رأى ابن خلدون في مُقَدِّمَته أن السلطة تصنع لأصحابها المال، فتحدَّث عمّا أسماه بـ “الجاه المفيد للمال”. وأظن أن هذه العبارة لا زالت تنطبق على ما يجري اليوم في واقعنا، وكأنَّ لا مسافة زمنية تفصلنا عن زمن هذا المؤرخ الكبير، مع أنَّ تأمُّل الأمر يفضي إلى أنه يتعارض مع ما يحدث في البلدان الأخرى التي استطاعت تحديث ذاتها وبنائها ديمقراطيا…

إذا كان الناس في هذه البلدان الأخيرة يبنون الثروات ويراكمون المال عبر الإنتاج والصناعة والتجارة والبحث العلمي، وما إلى ذلك، فقد انتبه ابن خلدون إلى أن ظروفنا وأحوالنا تختلط فيها “التجارة” بـالسلطة، حيث يخلق بعض الناس، عبر توظيف مناصبهم السياسية ونفوذهم، أوضاعا تُمكّنهم من الحصول على المال والمغانم وتكوين الثروات ومراكمتها بسرعة فائقة، وهو ما يسمَّى عادة بـ “ريع المنصب” الذي تحوَّل إلى ظاهرة، حيث خلقت الأغلبية الساحقة من أصحاب الأموال عندنا ثرواتهم بواسطة مواقعهم في السلطة أو لكونهم أقرباء لأهلها أو مقربين منهم…

ويرى أغلب المتتبعين أن خصائص عمليات التراكم الرأسمالي في مجتمعنا وغيره من مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” لا علاقة لها بالتراكم الفكري والعلمي، ولا بالتراكم الإنتاجي، ما جعل المُمسِكين بزمام أمور السلطة وهياكلها ومكوِّناتها يتحملون مسؤولية كبرى في “إنتاج الفساد وإعادة إنتاجه”، والحيلولة دون حصول تراكم طبيعي كما حدث في المجتمعات الديمقراطية…

تبعا لذلك، لا يمكن وضع حدود فاصلة بين “التجارة” و”السلطة” في ظل ظروف تنعدم فيها الديمقراطية الفعلية، حيث نلاحظ في مجتمعنا أن الأغنياء يسعون باستماتة إلى احتلال المواقع السياسية لتيسير المزيد من مراكمة الثروات بدون عِلم أو عمل أو إنتاج وحماية ذواتهم. إنهم لم يقرؤوا “مقدمة” ابن خلدون، بل إن أغلبهم لم يسمعوا بوجود هذا الكتاب وربما لا علم لهم بصاحبه أصلا. ومع ذلك، فقد استطاعوا عبر تجربتهم وملاحظاتهم لما يحدث في بيئتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن يدركوا أن السلطة تصنع المال لأصحابها، وأن هذا الأخير تابع لها.

وتتجلى اليوم أهم مكونات “رأسمالية الفساد” عندنا في اتخاذ السلطة لقرارات إدارية يتم بموجبها منح رخص وتسهيلات وامتيازات وأراض لبعض الأشخاص بأسعار رمزية جدا، ما يجعلها، في الواقع، مجرد “عطايا” يتم استخدامها فيما بعد في عمليات المضاربات العقارية التي تذر أموالا خرافية عليهم…

وتدخل عمولات عقود البنية التحتية ضمن مكونات هذا النوع من “الرأسمالية”، كما توجد عمولات وإتاوات يتم الحصول عليها بحكم الاتجار بالمنصب أو الوظيفة العليا، ما يعني الاستفادة مما يُسمَّى بـ “ريع المنصب”. بالإضافة إلى ذلك، هناك رشوة نقدية وعينية وغيرها من المدفوعات الخفية لتسهيل مصالح غير مشروعة والحصول على “امتيازات خاصة”…

وجدير بالذكر أن ممارسات الفساد ليست مجرد ممارسات فردية خاصَّة، بل إنها قد أصبحت ظاهرة خطيرة، حيث أخذت شكل شبكات منظمة، فتحوَّلت إلى مؤسسة أو مؤسسات حاضرة في أغلب المجالات والأمكنة.
ولعلَّ ما يتردد عندنا من أخبار وقائع الفساد على صفحات الصحافة الورقية والإلكترونية ومختلف مواقع التواصل الاجتماعي، وما يتم تداوله في مختلف المجالس يكشف عن تفاحش قِيَّم الفساد وسلوكاته في مختلف مجالات حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لذلك، يبدو واضحا للعيّان أن السياسة قد تحوَّلت لدى البعض منا إلى تجارة، حيث أصبحنا نرى الأغلبية الساحقة من أعضاء “الزعامات السياسية” وما يسمَّى بـ “النخب المحلِّية” في مجتمعنا قد صاروا أثرياء جُددا. كما بات المُهرِّبون والمضاربون أنفسهم يسعون إلى بناء علاقات مع أصحاب السلطة لكي يحموا ذواتهم وممارساتهم… هكذا، فقد أدى التعميم الشبه الكلِّي لقاعدة الفساد والمحسوبية إلى جعل “الواسطة” قانونًا عاما للحصول على كل شيء، ولم يتسبب ذلك فقط في جمود المجتمع وتكلُّسه، بل أدى إلى إفساده وتخريبه…
وتأخذ المسألة مدى أبعد وأخطر بالنظر إلى أن الفساد يحمي استمراريته الخاصة من خلال الحيلولة دون المأسسة الفعلية للدولة والمجتمع، ما يخرب الدولة والمجتمع والاقتصاد، ويجعل الوطن بدون أفق ولا مستقبل.
وهذا ما يقتضي تحوُّلا ديمقراطيا للدولة والمجتمع في آن، لأنه وحده الكفيل بتوسيع الفضاء الديمقراطي الذي ينشر بدوره ثقافة المساءلة التي ينبغي أن تقوم بها المؤسسات المنتخبة والأجهزة الرقابية، ومختلف تنظيمات المجتمع المدني…

*الثلاثاء 14 يونيو 2016.

‫شاهد أيضًا‬

الخلاف والاختلافأو الفصل بين الواحد والمتعدد * الدكتور سعيد بنكراد

عن موقع سعيد بنكراد  يميز المشتغلون بأصول الفقه عادة بين أربعة مستويات في تناول النص ومحاو…