لقد أصبح ضروريا اليوم إعادة النظر في المناهج الدراسية للمدرسة المغربية، ما يتطلب القيام ببحوث تُمكِّننا من إنتاج خطاب جديد يعالج إشكالياتنا التربوية والديداكتيكية بعُدَّة نظرية ومنهجية جديدة تساير روح العصر.
ويقتضي ذلك أن يتمّ البحث في مواضيع أساسية، يأتي في مقدمتها:
(1) إشكالية علاقة المدرسة المغربية بالمعرفة…
لم يسبق لمجتمعنا أن طرح على نفسه أي سؤل حول علاقة مدرستنا بالمعرفة، إذ لا توجد وثيقة تحدد طبيعة هذه المعرفة ولا أسسها ولا مفاهيمها، ولا أساليب إنتاج هذه المعرفة، ما أسقط هذه المدرسة في تناقضات كبيرة بين طبيعة المعارف المٌدٓرَّسة وطرائق التدريس وأساليب التقويم… حيث قد تكون الأسس التي ينهض عليها كل من هذه المكونات متناقضة جذريا مع طبيعة أسس المكونات الأخرى. كما أن مدرستنا ما تزال تٌدٓرِّس معارف عفا عليها الزمن. بالإضافة إلى ذلك، فنحن لا نواكب المستجدات والقطائع المعرفية في مختلف الحقول العلمية والفنية والأدبية، كما لا ننتبه إلى انفجار المعارف في مختلف التخصصات، ولا نفكر في كيفية التعاطي معه في مدرستنا، حيث لا يمكن التعامل معه في صيغة ركام من المعلومات لا رابط بينها…
إذا كان معلوما أن اكتشاف الكتابة قد أحدث تحولا كبيرا في العلاقة بالذات وبالآخر وبالزمن والمكان وما إلى ذلك، فقد أدت الثورة المعلوماتية إلى حدوث الأمر نفسه في زمننا هذا، ما يقتضي إعادة النظر في التدريس. لكننا نكتفي فقط بالحديث عن ضرورة الاستفادة من هذه الثورة دون أن نتمكن من إدماجها في تدريسية مختلف المواد الدراسية، بما يشحذ ذكاء المتعلمين ويمكنهم من القدرة على الإنجاز والإنتاج… هذا مجالٌ خصبٌ للتفكير والبحث.
(2) لا يمكن فصل القيم عن المعرفة…
لقد تأكد لي من خلال دراسة الأدبيات المدرسية التي تهتم بتدريس التربية على القيَّم غموض مفهوم القيم في مدرستنا، حيث تقوم هذه الأخيرة بالتمييز بين المواد الدراسية الحاملة للقيم وغير الحاملة لها، فاعتبرت، مثلا، أن الرياضيات ليست حاملة لها. تبعا لذلك، يؤكد هذا التصور أن مدرستنا لا تعرف طبيعة المواد الدراسية ولا طبيعة القيم لأنها لا تدرك أن المعرفة هي في حد ذاتها قيمة، كما أن لها جماليتها… أضف إلى ذلك أن الحديث عن التدريسية هو حديث عن علاقات وأدوار وخطابات وأفعال تجسد قيَّما، ما يصعب معه التمييز بين المواد الدراسية الحاملة للقيم وغير الحاملة لها. إضافة إلى ذلك, إنه من الخطأ تدريس التربية على القيم عن طريق جعل التلاميذ يحفظون عن ظهر قلب بعض المواد الدستورية والمواثيق الدولية الحقوقية…، بل إنه يجب بناء القيم من قِبَل المتعلم عبر بنائه لمعارفه وذاته في الآن نفسه. لذلك فإنه لا يمكن فصل بناء المتعلم لقيَّمه عن بِنَائه لمعارفه وذاته. وإذا تم هذا الفصل لن يتمكن المتعلم من الوعي بقيمه وإقامة علاقة عقلانية معها تجعله مقتنعا بها ويتصرف على أساسها بمسؤولية وتلقائية. وبدون ذلك سيتعامل مع ذاته ومع الآخر والطبيعة بأسلوب متقلب ومتناقض حسب طبيعة الظروف والأحوال… نتيجة ذلك، ينبغي معالجة هذه الإشكالية، وإلا لن يكون هناك أي معنى للتربية على القيم في مدرستنا.
(3) ضرورة القطع مع عوائق الذات المتعلمة لتتمكن من بناء معارفها…
الإنسان كائن تلقائي له قابلية لتلقي ثقافة مجتمعه منذ صغره، ما يعني أن التلميذ لا يأتي إلى المدرسة فارغ الذهن، بل يأتي مؤطَّرا بثقافة المجتمع وتمثلات ثقافية لم يتم التحقق منها ولا فحصها، ما يطرح مشاكل ديداكتيكية شتى لأن المُتعلِّم يَفِدُ إلى المدرسة بهذه الخلفية مُعتقدا أنها بديهية، مع أنها في أغلبيتها زائفة. وهذا أمر لا ينطبق علينا وحدنا، بل يسرى على سائر المجتمعات.
يرى “سبينوزاSpinoza ” أن أغلب ما يعتقد الناس أنه حقائق بديهية ليس سوى وعي زائف، وأيديولوجيا وتبريرات، ما يعني أن الإنسان لا يكون واعيا ببواعث سلوكه الرئيسية، ولا متحقِّقا منها عبر فحصها والتحقُّق منها علميا، وإنما هو مسكون بها ومنها ينساب تفكيره وسلوكه تلقائياً حتى وإن توهَّم أنه يعي اختياراته…
يؤكد “مونتسكيو Montesquieu” أن المجتمع هو الذي يُكوِّن وعي البشر ويصوغ عقولهم ووجدانهم وأخلاقهم ويحدّد منظومة قيمهم واهتماماتهم وأسلوب حياتهم بواسطة مختلف مؤسسات المجتمع…
وعندما أكد مونتسكيو ذلك، فهو كان يسير على نهج سقراط الذي كان من أسبق الفلاسفة الذين اكتشفوا زيف الوعي السائد، على نحو ما تؤكده محاورات أفلاطون. كما ساعدت أعمال “سيغموند فرويد Freud” على النفاد إلى “لا شعور” الإنسان وفهم تأثيره في تفكيره وسلوكه، ما يؤكد أيضا أن الإنسان يتشرب ثقافة المجتمع تلقائيا ودون أن يتحقق منها…. وقد أضاءت أبحاث “غاستون باشلار G. Bachelard” الطريق للتمييز بين التفكيرين العامِّي والعلمي، حيث أظهرَ أنَّ الأول يُشكل عوائق إبستمولوجية يلزم وعيها وممارسة القطيعة معها للتمكن من بناء معرفية علمية…
إضافة إلى ذلك، تختلف أنماط الوعي لدى الأفراد والمجتمعات باختلاف الثقافات؛ فما يتشربه الفرد في أي مجتمع هو في الغالب نمط من أنماط الوعي الزائف الذي تنتجه الثقافات المتنوعة التي لم تتكون على أساس البحث العلمي القائم على الشك والاختبار والفحص والتحليل والتحقق والمراجعة والنقد، وإنما تشكَّلت بشكل تلقائي. لذلك، تتوارث الأجيال في كل الثقافات وعياً تكوَّن تلقائياً، اختلطت فيه الحقائق بتضارب الأهواء وتراكم الأخطاء وضبابية التصورات ومغالطات الصراعات والحروب وأحقادها… دون أن تقوم بأي مراجعة موضوعية علمية لذلك الوعي، بل إن العلم ذاته ما يزال إلى الآن نشاطاً استثنائياً ليس له تأثير كبير على أسلوب تفكير الناس، خصوصاً في الثقافات المغلقة التي تخاف التغيير وترفض النقد العقلاني والمساءلة الموضوعية…
وفي حالة عدم الإحاطة بالبنية الثقافية التي يدخل بها التلميذ إلى المدرسة، سيتم اللجوء تلقائيا إلى إضافة معلومات إلى أخرى دون القدرة على توفير شروط ديداكتيكية تمكن المتعلم من وعي عوائقه وبناء مفاهيم، ومن ثمة بناء ذاته وقيَّمه….
فتراكُم المعلومات لا يؤدي إلى تحوٌّل نوعي، إذ ليس العلم تجميع معلومات ومُراكَمة لها، بل هو تغيير تصورات زائفة وبناء أخرى سليمة. فإعطاء معلومات إضافية هو مجرد إضافة أعباء إلى المتعلم الذي هو في حاجة إلى اكتساب أساليب للتفكير والانفتاح على المزيد من التغير الفكري المستمر. وهذا يفترض توفير شروط ديداكتيكية تمكِّن التلميذ من التفكير من داخل المادة الدراسية، ليصبح قادرا على الإلمام بمبادئها وبناء مفاهيمها واكتساب أساليبها في إنتاج المعرفة… ويقتضي هذا خروج المتعلم من النسق الثقافي العامِّي للمجتمع الذي يحمله معه إلى المدرسة، وذلك بخلخلة ما استقر في ذهنه من أوهام…
علاوة على ذلك، توجد اليوم معارف كثيرة رهن إشارتنا، لكن لماذا نعجز عن تحصيلها والإنتاج بها وفيها؟ المعضلة ثقافية أساسا، ومن أدلَّة ذلك أنَّ طلابنا يُسافرون للدراسة في الجامعات الغربية، لكن تأكد أن أغلبهم راكموا معلومات يطبقونها بشكل آلي دون إدراك الثقافة والعقل اللذين تنهض عليهما، ما يحول دون الفهم العميق لمفاهيم حقولهم المعرفية وكذا دون القدرة على إنتاج معرفة بها وتبيُّن حدودها وتجاوزها، ما يشكل أحد عناصر تفسير عجز مجتمعاتنا عن الإسهام في تطوير الحضارة الإنسانية.
يشكل كل ما سبق ورشا كبيرا يُحتِّم انخراط المؤسسات التربوية في تطوير خطابات ديداكتيكية تساعد على الخروج من هذا المأزق. بدون ذلك، سيُواصلُ التعليمُ تكريسَ التخلف والعجز.
(4) وهمٌ هندسة التكوين..
كثر الكلام اليوم عمَّا يسمى بـ “هندسة التكوين”، الأمر الذي يصعب تقبُّله في هذا الزمن، حيث يتناقض هذا الكلام جذريا مع طبيعة مفهومي التربية والتدريس… فهو قد يصحٌّ مع الأشياء لا مع الإنسان والمعرفة، كما أنه يقوم نظريا على “أسس” تتعارض من حيث طبيعتها مع المعرفة الحديثة في مختلف الحقول المعرفية.
تنهض “هندسة التكوين” على مفهوم “الخطاطة”‘، وتعتمد أساسا على الخطِّية والأحادية التي تتعارض جذريا مع النسبية واللا يقين اللذان يطبعان المعرفة اليوم. كما أن الخطِّية تضرب الإنسان في إنسانيته عبر سعيها لتحويله إلى آلة أو شيء، ما يعد اختزالا كبيرا للإنسان والطبيعة والنص والمعرفة التي هي أعقد من أن تستوعبها أيُّ خطاطة، أو أن تقبل الخضوعَ لتعامُل خَطِّي. علاوة على ذلك، تهدف “هندسة التكوين” في العمق إلى القضاء على المكتسبات الفكرية والحقوقية لعصر الأنوار، ما يفرغ المؤسسات من مضمونها الإنساني والحقوقي والاجتماعي…
(5) لا تدريس بدون خيال..
يقتضي العمل بتدريسية مادة دراسية معينة فهم طبيعتها والأسس التي تنهض عليها وكيفية بنائها لكي لا يتحول اشتغال المدرسين بها إلى مجرد تطبيق آلي لخطاطات تقتضي الاتِّباع الحرفي، ولكي يسهل عليهم الرجوع إليها والاشتغال بتصوراتها بما يفضي إلى مساءلتها على نحو يؤدي إلى فهمها فهما عميقا، بل وربما حتى إلى إعادة النظر فيها. ويعود ذلك إلى أنَّ الكتاب المدرسي مهما كان واضحا، فهو لا يمكن أن يُطبَّقَ بشكل آلي وخطِّي لأن طبيعته تناقض ذلك. فنص الكتاب المدرسي لا يدلنا بكل وضوح على كيفية تطبيقه، بل إن ذلك يتطلب من المدرس إخراج نصوص هذا الكتاب بما ينسجم مع روحه وطبيعته وخصائص التلاميذ. وهذا ما يجعل من التدريس تجربة شخصية تستوجب من المدرس إعمال الخيال. بدون ذلك، لن يكون هناك تواصل ولا تفاعل بين المدرس والمتعلمين، ولن يقطع المتعلم مع تصوراته العامِّية، ولن ينخرط بوعي في بناء ذاته وقيمه عبر بناء معارفه، إذ سيكون التدريس مجرَّد إلقاء وإملاء لا يُمَكن المتعلم من تحمل مسؤولية تعلٌّمه وتحوله فكريا ووجدانيا، فينفر من المدرسة لأنه لا يجد أية لذة فيها. هذه إحدى الإشكاليات التي ينبغي دراستها لتوفير الشروط الملائمة لإعادة النظر في المنهاج المدرسي وتكوين المؤطِّر التربوي والمدرس…
(5) الفصل بين التدريس والتقويم غير مقبول..
لا يقبل العقل الفصل الذي تقيمه المدرسة المغربية بين التدريس والتقويم. فهذا الأخير جزء لا يتجزأ من تدريسية المادة الدراسية، بل إنه يمتح منها ويشتغل بمفاهيمها، ولا يختلف معها من حيث الطبيعة. لذلك كلما انفصل عنها أصبح يقوم على أسس قد تتعارض معها، ما يُفيدُ عدم إفادته للمدرس في فهم ما يلاحظه وقراءة ما ينجزه هو وتلاميذه، حيث لن يُعْتٓدَّ بنتائجه. التقويم محايث لسيرورة التدريس وثاو فيها، إذ قد يتطلب الأمر إدخال تعديلات عليها كلما تبين للمدرس أن هناك انحسارا في التواصل بينه وبين المتعلمين. وإذا لم تتم الاستجابة لذلك، فلماذا يصلح التقويم؟ ألا يتطلب الأمر في غالبية الأحيان إدخال المدرس لتغييرات فورية على عمله لضمان فعالية تدريسية مادته الدراسية ؟…
يؤكد فصل التقويم عن التدريس أننا لا نريد من المدرس أن يفكر خلال التدريس ولا أن يتتبع خطابات المتعلمين وردود أفعالهم، ما يعني أنَّنا نرفض أن يفكر التلاميذ بدورهم. وفي هذا النوع من السياقات، يتوقف التدريس والتعلم عن أن يكونا تفكيرا، وبدون ذلك لن يتحسن أداء المدرس ولن يتعلم التلميذ. فضلا عن ذلك يؤدي فصل التقويم عن التدريس إلى تحديد الأول لما سيكون عليه الأخير (طه حسين)، فيغيب التعلُّم ويحضر الامتحان في أحسن الأحوال.
(6) لَبْس بعض المفاهيم..
هناك قضايا أخرى عديدة تحتاجُ إلى دراسات، كتوزيع الحصص الذي لا توجد لحد الساعة أدبيات تقدم الرؤية والمقاييس التي ينهض عليها، ومفاهيم بدأ يُروَّج لها مؤخرا بمعزل عن أي تصور تدريسي مثل الجودة والافتحاص وما إلى ذلك، ما جعلنا نحس وكأن الأمر يتعلق بالنظر إلى المدرسة باعتبارها مقاولة. أظن أن توظيف قاموس المقاولة أو المعمل في التربية ينم عن غياب أي حذّر معرفي، ما قد يُصيبُ المتعلمين المغاربة بعاهات كبيرة قد تلقي بمستقبل البلاد في جٌبٍّ لا قرار له…