كيف يمكن التفكير في الشيخوخة كحالة اجتماعية، وليس كحالة فردية، في عالمنا العربي؟. إنه واحد من الأسئلة الجديدة، التي بدأت تفرض نفسها على الفرد العربي المسلم في النصف الأول من القرن 21، بذات الشكل الذي طرحت فيه على الفرد في المجتمعات الصناعية (خاصة بأروبا واليابان) خلال القرن 20 ولا تزال.
صحيح، كما قال مرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، أنه “أن تشيخ ليس فنا، بل تحمل ذلك”. وهي مقولة تكاد تنطبق علينا نحن العرب المسلمون، أكثر من غيرنا ضمن التجارب المجتمعية بالعالم. لأن شيخوختنا، الزاحفة، تعتبر مشكلا ديمغرافيا وتنمويا وأمنيا، بذات الشكل الذي كانت فيه غلبة الشباب على هرمنا السكاني خلال الأربعين سنة الماضية (ولا يزال الأمر فعليا، بهذا القدر أو ذاك، بعدد من البلدان العربية كمصر والجزائر) مشكلا ديمغرافيا وأمنيا. والتحدي القادم في كل جغرافياتنا العربية، هو كيفية تحمل فاتورة شيخوخة مجتمعاتنا. ولعل الأرقام الإحصائية للسكان ببلداننا مفيدة هنا جدا، هي التي تجعلنا نكتشف مثلا أن نسبة المواليد في بلدان مثل المغرب وتونس ولبنان، قد تقلصت كثيرا مقارنة مع ما كان عليه الحال في بداية الستينات من القرن الماضي. وهو تقلص متواصل كل خمس سنوات، بسبب تبدل في الوعي الإجتماعي العام للفرد بهذه البلدان. بدليل أنه في المغرب مثلا، تقلص هذا الرقم كمعدل عام (مع ضرورة التمييز بين المدن والبوادي) من 3 أطفال للأم الواحدة في الثمانينات، إلى طفلين في سنة 2002، إلى طفل واحد في 2014. والسر كامن في معطى آخر، هو تراجع نسبة الزواج في هذه البلدان لأسباب اقتصادية وأسباب ثقافية سلوكية أيضا، واتساع هرم العزوبية.
بالتالي، فإن التفكير في الشيخوخة، خلال الخمسين سنة القادمة، عربيا وإسلاميا، أمر جدي تماما. خاصة مع موجة الهجرات العربية التي تمت خلال الخمسين سنة الماضية، لأسباب اقتصادية واجتماعية، أو التي تتم الآن بسبب الحروب الأهلية في أغلب بلاد المشرق العربي وصولا حتى إلى ليبيا ومرورا بمصر. ومن يقول الشيخوخة، فهو لا يقول فقط دورة الإنتاج التنموية بالمجتمع، بل رزنامة كاملة من القيم والسلوكات، وأيضا فاتورة هائلة من الواجبات الحمائية اجتماعيا وصحيا وأمنيا، التي يجب أن تتحملها الحكومات والميزانيات السنوية العامة. ولعل القلق كل القلق، آت من أن غول الشيخوخة القادم هذا، سيكون في بلاد غير متأسسة على قيم تضامنية، تكافلية، وعلى قيم خدمات اجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الصناعية. هنا، كل الخوف هو أن يتسع تغول المجتمعات العربية، إن لم نقل تفسخها.
إن التفكير في الشيخوخة، عربيا وإسلاميا، خاصة في مجتمعات مثل المغرب ومصر والجزائر والشام والخليج، هو حاجة فكرية تأملية معرفية. لأن مجال التبدل القادم، سيطال مجالات القيم والسلوك، خاصة وأن التحدي الآتي، هو الزحف الديمغرافي الصاعد من الجنوب الإفريقي، الذي نسبة الخصوبة فيه عالية جدا، إذا ما قورنت بحال التوازن بين نسبة المواليد ونسبة الوفيات ببلداننا العربية والإسلامية. فإذا كان معدل ما تلده المرأة بالمغرب اليوم هو 1.7 طفل لكل امرأة، فإنه في أغلب دول إفريقيا بدول الساحل وجنوب الصحراء يصل إلى 7.5 طفلا لكل امرأة. مما يعني، أن التركيبة الديمغرافية الآتية خلال ما بعد 2050، بمنطقتنا العربية من طنجة حتى بغداد، ستكون تركيبة تصنعها الهجرة الإفريقية من الجنوب الخصب بالمواليد صوب الشمال الضعيف الولادات والمرتفع الوفيات. وهو ذات ما تعيشه بلدان أروبية مثل ألمانيا وهولندة والنمسا، منذ 25 سنة، حيث نسبة وفياتها أكبر من نسبة مواليدها.
ها هنا، يكمن، معنى التفكير في الهجرة في علاقتها بالشيخوخة الزاحفة ببطء، في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، خاصة بشمال إفريقيا ومصر. التفكير فيها كآلية لتبدل القيم آتية. والتفكير فيها، كمعطى إنساني، بما ينتجه من تحديات على مستوى تنظيم الفضاء والخدمات العمومية، وعلى مستوى تنظيم المجال وعلى مستوى صناعة القرار السياسي السيادي لبلداننا العربية. ولعل ما يخشى هنا، هو أن النخبة السياسية في بلداننا، في الدولة والمجتمع، لم تستوعب بعد كل هذه التحديات. وأن الطريق الوحيدة من الآن، هي إعادة موضعة البنى التدبيرية، ونوعية القرار السياسي، بما يحقق حماية للذات على مستويات القيم السلوكية وعلى مستويات الأمن العام، التي لا سبيل للفوز فيها سوى بسلاسة الإندماج في منظومة التحولات العالمية كقيم كونية.
غير ذلك، سيكون مزيدا من التغول، من الإنغلاق، من التخلف ومن السقوط فريسة لحسابات قوى عالمية أكثر تنظيما وفعالية، ذات رؤية استراتيجية واضحة ودقيقة.