يظن كثيرون أنني أبالغ بإلقاء اللوم على الثقافة الإسلامية المورثة، وألقي على عاتقها بكل أسباب تخلفنا كمسلمين وعرب، لكن أثر هذه الثقافة على تكوين العقل العربي الجمعي لا يخفى على أحد، إضافة لتبعاتها في طريقة تعاملنا مع الرسالة المحمدية، لا سيما من حيث تقدم الحديث واحتلاله موضع الصدارة على حساب تراجع التنزيل الحكيم كأهمية للمرتبة الثانية، واكتفاءنا به ككتاب ندخله أفراداً إلى منازلنا الجديدة و نتلوه في الأحزان، ونحصي مرات “ختمه” وحفظه في رمضان، في حين أن الدول اهتمت بإقامة المعاهد والمسابقات لتحفيظه والجوائز لخطاطيه، لكن أحداً لم يولِه المكانة التي يستحقّها من الدرس والتمحيص، وتم الاكتفاء بتفاسير السلف الصالح دون الحاجة لجهد أو عناء.
وبناءً على ذلك، جرى اعتبار القصص القرآني كتاباً في التاريخ، يسرد الحوادث بترتيب زمني لمجرد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، أو لإخبارنا ماذا فعل زيد أو عمرو، كأي كتاب وضعه أحد المؤرخين، وهذا خطأ كبير، فالقصص القرآني، بما فيه المحمدي، هو تفسير للتاريخ وقوانينه، وخط سيره بالمعارف والتشريعات، وفيه إيراد للظواهر الفكرية والسياسية والاقتصادية لا كحدث تاريخي بل كقوانين تاريخية، إما ناظمة وغير قابلة للتصريف، كقانون هلاك الحضارات مع الزمن، حيث الأزمات الاقتصادية من الأسباب الرئيسية لذلك {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف 130)، إضافة للامتيازات الطبقية {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء 16)، أو كقوانين مفتوحة قابلة للتصريف الإنساني، كالحديث عن الطغيان السياسي والاقتصادي للتأمل والاعتبار {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ* فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} (القصص 39-40).
كذلك نتيجة للثقافة الإسلامية الموروثة جرى الاهتمام بالسيرة المحمدية وفق طريقتين:
– الأولى عبر حياة محمد كرجل، ما يحب وما يكره من الطعام والشراب، وعلاقته الخاصة مع زوجاته، فتمت المبالغة في التلفيق والخيال، والإساءة لشخصه أكثر مما نتصور.
– والثانية عبر الخلط بين مقامه كرسول ومقامه كنبي، فأصبحت اجتهاداته في تنظيم أمور المجتمع والقضاء وقيادة الجيش تحمل الطابع الأبدي، دون الفصل بين المقامين، بما يحمله مقام الرسالة من عصمة محصورة فقط بإبلاغ الرسالة، وطاعة في الشعائر، وما يحمله مقام النبوة من أهمية، كون محمد أول رسول يؤتى السلطة، لم يؤتها أي رسول قبله، فموسى هدم سلطة فرعون ولم يبن أي سلطة، وعيسى لم يتدخل في أي سلطة، بينما مارسها محمد مدعوماً بالوحي وفق الشروط الموضوعية السائدة في عصره.
وكباقي القصص القرآني ندرس القصص المحمدي لاستنباط العبر، فحوادث تلك الحقبة قد انقضت وانقضى زمانها، ولا يمكن تكرارها تاريخياً لاستحالة تحقق الظروف ذاتها، لكن يجب النظر بها والتمعن بغية الاستفادة منها، بصفتها شكلت قفزة معرفية في حينها، مكنت النبي من بناء دولة فتية في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي من خلال السير وفق قاموس ثوري معين، وعلينا دراسة بنوده لنستشف كيف يطبق اليوم، فنجد أن:
- طرحه الإيديولوجي كان شاملاً للكون والحياة والإنسان، وذكر هذا الطرح في مكة، حيث نجد أن معظم الآيات التي تبدأ ب {يا أيها الناس} هي مكية، لذا قال تعالى أن القرآن {هدىً للناس} بينما الكتاب {هدىً للمتقين}، وغطى هذا الطرح الوجود كله: الله، الكون، الإنسان، نظرية المعرفة الإنسانية وغيرها، ومفاهيم الدولة والشعب والأمة والقومية والأخلاق، وأي طرح إيديولوجي وفلسفي لا يمكن أن يكون إلا إنسانياً.
- هذا الطرح جاء في مكة بلسان عربي مبين، فهمه العرب نسبياً وفق أرضيتهم المعرفية، وكان طرحاً متقدماً وشاذاً عن قاعدة “التراكم المعرفي يؤدي إلى قفزات تشريعية”، إذ جاء التشريع حدودياً متقدماً على أعراف العرب وأوضاعهم وسقفهم المعرفي، ودرجة النمو الاقتصادي والاجتماعي واحتياجاتهم التشريعية، وإذا فهمنا نحن القرآن وفق الأرضية المعرفية للقرن الذي نعيش فيه، فسنتوصل إلى طرح متقدم على ما كان ومازال سائداً عند العرب والمسلمين.
- كان الطرح قوياً في مضمونه حسب ما فهمه العرب في ذاك العصر، لكنه كان أيضاً مجرداً وسابقاً للمستوى المعرفي للقوم الذي أنزل إليهم، فالرسول جاء بتغيير ثقافي جذري وقفزة معرفية كلها غيبيات بالنسبة له (القرآن)، وكذلك قفزة تشريعية لم يتم تطبيق كل تشريعاتها في عهد النبوة.
- انطلاقاً من هذا الطرح تشكل تنظيم طليعي (مرحلة دار الأرقم بن أبي الأرقم) ابتدأ سرياً، ثم انطلق إلى العلن ملتزماً التزاماً كلياً بالنضال السلمي، فكان يطرح الأفكار التي يهرب منها المشركون، لكنه يتلقى الصدمات القتالية دون مواجهة العنف بالعنف، لا سيما أن الظروف الموضوعية لتلك الفترة لم تسمح لهم بذلك، حتى أنهم اضطروا للهجرة السرية إلى الحبشة.
- جابه الملأ الطرح الجديد بكل أساليب القمع والتعذيب الجسدي والنفسي، والحصار الاقتصادي، وما كان من المؤمنين إلا الصبر والإيمان بالقضية التي حوصروا لأجلها، مع استعمال كل الوسائل المتوفرة لدعوة الناس ونقاشهم ضمن الأطر المتاحة، مثل “دار الندوة” و “سوق عكاظ”، إضافة إلى وسائل الإعلام الممكنة (الشعر).
- اللجوء إلى كل أساليب الخدعة والتمويه مع الأعداء، لكن ضمن إطار القيم الأخلاقية، بعدم سبي النساء أو الأطفال أو السرقة وغيرها.
- المرونة في النقاش، والتكتيك في السياسة (صلح الحديبية)، دون التساهل في المبدأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ* لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}.
- البحث عن حيز جغرافي (يثرب) ضمن شبه الجزيرة العربية، لإقامة مجتمع صغير مسيس ضمن الطرح الجديد.
- انتقلت الثورة بعد الحصول على الأرض إلى مرحلة النضال الإيجابي (المسلح)، وبدأت الحرب الأهلية مع الالتزام التام بالقيم الأخلاقية، وعدم إغفال العلاقات الدولية (رسائل النبي إلى الملوك).
- الحفاظ على وحدة الأرض من الأعداء الخارجيين، فالنبي (ص) خشي من هجوم الروم بعد غزوة مؤتة، فذهب بنفسه على رأس جيش إلى تبوك.
- فيما كانت الآيات المكية إنسانية، بدأ التشريع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المدينة، فمعظم الآيات المدنية تبدأ بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا}، وتشكل الكيان السياسي للمجتمع النبوي، وصار النبي يجتهد لعصره (القانون المدني) وفق الظروف والأرضية المعرفية السائدة.
- الاعتماد في قيادة العمل الثوري على أكثر الناس تحضراً في المجتمع (قريش والأنصار)، فقادوا الحروب ضمن التزام عقائدي كامل، مع ملاحظة نقطة في غاية الأهمية وهي أن هؤلاء الأشخاص الذي تحملوا أقسى المشقات كان لهم أعلى التقدير من حيث القيمة بعد الفتح، لكنهم متساوون مع باقي الناس في الحقوق والواجبات والقانون.
- السلطة السياسية هي أعلى سلطة في الدولة، والنبي (ص) هو القائد الأعلى لها، لكنه لم يتول القيادة العسكرية إلا في الأمور الكبيرة، والقرارات التكتيكية كانت متروكة للقادة العسكريين أنفسهم، دون تدخل السلطة السياسية، (ابتدأ حكم العسكر في العهد العباسي بعد المتوكل واستمر إلى يومنا هذا).
- القضاء على نظرية الحق الإلهي للحاكم في الحكم، بل {َأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى 38)، وممارسة الديمقراطية كأداة للشورى، حيث الحركة بين الحدود هي الأساس في التشريع، والحرية هي القيمة العليا للإنسان، مع وجود مرجعية أخلاقية ومعرفية وجمالية واحدة للسلطة وأفراد المجتمع، أسست لبذور ديمقراطية، سرعان ما بدأ زوالها منذ اليوم الأول لوفاة النبي.
- بداية تحرير المرأة وإعطاءها حقوقها (الخطوة الأولى) طبقاً للظروف الموضوعية السائدة في العالم حينها.
- بداية التغيير في العلاقات الانتاجية، ووضع اللبنة الأولى في تحرير الرق، علماً أن إحداث تغييرات مفاجئة في وسائل الانتاج والعلاقات الانتاجية يؤدي إلى كوارث هائلة.
- الالتزام الكامل بالوعود التي تقطعها الثورة للناس مطابقة الأقوال مع الأفعال.
- إبرام معاهدات مرحلية من أجل الوصول إلى الهدف الأساسي، وخفض عدد الأعداء للحد الأدنى (صلح الحديبية).
- يلجأ إلى القتال عند نفاذ الحلول الأخرى التي يمكن تبنيها {المؤلفة قلوبهم}.
- لا تبنى الدول على الحقد، لذلك لم يلجأ النبي إلى الإجراءات الانتقامية عند النصر، بل عفا عمن آذاه {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (النحل 126).
وهذه البنود التي ذكرناها ليست تشريعا، وإنما هي بمثابة العبر التي يمكن استنتاجها من القصص المحمدي، ومن الأحاديث التي لا تتعارض مع ما ورد في التنزيل الحكيم، ومع القيم الإنسانية، حيث استطاع النبي ممارسة قفزة سياسية غير مسبوقة خولها له مقام النبوة.
وباستعراضنا لهذه البنود، نتذكر قول تشي غيفارا “الثورة يقوم بها الأشراف ويرثها الأوغاد”، ونرى ذلك جلياً في ما حصل للثورة المحمدية بعد ذهاب الجيل المؤسس للإسلام، قتلاً أو موتاً، واستيلاء الأمويين على السلطة.
واليوم وقد دخلت الثورة السورية في نفق مظلم، نتيجة عوامل عدة، لست هنا بصددها، إلا أني ما زلت آمل بثورة فكرية قادمة، تستنير بالثورة النبوية، وتعتبر من خطواتها، وهذا لن يحصل ما لم نطيح بالمفاهيم المحنطة، وننظر بعين العصر إلى كامل الموروث الثقافي الذي بين أيدينا، فننفض عنه غبار الجهل والتخلف، ونكشف تلك الرسالة الناصعة التي أتى بها محمد (ص)، بعدها يمكن لتلك الثورة الفكرية أن تحدث قفزة نوعية، فتبني مجتمع العدل والمساواة ودولة القانون.
*عن الموقع الرسمي للدكتور محمد شحرور.