استعان الناس دائما بالشعارات، لقد استعملوها دفاعا عن عقائدهم وانتماءاتهم العرقية أو الجهوية، وفعلوا ذلك من أجل نصرة فريق على آخر، سياسي أو طائفي. لقد كانوا في حاجة إلى أداة “توحدهم وتثيرهم وتوجز” ما هو متداول بينهم في شكل تفاصيل أو قناعات فردية، وتلك هي الوظائف الأساسية للشعار. لا يتعلق الأمر فيه بالتعبير عن مضمون “موضوعي” محايد، بل هو إضافة شيء ما إلى السياسة والإيديولوجيا والدين مصدره الذات المدعوة إلى تبنى أو رفض موقف أو شيء ما. إن الشعار، على هذا الأساس، ليس مضمونا بل نمط خاص في صياغته.
ومعنى ذلك، أن التعبير الشعاري يُكثِّف المجرد والعام في صيغ لغوية تتميز بالجمالية والإيجاز والإيقاع الشعري. إنه بذلك، يتوجه إلى العاطفة والانفعال، لا إلى ضوابط العقل وأحكامه. ففيه دائما شحنة من يقين، أو شيء من حقيقة مطلقة. وذاك ما تحتاجه الحشود وتطمئن إليه، “فالإيمان” لا يُعاش بالمفاهيم، بل يتجسد في صيغ تختصره وتُشخصه. وتلك سمة مركزية في الشعار، “إنه لا يُقرأ بل يُرى، ولا يُنصَت إليه بل يُسمع” (1)، أي تلتقطه الأفئدة وتردده الحناجر في الشوارع والساحات العامة.
وقد تكون العصور الحديثة من أكثر الفترات في تاريخ الإنسانية قدرة على صياغة الشعارات وتداولها، فنحن نعيش بالشعارات ومنها نستمد الكثير من قناعاتنا، وإليها نستند في الحكم على أنفسنا وعلى الآخرين. فقد حول “التواصل الجماهيري” الشعار من صيغة تواصلية خاصة بمجموعة محدودة من الناس، إلى أداة مركزية كونية تتحدد وتُصاغ وفقها كل الحاجات: في السياسة والإيديولوجيا والدين والإشهار. ذلك أن الناس، في تصور الفاعلين في ميدان التوجيه الإيديولوجي، ميالون في العادة إلى “الفكر الجاهز”، كما أنهم ميالون إلى القَطْعية والأحكام المسبقة. ويشير ذلك في الحالتين معا إلى سيكولوجية مانوية من طبيعة إطلاقية لا تعرف الوسط، فإما السلب وإما الإيجاب، من ليس معي فهو ضدي، والبعد يَجُبُّ القبل بالإلغاء لا بالضرورة الزمنية.
ويكفي أن نُذَكِّر بالأصول الأولى لهذه الكلمة لكي ندرك الموقع الحقيقي للشعار في سلوك الحشود داخل الفضاء العمومي. فكلمة slogan مشتقة في الفرنسية من أصول سلتية هي: sluagh-ghairm التي تعني حرفيا “صرخة الحشود” الداعية إلى الحرب. وتدل كلمة شعار في العربية، في بعض من معانيها، على ما يكون في المقدمة، أو هو الظاهر الذي يُغطي على ما تبقى من الكائنات والأشياء ( لسان العرب). إنه يشير، في الحالتين معا، إلى ما يتجاوز دائرة الواحد الفرد لكي يحتفي بالجموع. وبذلك، فإن جزءا كبيرا من مضمونه يعود إلى أهواء النفس، ذلك أن كتلة الانفعالات هاته لا تعيش في الكلمات وحدها، بل تستدعي الجسد باعتباره حاضنا للأحاسيس وكاشفا عنها.
بعبارة أخرى، يحتاج الشعار، لكي يَحُثُّ ويُحرض، إلى ما يَحْمله ويجسده في الصوت والإيماءة والحركات الجماعية. وعلى منوال الطبيعة الشفهية للغة، فإن الإيقاع اللفظي لا يُصبح حقيقة إلا عندما يخلق حالة تناغم بينه وبين الجسد الحامل له. ذلك أن الشعار يُسرب إلى الملفوظ “طاقة إقناعية” “مزيفة”، إنها من طبيعة انفعالية، وهي ما يدفع الناس إلى الفعل. فلا إخبار في الشعار، ولا وجود لشعارات موضوعة “للتأمل” و”التدبر”، إنها كَمٌّ هووي يستدعي حركة وفعلا وتكرارا وترديدا؛ فنحن لا نفكر في حالات الانفعال، بل نغني ونرقص ونتمايل.
فلم يكن لكلمة “اِرحل” التي رفعتها الجموع في الكثير من الأقطار العربية، أي قيمة في مداخلها القاموسية بكل تنويعاتها، أو في سياق الوقائع الإبلاغية المعزولة، ولكنها تحولت، في أفواه الحشود، ضمن سياق إبلاغي من طبيعة سياسية، إلى شعار يتجاوز المدعو إلى الرحيل، إنها دعوة عامة إلى للتغيير تطول القيم والأخلاق والمؤسسات والقيمين عليها. لقد أضافوا إليها “الحس الجسدي”: طاقة الإيماءة وصرخة الوجه والحركة والاصطفاف الجماعي والأيدي المرفوعة إلى السماء. فهذه العناصر جميعها تُعد جزءا هاما من المضمون المباشر للشعار، أو هي “الوجه الفعلي” له، فبدون هذه الحركات ستعود “ارحل” إلى سابق عهدها كلمة صامتة في قاموس أخرس.
وقد تكون ثورة الطلاب في فرنسا في نهاية الستينات من القرن الماضي بداية نوعية لظهور جيل جديد من الشعارات ستقطع تدريجيا مع الشعارات “الفئوية”: “يا عمال العالم اتحدوا”، “العالم الحر”، “الستار الحديدي”، لكي تحتضن شعارات تحتفي بـ”النحن” الغامضة التي تتحدث عن حشود تُصنف خارج الانتماءات التقليدية، إنها إحالة على “وعي جديد” قد يكون هو الأساس الذي بدأت تتحدد استنادا إليه كل المبادئ الإنسانية الجديدة التي يختصرها الناس الآن في “القانون الإنساني” الذي يُلغي كل القوانين الخاصة. لقد فرقت الرأسمالية بين الناس في المال والجاه، ولكنها ساوت بينهم في الشعارات.
وقد برع هؤلاء الطلاب في نحت العشرات من الشعارات كانت كلها تدعو إلى الخروج عن “نظام قديم” والتبشير بآخر لا تحكمه المسبقات والتقاليد التي تحد من حرية الإنسان: “الخيال في السلطة”، “ممنوع المنع”، “كونوا واقعيين وطالبوا بالمستحيل”، “انسوا كل ما تعلمتم وابدأوا بالحلم”(2). فلا شيء في هذه الشعارات يحدد حقيقة ما، من طبيعة اقتصادية أو سياسية أو إيديولوجية صريحة، إنها على العكس من ذلك تستبدل الحلم والرؤيا الجديدة بالسياسة، أي بما يمكن أن يجمع في شحنة انفعالية واحدة بين أهواء فردية وبين حاجات جموع غاضبة. إن الفرد يُستدرج بواسطتها إلى الجموع من خلال حاجات داخلية تخصه هو، لا من خلال ما يؤمن به في الفضاء العمومي فقط.
وقد يكون من أسباب ذلك أن الشعار يدفعنا، عكس ما هو سائد في الأشكال الدعائية البسيطة والصيغ التمثيلية العامة التي تستعملها الوصلة الإشهارية مثلا، إلى الاعتقاد في قضية ما. فهو واسطة بين مضمون إيديولوجي أو عقائدي أو سياسي، وبين قناعات بسيطة يتداولها الناس ويبحثون لها عما يسندها في “الجاهز” الديني أو الإيديولوجي أو الأخلاق العامة. وعلى عكس ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن، فإن الشعار لا يكثف مضمون هذا الصرح في ملفوظ يكون بديلا عنه، بل يعمل على ” تبسيطه” واختصاره في ما يشبه التقابل الإقصائي، فالعالم مشدود إلى قطبين لا رابط بينهما: ما هو مقبول وما هو مرفوض ولاشيء غيرهما.
وقد وضعت فرنسا قديما على حدودها لوحة كبيرة كُتب عليها: ” هنا يبدأ بلد الحرية”. فكل شيء في الجملة كان خادعا رغم إحالته على مضمون صريح: فقد تكون فرنسا حقا بلدا للحرية، جزئيا أو كليا، وقد تشير الجملة إلى الثورة الفرنسية التي خلدها التاريخ في مبادئ ” الحرية والمساواة والإخاء”، إلا أن مضمونها يعود إلى شيء آخر، أو إن شئتم إلى جملة أخرى: “وهنا تنتهي حدود بلدان لا تسود فيها الحرية” (3). والحاصل أن قيمة الشعار لا تكمن في أغلب الحالات، في ما يقوله بشكل مباشر بل في ما لم يقله، أو في ما حاول التغطية عليه من خلال التعميم المفرط أو التبسيط المخل.
وذاك ما تجسده أيضا الجملة القائلة: “فرنسا للفرنسيين”. فهذه الجملة لا تحيل على أي شيء خارج وجهها الشعاري، إنها مضمون توتولوجي، فهذه البلاد هي فعلا ملك لكل أبنائها؛ ولكنها أصبحت دالة، وقد تحولت إلى شعار، على الكراهية والعنصرية والشوفينية. تماما كما لا تحيل الجملة: ” العالم الحر” على أي شيء آخر غير إثبات لمضمون خاص بعالم يتمتع بالحرية، ولكنها أصبحت، عندما تحولت، إلى اسم آخر للرأسمالية، شعارا يحدد عالما نقيضا لعالم آخر ” ليس حرا” هو العالم الشيوعي. إن الشعار في جميع هذه الحالات فارغ، لأنه لا يُشحن بمضمون يخصه، بل بما يقوم بنفيه أو التقليل من شأنه.
وتلك أيضا خاصية من خاصيات الشعار، إنه لا يُلقن ويُعلم، بل يكتفي بأن يستثير ويستهوي ويستميل، “إنه يدفع الناس إلى الفعل لا إلى التفكير” (4). لذلك لا يتعلق الأمر فيه بإيجاز لفظي خال من الروابط، أو متحرر مما يطلق عليه “الوحدات الفارغة”، بل بما يحيل على مدلولات لا تتعايش بينها في الحضور وفي الغياب. لذلك لا قيمة للضمائر في الشعار الإيديولوجي أو السياسي أو الديني، فهو لا يتوجه إلى فرد مزهو بذاتية لا تستوعبها القيم الجماعية، بل الغاية منه هو توحيد جموع، أي تحديد الشروط التي ينتفي فيها الفرد وتنتفي عنده ممكنات التفكير الحر.
وضمن هذا التعميم يندرج شعار ” الإسلام هو الحل”. فآليات الضبط المضموني المؤسسة للشعار لا تتحدد من خلال توحيد كل المسلمين حول قيمة واحدة، بل تقوم أساسا على إقصاء ما هو ليس بإسلامي. وهو ما يتحقق من خلال إضافة الضمير “هو” وتعريف كلمة “الحل”. فكتابة الجملة بصيغة التنكير : “الإسلام حل”، لا تحيل سوى على مضمون تقريري من طبيعة تصريحية، وهي جملة قد يؤمن بها كل المعتنقين للدين الإسلامي في العالم أجمع، وذاك أمر يخصهم وحدهم. بعبارة أخرى، إنها جملة صحيحة وتامة بالنسبة لكل الذين آمنوا بالإسلام دينا ويبحثون من خلاله عن معنى لحياتهم ويمارسونها ضمن المبادئ التي يدعو إليها، ولكن تعريفها بالاستغراق، أي بما يقود إلى فصلها وتمييزها، يجعل منها شعارا، أي برنامجا سياسيا لا يؤمن به سوى المعتنقين للحزب الذي ينادي بهذا الحل. ومع ذلك، فإن الشعار نادرا ما يقدم نفسه باعتباره شعارا، فالذين يرددون صباح مساء “الإسلام هو الحل” لا يمكن أن يكون في تصورهم شعارا، بل هو حقيقة مطلقة هي ما تعلنه الجملة وتخبر عنه.
والأمر نفسه يصدق على ملفوظات صغيرة بقيمة دلالية تقريرية محايدة من قبيل podemos أو Yes we canأو غيرهما، ولكن استنادا إلى صيغة جديدة تُدرج الالتباس كمكون مركزي للشعار. فقد انتقل الملفوظان من وصف محايد لحالة، لكي يصبحا شعارين ترددهما ملايين الحناجر. أي أصبحا برنامجين يتسعان لكي يشملا كل شيء، بما فيها المشاعر الخاصة والرغبات الفردية وكل الأماني التي كانت تلوح في أفق لا قدرة للفرد الواحد على بلوغه.
وهذا هو الفاصل بين شعار “ارحل” وبين شعار آخر هو “عاش الشعب”. لقد نجحت “اِرحل” في استمالة القلوب وتأجيج شعلة الحماس فيها، ولم يستطع الشعار الثاني فعل ذلك. لقد كانت الأولى “فارغة” يمكن لأي كان أن يملأها بما يشاء من انفعالاته الخاصة، أما الثانية فطافحة بالمعاني السابقة. الأولى شعار حقيقي، إنها تتسع لكل الرغبات بما فيها الرغبات الفردية التي تنتظر من كائن ما، قريب أو بعيد، أن يرحل، أما الثانية فموقف سياسي صريح لا يحيل على أي شيء آخر غير استبدال حاكم بحاكم. إن “الشعب” الذي نزل إلى الشارع لا يمكن أن يكون كل الشعب، إنه شعب لنفسه، ولكن الرحيل الذي نادت به الحناجر يمكن أن ينسحب على كل الناس، بمن فيهم الذين ظلوا في بيوتهم. فلاشيء في الذاكرة من فكرة “الرحيل” سوى الرحيل نفسه، وكل شيء في الشعب تستوعبه الذاكرة السياسية، فالذي ينادي ب “عاش” يستدعي الذي يجب أن “يسقط”، ولكن في انفصال كلي عن المشاعر الفردية التي تسللت إلى الشعار الأول “اِرحل”.
والحاصل أن الشعار يظل، رغم كل النوايا الحسنة التي تقف وراء صياغته، مضللا؛ فهو يحمل “حقيقة مزيفة” قائمة على إلغاء ما تبقى من الحقائق. إنه لا يبني بل يقوض ويُقصي، ولا يقود إلى الحقيقة بل يدمر شروطها من حيث إنه تكرار وترديد. بعبارة أخرى، يقوم الشعار بالإثارة والاختصار والإيجاز وتوحيد الناس، ولكنه في كل وظائفه تلك يميل إلى التبسيط، إنه “فكر جاهز أي موضوع أساسي للفكر، ولكنه عائق أمام استقلالية هذا الفكر” (5).
——-
هوامش
1-Olivier Reboul : Le slogan, éd P U F, 1975, p.34
2- l’imagination au pouvoir, il est interdit d’interdire , soyez réalistes et demandez l’impossible, oubliez tout ce que vous avez appris et commencez par le rêve
3- Olivier Reboul : Le slogan, éd P U F, 1975, p.11
4- نفسه ص 140
5-نفسه ص 139