عندما اكتشفوا أنهم لم يكونوا يسيرون في الاتجاه الصحيح، عادوا، تعلموا في كل الحروب التي لم تكتمل بأنهم فقدوا رشدهم ذات وهم، وعادوا إليه، وكان اسمه المغرب..
هؤلاء العائدون من جحيم فكرة تحرر انحرفت يحملون مرارة كبرى، لأن كل الطريق التي قطعوها بعيدا عن الجحيم لم تصل بهم بعد إلى .. الجنة!
بعضهم لخصوا له الوطن في حقيبة كبيرة..
يحملها ويحلم فيها ويتزوج فيها وينسى أيضا فيها!
وبعضهم صار الوطن عنده مكيِّفا كبيرا في مكتب طويل يعوضه عن سنوات الحرارة المفرطة في خنادق «تندوف والحمادة»!
لكن أكثرهم يحلم بمرارة قصوى، وأنه كان مجرد رقم واحد في التيه: كأنه لم يغادر
وكأنه لم يعد! كما هو حال البشير الدخيل.. الذي سلخ ربع قرن في بلاده المغرب، ومازالت مرارته، مرارة مواطن، كان في قلب المعضلة وأصبح بلا معضلة!
هكذا قيل لهم بدون أن يقال لهم:اقعد، دع القضية لا ترحل لبغيتها.. واقعد فأنت الطاعم الكاسي.
وهي مهانة لا يقبلها الذوق المغربي، ولاسيما عندما يكون صحراويا في قلب العاصفة الرملية التي تحوم في سماء المنطقة وأرضها منذ أربعين سنة..
على الأقل طبعا!
لنبدأ المشكلة من أصلها: كانت هناك حركة، بدأت في العاصمة الرباط، وكانت تسعى إلى حل عسكري لاحتلال الساقية الحمراء ووادي الذهب..
وقتها كان سقف النخبة لم يتغير بعد: كما حدث في إيكس ليبان، ستنتصر الدبلوماسية ، امتدادا لانتصار المقاومة وجيش التحرير..بعد أن تحررت البلاد بالمزاوجة بين البندقية والمنبر السياسي!
وعليه كان الشعار:لتنتظر الأرض مناخا آخر..
غير أن الشباب الطامح والثوري كان يحلم ببلاد جديدة..
وفي خضم الحروب الكبيرة يتحول حلم التحرير إلى حلم الدولة
وبدأ النزوح الكبير، وهناك من اعتبر في الدولة أن ذلك حل مريح.
تقول روايات سياسية، من بين رواتها الفقيد الكبير المرحوم السي محمد باهي، أن اتصالا تم مع أحد مستشاري الملك الراحل، وتم تنبيهه إلى الخروج الجماعي للشباب ولبعض الساكنة من الصحراء نحو الجزائر، فكان رده:«خليو لبلا يبعد«!
كانت البلاد تعيش على معادلة الصراع الداخلي بين المعارضة والقصر، ولهذا كان كل شيء يخضع لهذه المعالجة ولهذه الزاوية.
لم تكن البلاد، في تقدير الفهم الرسمي قادرة على معضلتين: الصراع على السلطة من جهة، والصراع حول امتلاك الساكنة في الصحراء من جهة ثانية..
وقتها كان الذين يغادرون الأراضي إلى المنافي، صنفان: مقتنع بالدولة أو مقتنع بالوحدة ضمن دولة جديدة، إلى أن أصبح الرحيل جزءا من إفراغ الأرض من ساكنتها وتحويلها إلى رصيد الدول المجاورة..
لم يكن الباقون يبحثون كلهم عن ريع البقاء
ولا كانوا كلهم من الساسة الملخبطين بين الرملين!
كان أغلبهم يعيش مغربيته بحرقة وبصعوبة وبأمل أيضا.. وكان منهم من همشته الدولة لأنه لم يكن منها، كالقوى اليسارية عموما ، حتى أصبحت الصحراء مجالا محفوظا .. للمنع!
غير أن العائدين، تحت شعار الوطن “غفور رحيم” شعروا ربما أن الوطن أيضا قد يكون لا مباليا!
ويحدوهم الشعور أيضا بأنهم موضع تساؤل، أو رهن الخطيئة الأولى، الرحيل!
وأصبحوا عرضة «هوة من اللاثقة»، لا تقول اسمها!! مفادها :ما داموا قد رحلوا مرة، فقد يرحلون مرة أخرى..
وهو الخطأ في كون الدولة المغربية تتوقع أن الملتحق أو «التائب» عن حلم مستحيل من أجل الوطن الممكن، عليه أن يثبت دوما بأنه تاب …وإلا فإنه سيظل – في حالة العود الجنائي-.وليست العودة الوطنية!
وظلوا بين اللامبالاة، التي تغذي الذين ما زالوا مقيمين في استحالة الانفصال، هناك في تندوف أو في الشتات، وبين اليأس، والذي يغذي بدوره طاحونة من يشككون في جدوى العودة.
وقد وصلت الأمور أحيانا إلى مستوى
المطالبة بمحاكمة البعض من العائدين، بمعنى معاقبتهم عن أفعال كان الأساس فيها إيمانا منتهيا بدولة الوهم، وبالتالي فإذا لم تنجح دولة الوهم فعليهم أن يدفعوا الثمن مرتين:لسقوطهم في الوهم والعمل به، ثم لخروجهم من الوهم والتنصل منه!
ندرك من المرارة التي يتحدث بها العائدون أن تدبير العودة – أو الالتحاق- من أجل الدمج في النسيج السياسي والاجتماعي والاقتصادي والهوياتي، أبان عن عجز يرخي بظلاله، مهما كانت محدودة، على الحسم لصالح المغرب للنزاع الذي كانوا هم موارده البشرية في لحظة ما!
من حقهم أن يتساءلوا عن وطن عادوا إليه ، مفعمين بحقه في أن يكون موحدا، ولكنه هيأ مجالس وهيئات تقف عند زمن التدبير الاختزالي الأمني أو الترابي: الأمني عندما كانت الداخلية هي التي تقرر المزاج العام للمغاربة وتحاكم الجميع على قاعدة الولاء للمخزن، والترابي عندما أصبح الهم هو الأرض بدون قلب الناس!
أمام المغرب قاعدة بشرية عريضة، فيه من المؤسسين ما لم يعد في يد البوليزاريو.
وأمامنا جيل تربى في الفكرة، سواء الذين بدأوا بالحرب التحريرية أو الذين عصفت بهم الحرب الباردة وتلألأ لهم السراب بهيا في دولة سادسة، وفي كلتا الحالتين جيل مغربي، يصارع من أجل البقاء بعد أن تحول جزء كبير من إخوانهم إلى .. جيل جزائري يمنع حتى تسجيل المحتجزين اللاجئين في تندوف!
والمعضلة أن تباشير فهم عميق للموضوع لم تزل لم تطرح للنقاش العام.. ولهذا يجب أن يحل أمثال المؤسسين ليتحدثوا عن تاريخ وتفاصيل هم يعرفونها، ويجب أن يكونوا في وفود المغرب المدافع عن انتصار الوحدة على الانفصال، ويجب أن يكونوا في المواقع التي يجب أن يكونوا فيها، أي جيل اقتنع بالوحدة في إطار الكرامة والمصالحة الوطنية والتعددية المنتجة لمغرب قوي وتعددي وديمقراطي حتى النخاع!

*عن صفحة الكاتب

         الثلاثاء 17 ماي 2016

‫شاهد أيضًا‬

حضور الخيل وفرسان التبوريدة في غناء فن العيطة المغربية * أحمد فردوس

حين تصهل العاديات في محرك الخيل والخير، تنتصب هامات “الشُّجْعَانْ” على صهواتها…