لا يمكن أن نتصور ديمقراطية بدون صحافة مهنية، غير أن هذه الفكرة التي تبدو بسيطة، تحتاج إلى جهد كبير على عدة مستويات، من قوانين ليبرالية وحكومات مشبعة بثقافة ديمقراطية ومقاولات صحافية ومؤسسات إعلامية “مستقلة”، وغيرها من الضمانات الضرورية، للتصرف بشكل نزيه، في هذه الملكية الجماعية، التي هي حرية الصحافة.
غير أن هذه الصورة المثالية، لا توجد في أي بلد، مهما بلغت درجة تقدمه الديمقراطي، خاصة بعد أن أصبحت هذه المهنة، مهددة، بشكل لم يسبق له مثيل، بأجهزة التواصل، التي تبتكرها باستمرار الشركات الكبرى التي تشتغل في مجالات التكنولوجيات الحديثة.
لقد فتحت هذه الابتكارات، التي لن تتوقف، الباب على مصراعيه، لشكل جديد من التواصل، يلعب فيه المواطن دورا أهم من السابق، عبر الشبكات الاجتماعية، التي تحولت، إلى جانب المحركات الكبرى، مثل “كوكل” وغيره، إلى مصدر من أهم مصادر صناعة الرأي، خاصة بين الشباب، الذين يستقون جزءا هاما من المعطيات، التي يؤسسون عليها قناعاتهم، من هذه الوسائل العملاقة، ومما يروج فيها، من مواد وتعليقات…
لقد أدى هذا الوضع إلى تفاقم أزمة الصحافة الورقية، وإلى هيمنة المال على الوسائط التي تعتمد التكنولوجيات الحديثة، حيث أصبحت منظمات الصحافيين، في عدد من بلدان العالم، تعتبر أن التوجه الحالي، نحو تمركز وسائل الإعلام والوسائط الحديثة، بين أيدي المجموعات الصناعية/المالية، الكبرى، يشكل خطرا حقيقيا على الديمقراطية، لأنه يضعف كثيرا التعددية والأصوات المختلفة، كما أنه يمس في الصميم مبادئ المهنية، لأنه يسعى إلى تحويل الصحافيين، إلى مجرد مستخدمين في العلاقات العامة.
ما يحصل الآن، لا يهم الصحافيين وحدهم، بل كل المجتمع، لأن غياب صحافة مهنية وجيدة، لن يُمَكّنَ المواطن من التعرف على مجريات الأحداث والمواقف وخلفياتها وأبعادها، بنزاهة وموضوعية، حتى يختار عن دراية وإدراك.
فمسألة الدفاع عن حرية الصحافة والخدمة العمومية والأخلاقيات، هي في صميم الفعل الديمقراطي، على الحكومات والأحزاب وكل منظمات المجتمع المدني، والمواطنين، أن يضعوها ضمن أولوياتهم، فغيابها يعني وجود مجتمع الصمت وبدون شهود، رغم كل الضجيج الفارغ، لأن مؤسسات الصحافة والإعلام، تابعة للوبيات المالية وجماعات الضغط، والصحافيون خاضعون لظروف عمل غير مهنية.