عرفت امتحانات الباكالوريا في هذه السنة أزمة كادت أن تتحول إلى كارثة، ما يؤكد أن كل “الإصلاحات” التي تمَّ إجراؤها لحد الساعة لم يكن لها أي أثر إيجابي على مدرستنا، وأن جبال الأموال التي أٌنفقت عليها قد تبخرت دون أن يعرف الشعب المغربي أي شيء عن كيفية صرفها. ولم تبق دار لقمان على حالها فحسب، بل ازدادت أوضاعها سوءا، ما يطرح المزيد من علامات الاستفهام حول حسن نية المسؤولين…
يجد المتأمل في مدرستنا العمومية أنها لا تُمارس “التقويم” حسب أصوله، ما يكشف أن قِيَّمها التعليمية معكوسة، حيث تعتقد أن الامتحان غاية، فسارت أمور التعليم على هذا الفهم الخاطئ إلى أن أصبح جزءا من عقلية السلطة والمدرسة والمجتمع في آن. فالتلميذ عندنا يُوجَّه إلى الامتحان وليسَ إلى العلم والتعلٌّم، والمهم هو أن يجعل من الامتحان غايته الأساس. وتصور المدرسة للتقويم على هذا النحو ينسف التدريس والتعلٌّم في آن، إذ ينشأ التلميذ على مفهوم مقلوب لكل شيء. وهذا أحد العوامل التي جعلت شبابنا ينشأون على الاهتمام بالامتحان مع أنه تافه، ويعرضون عن العلم والتعلُّم مع أنهما أفضل ما في الحياة (طه حسين).
هكذا صار التلاميذ لا يشتغلون من أجل التعلُّم، وإنما للحصول على النقطة أو العلامة التي تمكِّنهم من تجنب عقاب آبائهم، علما أن التقويم يتعارض جذريا مع تحقير التلميذ الذي يؤدي إلى القضاء على ثقته في ذاته مع أنَّ هذه الثقة هي المحرِّك الأساس للتعلٌّم. لذلك ينبغي التقويم دون هدم قيمة المتعلم، بل من أجل الرفع من شأنها…
يتعلم تلاميذنا فقط معرفة تطبيق حِيَّل ووصفات جاهزة يتم، في أحسن الأحوال، حفظها عن ظهر قلب بدون إدراك معناها… وبذلك، فهم لا يتعلمون بذواتهم ولا لأجلها، ولا يستطيعون معرفة الآخر والعالم، ولا التعامل معهما…
نحن أمام اختيارين يقتضي أولهما حفظ الدروس وإنجاز تمارين تطبيقية بشكل آلي، ويقوم ثانيهما على منهاج دراسي يمكِّن من تطوير تصورات تدريسية تحفز المتعلِّم على ممارسة تعلٌّمه عبر بناء معارفه وذاته وقيَّمه… يؤدي الاختيار الأول إلى حصول التلميذ على علامة مرتفعة دون أن يتعلم شيئا، فيما يساعد الاختيار الثاني المُتعلِّم على التعلُّم وبناء معارفه… لكن، هل غاية المدرسة اليوم هي تمكين التلميذ من التعلُّم؟
لقد أحدثت وزارة التربية الوطنية مديرية خاصة بـ “التقويم…” مفصولة عن مديرية “المناهج…”، فضخَّمت الامتحان دون أن تعي أنه لم يعد مقبولا اليوم فصل التقويم عن تدريسية المادة الدراسية، لأنه جزء لا يتجزأ منها، والفصل بينهما لا يستقيم إبستمولوجيا، لأنه يفيد عدم معرفة طبيعة مختلف الحقول المعرفية والافتقار إلى تدريسياتها… وإذا كان المسؤولون يفتخرون باستعمالهم للمعلوماتية في تخزين علامات التلاميذ، فغياب تصور للمنهاج الدراسي ولتدريسيات منسجمة معه روحيا تجعل تلك العلامات غير ذات معنى…
لذلك لا تمارس مدرستنا التقويم بمعناه السليم، وإنما تمارس الامتحان. كما أن وضعَ الأغلبية الساحقة لامتحاناتها الموَّحدَة، بما فيها “الامتحانات الأكاديمية”، لا يستندُ على أي حجة ديداكتيكية، ولا يُستفادُ منه تدريسيا… ويبدو واضحا أن مبرر وجود تلك المؤسسات هو مالي وسياسي أساسا، إذ الهدف منها هو التحكم في تدفق التلاميذ نحو التعليم العالي، وتجنب توسُّعه لاعتبارات مالية وسياسية، وهذا ما يجعل ظاهرة التكرار والعنف والتحايل والغش نتيجة مباشرة للسياسة التعليمية المتعبة في بلادنا. إلا أنَّه إذا كان المسؤولون يخافون من كلفة التعليم، فكلفة الجهل المالية والاجتماعية والسياسية أكبر من ذلك بكثير. أضف إلى ذلك أن المعرفة دواء وليست داءا…
كما أنَّ المسؤولين عن المدرسة لا يملكون مشروعا للمدرسة، إذ لم يراكموا أي تنظير أو إبداع في هذا الشأن، ولم يقوموا بأي تجريب للاختيارات التي يتبنَّونها. وبذلك، فنحن أمام “خطاب تربوي” لم تُحترم في تطويره القواعد المعمول بها كونيا، الأمر الذي قاد تلاميذنا إلى الوقوع تحت طائلة الرغبة الجامحة في الحصول على نقط مرتفعة فقط لإرضاء آبائهم، وجعلَ التدريس في نظر التلاميذ والمدرسين مجرَّد تحضير للامتحان، فأصبح الأوائل لا يذهبون إلى المدرسة ليتعلموا، وإنما ليُمتحنوا! وهذا ما ساعد على استفحال ظاهرتي الغش والدروس الخصوصية التي تُدَرِّب التلميذ آليا على الامتحان دون اكتساب القدرة على بناء المعرفة واستيعابها، فأفضى هذا إلى تنشئتهم على الاقتصاد في الجهد والتحايل سعيا لـ “النجاح”، وصارت مدرستنا لا تشجع على الاستقلال الذاتي للتلميذ، وإنما على إتقانه لفنون التحايل والمراوغة والغش، لأنها أجبرته على السعي إلى النجاح بدون تعلٌّم…
الأصل في التقويم أنه مفهوم إيجابي يُوضَعُ في انسجام كامل مع روح المنهاج الدراسي وتدريسية مختلف المواد الدراسية، والهدف منه هو تمكين المدرس من تقويم عمل المتعلمين وعمله، حيث يلزمه إعمال خياله لإعادة النظر في ما قام به ليضمن تفاعلا سليما خلال سيرورة تدريسه، وإكساب التلاميذ القدرة على بناء معارفهم وذواتهم وقيَّمهم على نحو يُمَكِّن الاثنين من التطور والنمو… وبذلك فإن التقويم المحايث للتدريس والثاوي فيه بشكل مستمر يساعد على تقليص نسبة التكرار وتجنب مغادرة التلاميذ للمدرسة…
بسبب ما سبق، لم تعرف مدرستنا تحولا ثقافيا عميقا، إذ جعلت أغلب مدرسينا يستعملون نفس الطرائق التي مورست معهم وعليهم عندما كانوا أطفالا صغارا. فقد كان مدرسوهم ينقلون إليهم المعارف ليخزنوها في ذاكرتهم آليا دون إدراك معانيها أو القدرة على الاشتغال بها لأنهم لم يكونوا يشاركون في بنائها… وإذا كان بعض المشرفين والمدرسين اليوم يرفضون هذه الطريقة ويبذلون مجهودا من أجل تحفيز تلاميذهم، فنظام الامتحانات والتنقيط (لا التقويم) يحتل مركزا أساسيا في العملية “التعليمية-التعلمية”، حيث يتحكم فيها ويُحَدِّدُها عوض أن تكون مُحدِّدة له وأن يكون هو مُكَوِّنا من مُكوِّناتها، وهذا يُحَجِّم استعمال المدرس لخياله ويقلص اجتهاده إن لم يقض عليهما.
مهما كان تكوين المدرسين مهنيا وأكاديميا فمدرستنا تعاملهم كما لو كانوا عمالا في معمل، إذ تقوم وظيفتهم على تطبيق البرنامج الدراسي حرفيا، وهم يفعلون ذلك في غياب أدبيات واضحة تعلِّل ما يُطلب منهم القيام به… وهذا ما جعلهم لا يفهمون غالبا ما يُنجزونه، مما يجسد عدم قدرة مدرستنا على إنتاج معرفة حول ذاتها ولذاتها، وإحداث تراكم في مجال الإنتاج الديداكتيكي… وعندما لا تعرف المؤسسة نفسَها ولا تحاول توظيف مختلف العلوم لإنتاج خطابها، فهي لا يمكن أن تُدَرِّسَ المعرفة…
ونظرا لعدم فهم طبيعة التقويم والتدريس وغيرهما من المفاهيم التربوية الأخرى، فقد تقرر انخراط إدارة الأمن الوطني والقضاء لتحديد المسؤولين عن تسريب مواضيع امتحان الباكالوريا. وهذا ما يدعو للاستغراب، إذ لا يمكن حلُّ مشكل تربوي بالتدخل الأمني واللجوء إلى المسطرة الجنائية، لأن المشكل المطروح عندنا هو مُشكلٌ ديداكتكي ناجم عن اختيارات غير مدروسة لا يعي المسؤولون عواقبها الوخيمة حالا واستقبالا. فتطبيق المسطرة الجنائية لا يحل مشكلة أي نوع من أنواع الغش المدرسي، بل يجب تغيير التصور التربوي المتسبِّب في هذه الآفة التي ليست من فعل فاعل ولا موظف ولا تلميذ ولا أستاذ، وإنما هي ناجمة عن الاختيارات التربوية لبلدنا التي يجب مراجعتها وإعادة النظر فيها، وإلا فستظل مدرستنا تربٍّي ناشئتنا على الغش، ما قد يؤدي إلى إشاعة ثقافة الغش والفساد في المجتمع…