نلاحظ اليوم أن القوى العظمى في عالمنا تزداد غنى، لكن ما فائدة ذلك ما لم ينعكس إيجابيا على حياة الطبقتين الاجتماعيتين الوسطى والدنيا، وما دام الفقر يدمِّر باستمرار الفئات الوسطى إلى حدِّ دقِّ ناقوس الخطر من لدُن بعض الباحثين ومراكز البحث في الغرب تحذيرا من انقراض الطبقة الوسطى في بلدانهم؟! فقد اعترف الرئيس الأمريكي باراك أوباما اليوم بأن مؤسسة “وول سترات Street Wall” قد تسببت في أزمة 2008 التي كانت عاملا أساسيا في تقلٌّص قاعدة الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة الأمريكية، وأضاف قائلا: لقد أخذ مسؤولو هذه المؤسسة أموال أمريكا، لكنهم لم يتعرضوا للمحاسبة. كما أن حكومة ألمانيا وغيرها من البلدان المتقدمة تعترف بالضربات الموجعة التي تعرضت لها الطبقة الوسطى في بلدانها، حيث ضعف دورها وانكمشت قاعدتها الاجتماعية. فكل القوى العظمى تعي جيدا مكانة الطبقة الوسطى ودورها في التنمية والتقدم وإقامة التوازن الاجتماعي، حيث يعرِّض إضعاف هذه الطبقة في بلد ما الأغلبية العظمى من مواطنيه للإفقار، ما يعني تعريض هذا البلد للخطر مهما بلغت درجة غناه وتقدمه…
ويرى أغلب المتتبعين أن التحولات الاجتماعية التي يعرفها المجتمع المغربي قد جعلته يفتقر إلى فئات اجتماعية وسطى قوية، ما نجم عنه ارتفاع بعض الأصوات التي تحذر من انقراض هذه الشرائح الاجتماعية، فدعت إلى ضرورة توسيع صفوفها وتقوية دورها، لأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار السياسي رهينان باتساع حجمها وتعزيز دورها…
لقد برزت في المغرب، قبل الاستقلال وبعده إرهاصات نشأة فئات وسطى عُقِدت عليها آمال عريضة، غير أن دورها ما لبث أن توقف وعرف منعطفا خطيرا في بداية القرن الحالي نتيجة أسباب كثيرة يأتي على رأسها استمرار غياب التعدّدية السياسية الفعلية ودولة الحق والقانون… وهذا ما سمح بتحالف قسم من الفئات الوسطى الناشئة مع السلطة، ما أفضى إلى احتكار الأسواق والحيلولة دون توسُّع هذه الفئات بعرقلة استيعابها لأغلبية أفراد المجتمع، حيث تطور مجتمعنا في الاتجاه المعاكس للبلدان الصناعية عموما، وللبلدان الصناعية الصاعدة في جنوب شرق آسيا خصوصا التي عززت نشوء الطبقة الوسطى ودورها على كافة المستويات، ما ساهم في تنميتها وتقدمها…
ويتم هذا التحالف بين السلطة وقسم من الفئات الوسطى عندنا عبر علاقات اجتماعية متشابكة ومصالح متبادلة، حيث يقع تفويت المشاريع ذات المردودية العالية إلى هذا القسم من هذه الشريحة مباشرة أو عبر سنِّ قوانين تسمح بصفقات من هذا النوع، فتفشى الفساد والمحسوبية، وتم إقصاء المثقفين والأطر المنتجة والمبدعة وتجميدها عبر توظيف شتى الأساليب لحرمانها من أية فرصة للعطاء والمساهمة في التنمية وإمكانية ترقّيها اجتماعيا… وهذا ما تسبب في إهدار أغلبية خبراتنا الوطنية التي كان يُمكن الاعتماد عليها في بناء اقتصاد متنوع يساهم في تأهيل بلادنا للانخراط ضمن البلدان الصاعدة، من خلال تمكينها من الانتقال إلى دولة تعتمد على صناعات تحويلية وخدمات حديثة متنوعة تشمل مختلف القطاعات الاقتصادية…
وبعد هبوب رياح ما يُسمَّى بـِ “الربيع العربي” وانعكاساته الخطيرة على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أصبح الهاجس الأمني يأتي على رأس أولويات الحاكمين في هذه المنطقة. وقد أدى غياب التعدُّدية السياسية والفشل في التأسيس لبناء نظام ديمقراطي إلى عدم الاستقرار السياسي وتراجع الاقتصاد، فساد الركود والتضخم، وتراجعت مستويات الدَّخل واتَّسعت دائرة الفقر، ما حال دون قدرة دول هذه المنطقة على تشكيل فئات وسطى تضمن لها الأمن والاستقرار والتنمية على كل الأصعدة…
يرى بعض الباحثين أن تدمير الفئات الاجتماعية الوسطى وتراجع دورها ومكانتها في هذه المنطقة يعدُّ سببا في كل أوجه الارتكاس والتردِّي التي عرفها مجتمعنا خلال العقود الأخيرة، حيث يفيدنا التاريخ أن هذه الشرائح الاجتماعية كانت في البلدان الديمقراطية حاملة دواما لمشاريع التقدم ولقيم الحداثة والإبداع الثقافي والفني، وذلك فضلا عن فعاليتها في تأطير المجتمع وتنويره… ودورها في جهاز الدولة ومختلف بناه الإدارية والإنتاجية…
وبالرغم من هذا التراجع، فإن الفئات الوسطى قد شكَّلت العمود الفقري لما سُمِّي بـ “الربيع العربي” في بداية هذا العقد. قد يبدو أن هناك تناقضا بين انحسار مكانة الفئات الوسطى، من جهة، ومركزية دورها في الحركات المطلبية والاحتجاجية من جهة أخرى. لكنه تناقض ظاهري فقط، ولا يعكس حقيقة الأمر، لأنهما متلازمين في العمق، إذ تدل بعض أوجه هذا “الحراك”على أنه احتجاج على ما لَحِق هذه الفئات الوسطى من أضرار وتفقير نجم عنه تقلّص القاعدة الاجتماعية للحاكمين، ما أدى إلى الاحتجاجات الحادة التي عرفها مجتمعنا…
وجدير بالذكر أن اتساع نواة قاعدة الفئات الوسطى قد ارتهنَ بما وفرته الدولة لشرائحها من فرص للتعليم والوظائف والرواتب، لأنها محرومة أصلا من الثروة والملكية الكبيرة، ما حال دون أن يكون لها دور مستقل، إذ يؤكد ما يجري في هذه المنطقة أن أي تصدُّع في الدولة أو انهيارها يُعرِّض هذه الفئات لمحنة كبيرة لأنها لا تملك سوى معارفها وخبراتها وكفاءاتها المهنية.
ويتجلى ذلك في أن احتجاج هذه الفئات الوسطى لم ينعكس إيجابيا على توسيع قاعدتها الاجتماعية وتحسين مكانتها ودورها، بل ما نجم عن ذلك هو تعرُّضها للمزيد من الإقصاء بسبب تدهور أوضاعها المعيشية وتعميق إقصائها والاستعاضة عنها بعناصر ما يسمى بـ “النخب الحزبية” غير المؤهلة والعاجزة عن إنتاج فكرة واحدة مُثمرة، فأحرى أن تُبدِعَ رؤية أو تتصورَ مشروعا أو تضعَ برنامجا. فهي مستعدة لارتكاب أي فعل يضمن لها الاستمرار في الواجهة…
ويبدو لي أن الأمور سوف تزداد سوءا إذا استمر تدمير الفئات الوسطى التي تظل صمام الأمان وعماد الحفاظ على التوازنات الاجتماعية. لذلك كلما اتسعت قاعدتها وتعزز دورها ومكانتها صار بالإمكان إحداث تغير حضاري ديمقراطي مرسِّخ للاستقرار…