لقد كشفت الضربة الأولى للعراق بروز توجُّهات أمريكية خاصة بتغيير منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من الداخل، حيث ورد في كلمة ألقاها الرئيس بوش أمام ” معهد أميركان انتربرايز American Enterprise Institute “قبل بدء الحرب بحوالي عشرة أيام، أنه ستُعاد صياغة العراق بشكل مختلف بعد الحرب، وسيكون هذا البلد نموذجاً لما سيحدث لاحقا بمنطقة الشرق الأوسط بأكملها. وقد بدأت عمليات إخراج هذا النموذج إلى حيِّز الوجود عقب غزو العراق مباشرة عبر اتخاذ قرارات تفكيك جيشه وتحطيم بنياته التحتية وتقسيم دولته ونظام حكمه طائفيا… وبعد ذلك بأربع سنوات، صوَّت مجلس الشيوخ على قرار يؤيد خطة الرئيس بوش. ويعني ذلك أن مشروع تقسيم هذا البلد إلى دولة سُنِّية وأخرى شيعية، وثالثة كردية كان جزءا من خطة أشمل لتفتيت منطقة الشرق الأوسط بكاملها…
لم يكن تصويت الكونجرس الأمريكي بموافقة أغلبية 75 صوتا ضد 23 صوتا على تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات خطوة منفصلة، بل كان جزءا من مخطط أوسع، ما زالت ملامحه وخططه تتضح وتتواصل في العراق وفلسطين ولبنان والسودان وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من بلدان هذه المنطقة، طبقا لما تؤكده سياسات الإدارة الأمريكية وتصريحاتها ووثائقها…
إضافة إلى ذلك، فقد سبق أن ورد قرار تفتيت دول هذه المنطقة في كتابات “زبغنيو بريجنسكي” ومايكل ليدن” صاحب مشروع “الفوضى الخلاقة” الذي يُعتبر كبير خبراء المعهد السالف الذكر، وإليه كانت تعود إدارة الرئيس بوش للاستفادة من أبحاثه حول الشرق الأوسط، بل تمَّ تكليفه في سنة 2002 بوضع خطة عشرية لتغيير الشرق الأوسط من الداخل…
كما سبق أن قال أبا إيبان ــ وزير خارجية إسرائيل الأسبق ــ إنه يرغب في أن يرى منطقة الشرق الأوسط على هيئة فسيفساء حتى يكون وضع إسرائيل طبيعيا في الشرق الأوسط. وهناك أيضا وثيقة رسمية إسرائيلية تحمل عنوان “إستراتيجية إسرائيل للثمانينيات”، جاء فيها: إن دول الشرق الأوسط هي عبارة عن قوقعة هشَّة، تنتظر تفتيتها إلى شظايا متعددة، وعلى إسرائيل أن تستمر في سياستها التي اتَّبعتها منذ بداية الحركة الصهيونية، والتي تضمنت شراء عملاء محليين داخل دول الشرق الأوسط من أحزاب وطوائف وجماعات لخدمة ما فيه مصلحة إسرائيل…
وقد نشرت مجلة “ذي أتلانتيك” دراسة مُتَّصلة عن هذه الخطة. كما نشر “مركز التقدم الأميركي”، وهو مركز دراسات سياسية معروف بكونه قريبا من تفكير الرئيس أوباما، دراسة بعنوان “الشرق الأوسط في زمن المنافسة والتفتيت الإقليمي” جاء فيها أن التفتيت الذي يحدث اليوم في العراق وسوريا، هو الفصل الأخير في سلسلة أحداث تهز الشرق الأوسط الآن، وأن الولايات المتحدة تسير على طريق صياغة إستراتيجية للمنطقة تخدم فكر أمريكا ومصالحها لعشرات السنين…
لهذا ظلت هذه المنطقة مستهدفة من خارجها ومن داخلها؛ فمن الداخل كانت إدارة المخابرات المركزية للولايات المتحدة قد أقامت علاقة تنسيق وثيقة مع جماعات الإسلام السياسي منذ عقود عدَّة، ساعد على بنائها اشتراكهما في معاداة مفهوم “الدولة الوطنية”، حيث يُعدُّ رفض هذا المفهوم عقيدة أساسية في البنية الذهنية لتلك الجماعات، كما ترى فيه الولايات المتحدة عائقا يحول دون ترسيخ مصالحها في المنطقة. وهي تعلِّلٌ ذلك بأن التغيرات التي يشهدها عالم اليوم، وفي مقدمتها الثورة المعلوماتية والتحولات الاقتصادية، تفرض ذلك.
علاوة على ذلك، فقد بدأ في منتصف التسعينيات الترويج، في مناقشات مراكز البحوث السياسية، لمفهوم نهاية عصر الدولة الوطنية المُتمخضة عن “معاهدة وستفاليا” الموقعة سنة 1648 والجامعة في كيانها أعراقا وتوجهات مختلفة… وفي سنة 2002، أعلنت إدارة بوش إستراتيجيتها الجديدة للسياسة الخارجية، فاعتبرت أن الشأن الداخلي في منطقة الشرق الأوسط ليس شأناً داخلياً، طالما أنه يمس أمنها القومي، من وجهة نظرها!
تبعا لذلك، يرى بعض الدبلوماسيين الغربيين أن إنهاء ما تعرفه منطقة الشرق الأوسط من فوضى وحروب وتفتيت للأوطان قد أصبح يقتضي الاعتراف بأن الحدود القديمة التي وضعتها اتفاقية “سايكس بيكو1” قبل قرن من الزمن قد اختفت، وأنه لا يمكنها أن تعود إلى ما كانت عليه، حيث يؤكدون أن هذه المنطقة صارت في حاجة إلى اتفاقية “سايكس بيكو” جديدة… ويفسرون ذلك بأن حدود أجزاء كثيرة من بلدان هذه المنطقة لم يعد لها وجود بسبب ما عرفته من أحداث خلال الـ 15 سنة الماضية، علما أن القوى العظمى الغربية هي التي أطلقت شرارة أغلب تلك الأحداث. كما يعتقدون أنه من المستحيل إعادة الحدود إلى ما كانت عليه، ما يعني، بالنسبة إليهم، اختفاء الكيانات الناتجة عن التقسيمات القديمة وعدم صلاحيتها للزمن الراهن، وهم يَرَوْن أن تحولات المجتمعات قد فرضت واقعا مجتمعيا وثقافيا يستوجب ذلك.
ويتوقع هؤلاء الدبلوماسيون أن تخرج إلى الوجود بهذه المنطقة خلال الـسنوات الخمس القادمة دول جديدة صغيرة قائمة على أسس طائفية وعرقية. وستستمر عملية الاقتتال بها، حيث ستظل هناك مناطق أخرى غير محكومة وغير خاضعة لسيطرة قوة منظمة. ومع إصرارهم على أن المنطقة لن تعود إلى ما كانت عليه، لعدم صلاحية خرائطها للتطورات التي يعرفها عالم اليوم، فإنهم يضيفون أنه لا يمكن التنبؤ بالتغييرات التي ستعرفها دول الخليج وتركيا وإيران ودول أخرى، إذ تؤكد الأحداث أنه ليس للإدارة الأمريكية أصدقاء دائمين.
وتعود أزمة هذه المنطقة إلى خليط بين “صراع قوى ونزاعات طائفية وقبلية”. وبحكم المعرفة التاريخية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية التي راكمتها القوى الغربية العظمى حول هذه البلدان، فإنها توصلت إلى فعالية توظيف النزعات الطائفية والعرقية والقَبَلِية وكل ميول التطرّف لخدمة مصالحها عبر تفتيت أوطان هذه المنطقة.
تبعا لذلك، يجب الوعي بأن تفتيت دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يتم حاليا بصورة عشوائية، وإنما وفقاً لإستراتيجية غربية طويلة المدى لها خططها وأدوات تنفيذها… لذلك فبلدان المنطقة التي لم تعرف اضطرابات ومؤشرات التفتيت بعد، لن تنجح في التصدِّي لهذه المرامي الغربية ما لم تملك مشروعا للتحديث والبناء الديمقراطي، وتنخرط في إنجازه فعليا من أجل تقوية اللحمة الوطنية وتحصينها من أيِّ اختراق من قِبَل القوى الأجنبية، وذلك حماية لأوطانها من تربص المتربصين…