحيث لم تجري الإنتخابات على خلفية تلك الصراعات.
3- التأطير المبكر لعمل المجتمع المدني والأحزاب السياسية والنقابات والنشر والإعلام، وذلك عبر ظهير الحريات العامة الذي صدر سنة 1958 في عهد حكومة احمد بلافريج الأمين العام آنذاك لحزب الإستقلال ، والذي كان سابقا على إقرار أول دستور في المغرب سنة 1962، هذا التأطير المبكر سمح ببروز مبادرات وتيارات مختلفة تشتغل في واجهات متعددة، كما ساهم في خلق ثقافة “الحريات العامة” وحدود هذه الحريات في العلاقة مع الآخرين.
4- لم يكن هناك صراع مسلح مع السلطة، حيث حافظت المعارضة على طابعها السياسي السلمي، والأحداث المتفرقة التي عرفتها بعض المناطق والتي حاولت إعتماد ثورة مسلحة، فشلت فشلا ذريعا، بل في لحظة من اللحظات عززت الطابع السلطوي للنظام وقدمت له مبررات مجانية لذلك.
5- أيضا الاختلافات بين الأحزاب والقوى السياسية حافظت دائما على طابعها السلمي، ولم تنتج أية أحقاد بين القوى السياسية أو المناطق التي تشكل معاقل لهذه القوى، مع إستثناءات محدودة ميزت صراع القوى السياسية في الجامعات، حيث سجلت أحداث مؤسفة، لكن لم يكن لها تأثير على المجتمع ككل، بل إن الأمر لم يكن يتجاوز أسوار الجامعات والأحياء الجامعية.
6- غياب تعددية دينية ومذهبية، مع حضور يهودي في المدن الكبرى تقلص بشكل كبير منذ هجرت جزء كبير من اليهود المغاربة، إما نتيجة الدعاية الصهيونية أو نتيجة بعض الأحداث المتفرقة التي جعلت عددا من الأسرة ذات الديانة اليهودية تفضل الهجرة خارج البلاد، وقد توزعت هذه الهجرة بصفة أساسية في إتجاه كل من إسرائيل وفرنسا وكندا، لكن الغالب في الحياة الدينية للمغاربة هو التسامح والعيش المشترك مع المغاربة اليهود.
7- الإرتباط العضوي الذي كانت تشهده قوى المعارضة مع منظمات المجتمع المدني النشيطة في الجانب الحقوقي وتلك التي تعمل على الواجهة النقابية، إضافة إلى نسيج واسع من الجمعيات التي تشتغل في مختلف المستويات على الصعيد الوطني، هذا الترابط ساهم في إنسجام وتكامل المبادرات المدنية والسياسية التي كانت تسعى إلى نزع الطابع السلطوي عن الحكم.
هذا العوامل مجتمعة -وعلى أهميتها- لم تكن لتحقق النتائج التي وصل إليها المغرب، لو لم يكن هناك نظام ملكي يجمع الشرعية الوطنية والتاريخية بالنظر إلى الدور الوطني الكبير الذي قام به الملك الراحل محمد الخامس، والذي تم نفيه هو أسرته إلى مدغشقر على غرار باقي قادة الحركة الوطنية مثل عبد الكريم الخطابي في مصر وعلال الفاسي في الغابون ثم مصر.
إضافة إلى الشرعية الوطنية والتاريخية فالملك هو أيضا أمير للمؤمنين، و هذا الأمر جنب البلاد ظهور تيارات الإسلام السياسي بنفس المضامين المتشددة الموجودة في الشرق الأوسط، أو على الأقل قامت وتقوم بلجم أهدافها الحقيقية.
هذه الشرعيات المتعددة والتي تتعزز بصورة يومية بشرعية الإنجاز التي تتمثل في حجم الإصلاحات الاقتصادية والإجتماعية التي واكبت عملية العدالة الانتقالية، ساهمت في تيسير عملية المصالحة وبناء العدالة الانتقالية، فعندما يوجد حاكم يجيد قراءة التحولات الداخلية والخارجية، ولديه خلفية وطنية ودينية متنورة، فإن عملية التغيير تملك شروط النجاح.
قد لا يكون هذا النجاح مستمرا بصورة آلية، ولكنه نجاح حقيقي يعبر عن قناعات حقيقية لدى كل الأطراف الرئيسية في عملية التحول الديمقراطي، وبالطبع قد يواجه صعوبات أو رغبات نكوصية تحركها جهات ترى أن مصالحها مهددة من دينامية المصالحة والتحول الديمقراطي، هنا يجب على جميع أطراف التحول؛ ورغم إستمرار الخلاف بينها في بعض القضايا، أن تبقى على إستعداد لمواجهة أي جهة تريد العودة إلى الممارسات السلطوية السابقة.