لمّا اجتاح العراق أرض الكويت، تحرّك الشرق والغرب كله، وأخرجاه منها، عن صواب.. ثم هلّل العالم بنهاية الحرب الباردة. وبعد 15 سنة، خسرت شعوب الشرق الأوسط، بشرقه وغربه، بلاداً أخرى، من بعد أن كانت الحرب الباردة قد أضاعت عليها صرّة الكون، فلسطين. والتاريخ لا يحب أن يمزح، بدون اللجوء إلى مكر المصادفة.
لهذا ولدت فلسطين النكبة مع بداية الحرب الباردة في 1948، وظلت القضية قائمة. ولمّا انتهت الحرب الباردة، لم يجد السلام في الشرق الأوسط من يدفئه بأرض أو .. بجغرافيا جديدة للتعايش. ومن غرائب التاريخ أن العالم، عندما يؤرخ لها، فإنه يتحدث عن كل الصراعات، إلا الصراع الأكثر جوهرية في العالم وفي المنطقة.
يقول المؤرخ، وهو يحذّر العالم من حروبه الباردة، إن الأخيرة أحدثت عدة أزمات، كحصار برلين 1948–1949 والحرب الكورية 1950–1953 وأزمة برلين عام 1961 وحرب فيتنام 1956–1975 والغزو السوفييتي لأفغانستان، وشعوراً رهيباً بالقيامة، عندما كاد العالم تلبية «جاذبية الهاوية» في أزمة الصواريخ الكوبية أيام الرئيس الأمريكي جون كينيدي، والعالم وقتها يحثّ الخطى نحو حرب عالمية ثالثة.
وانتهت الحرب، وعاد العالم إلى طبيعته، وترك العرب على هامش الاستراتيجيا.
ولدت الحرب، باردةً أو ساخنةً، فضاعت فلسطين، وانتهت الحرب باردةً أو ساخنةً، فضاع العراق. وعادت الحرب من جديد، ووجد العالم العربي والإسلامي نفسه في دائرة النسيان، كما لو أن درجة التطبيع القصوى مع وضعٍ هامشي في بناء العالم الجديد هي أن تضيع أرضك، ثم تنزوي في هامشٍ خارج العالم وزمنه.
وترتب أولوياتك الجديدة، من دون حتى أن تعرفها جيدا: هل ستضيع سورية، بعد أن عادت الحرب الباردة، أم ستتكدّس البلدان الشرقية في النسيان؟ لا يبدو أن من أولويات الأمل عندنا أن نستعد لكي نستقبل جغرافيا ضاعت منا، سواء في القرن الماضي أو في هذا القرن الذي يمضي بدوننا؟ وإلا كيف نسمّي الذي يحصل اليوم مع ذكرى احتلال فلسطين عام 1948، وإعلان دولة إسرائيل «ميلاد استقلالها» وسط الخراب الباقي من حروب الغرب مع العالم؟
يبدو وكأن أقسى درجات التطبيع مع الوجود وأقصاها أن يمر الاحتلال بلا ذاكرة، وأن تمر «15 مايو» كما لو أنها مجرد عيد ميلاد صبيةٍ غير مبالية في حضن صبي غير مبال. وما يزيد من غرابة التراجيديا أن الحرب الباردة لا تخفي اسمها.
ففي دهاليز القصر الإمبريالي في جنيف، يحدث أن المنظمة الأوروبية للأمن والتعاون تعيش إعادة سينمائية تقريبية للحروب الدبلوماسية التي كانت تعرفها أوروبا مع الحرب الباردة. وقد نقلت مراسلة «الفيغارو» الفرنسية جزءاً من هذه الأجواء في بداية شهر ماي، عندما تحدثت عن حوار بين السفيرين الأميركي والروسي:
الأميركي: أنت تمثل بلداً أوتوقراطياً. الروسي: تصريحاتكم عدوانية وغير مقبولة. .. وفي كل أسبوع من أسابيع الاجتماعات التي تنتظم في الآونة الأخيرة، يصف الأمريكي زميله الروسي بأنه «بقايا السوفيات»، فيما ينعت الروسي زميله الأميركي بأنه «إمبريالي صغير».
هذه المنظمة التي رأت النور، كفضاء للحوار بين أطراف الحرب الباردة عادت إلى طبيعتها، مع القضية الأوكرانية ونية روسيا في أن تصبح دولة ذات وجود خارج التقسيم الدولي للعمل، كما نصت عليه القوى المنتصرة بعد انهيار جدار برلين. لنقرأ هذا المقطع من التقرير الخاص بعمل المنظمة الأوروبية للسلم والتعاون: «في قاعة المجلس، يتواجه الروس والأمريكان حول كل المواضيع، من الأمن إلى حقوق الإنسان، مروراً بقضايا النوع والحقوق الجنسية. منذ 15 سنة، كنا نعيش الدبلوماسية. ولكن، منذ عادت روسيا إلى سياستها في امتلاك السلطة، صارت تعارض ما تعتبرها القراءة الغربية المهيمنة للعالم». والنتيجة أن هناك عودة إلى الفترة التي كانت فيها «الخلافات بين الشرق والغرب خلافات شاملة».
في السياق نفسه، لا يخفي بوتين حنينه إلى زمن «يالطا»، (من المدن الساحلية السياحية الجميلة في شبه جزيرة القرم) عقد فيها مؤتمر بين قادة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في فبراير 1945، ستالين وروزفلت وتشرشل، عندما تم تقسيم العالم بين القوة السوفييتية والغرب، وإن كان المحور الرئيسي تقسيم ألمانيا. وقد عبر بوتين بصراحة عن ذلك في خطاب فالداي في العام 2014، وهو الذي قال إن «انهيار المعسكر الشرقي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين»، هذا معناه أن النظام العالمي الحالي في وضع اختلال بسبب «انزلاقات الغرب».
ومن مكر التاريخ مرة أخرى أن الحنين إلى يالطا القديمة تم في تزامن مع ضم جزيرة القرم الجديدة. ولنا أن نسأل: هل سيحن العالم إلى يالطا، بدون العرب مرة أخرى، أم سيحن إليها بتكريس القوة الروسية وضياع الحق العربي في الدول المستقرة الديمقراطية والآمنة؟
من المؤكد أن ذكرى احتلال فلسطين، ميلاد دولة إسرائيل لم يكن فيها أدنى حنين إلى الحرية، بقدر ما كان فيه يأس حضاري غير مسبوق: أمم تبحث في التاريخ عن دولةٍ ضاعت في الكتب (دولة الخلافة)، وتشق لها طريقاً إلى الوجود، وتترك دولة موجودة في خاطر الأنبياء وفوق الأرض، بدون بحث عن مبرّرات وجود. فيا للحنين المعكوس، فلا السلم الذي أعقب الحروب كان سلماً للعرب، ولا الحرب، وهي تعود باردة في كل أرجاء العالم، كانت لأجل العرب.