الحركة الاتحادية حركة تمثل اليسار الوطني، وفكرة جوهرها التجدد الحداثي، والتطلع لبلوغ عالم المواطنة. بكل ما تحمله من مثل قائمة على المساواة بين أبناء الوطن الواحد، هذا التطلع جعلت له الفكرة الاتحادية مدخلا يتمثل في الديمقراطية كمدخل لا غنى عنه لدخول دولة المواطنة، دولة يكون فيها الوطن للجميع؛ ليس فيه أي عضو زائد عن الحاجة فالوطن محتاج إلى الكل، والمواطنة تستدعي التحول القيمي، بعيدا عمن تاجروا باسم الوطنية لأغراض غير وطنية، أو بالدين لأغراض غير دينية. وطن ديمقراطي حداثي متضامن، وطن يشعر كل فرد أن له فرصة في الترقي بدون “أبارتايد” سياسي أو اجتماعي؛ فرصته لن يحجبها جدار الإقصاء أو التصنيف وفق معايير سابقة لماهيته؛ سنلج عالم الحداثة عندما يوحدنا الوطن؛ ونجد مساحته مجالا مفتوحا أمام الجميع؛ يبدع أبناؤه على أساس روح التنافس.
تنافس يوسع المجال على أساس قواعد التأهيل لا قاعدة الانغلاق الحزبي أو الإيديولوجي أو المناطقي. هذا الحلم الاتحادي تحقق جزء كبير منه المسطر في دسترة الخيار الديمقراطي غير أن هذه الدسترة لم تحل دون معاودة طرح سؤال الديمقراطية كسؤال مازالت راهنتيه تتمثل في ضرورة التقعيد المؤسساتي، المؤسسات ينبغي أن تتحول من وجهها الشكلي إلى مؤسسات فاعلة، تحتضن التنافس والصراع.
إن حادث الأساتذة المتدربين أفرز لنا بالملموس أن مؤسساتنا مازالت عاجزة عن احتضان الخلافات و مازالت الحركات الشعبية في الشارع هي المعبر الوحيد لترجمة تطالعات جزء كبير من المغاربة لمشاكله، و أظهرت كيف أن بنكيران مسكون بالهاجس الانتخابوي؛ ويضغط للبقاء من أجل البقاء بدون أن يملك أفقا مستقبليا، فالمؤشرات الأولى تفيد أن هناك عنفا وعنفا مضادا. أفرز حالة احتقان سياسي واجتماعي، خارج عن التدبير المؤسساتي، وما تولد عن هاته الحالة من الانحباس السياسي ومن عقبات في تحقيق التنمية المنشودة، هذا الانطباع جعل فئات واسعة من شعبنا تعود للتسليم بالاستبدادية طريقاً لتحقيق التنمية ونسقط مرة أخرى شعار الدولة التنمية الديمقراطية…
ولعل خمس سنوات من التصويت على الدستور أفرزت نزاعا بين التيارات السياسية الممثلة داخل المؤسسات حضر تضارب في الرؤى دون أن يفرز تحديد نوع المؤسسات التي يشاؤونها بين اتجاه يدفع في نحو السير بها إلى اتجاه الملكية البرلمانية وتكريس الخيار الديمقراطي والآخر محافظ لا يريد المغامرة في هذا الاتجاه. غير أن هذا التباين لم يستطع أن يعكس ترجمة سياسية له فظهرت أزمة التمثيل رغم الإجماع حول الخيار الديمقراطي من دون أن يفرز حمولة سياسية بدليل أن الأحزاب السياسية تجتر مقولة التأويل الديمقراطي وتنسى بكون دورها هو إعطاء الحمولة للديمقراطية، الأمر الذي جعلنا نعيش في مشهد سياسي عاجز عن دخول عالم السياسة فالفواصل بين مختلف هذه التيارات لم يكن لها عمق سياسي واضح بل كان الخلط هو السمة الغالبة على مستوى الممارسة.
إن الإجماع حول الخيار الديمقراطي مفهوم لكونه ينظم مختلف الحساسيات السياسية، غير أن إسقاط هذا الإجماع على السياسية لا يستقيم، لكون ماهية السياسة تقوم على الاختلاف والتنافس والصراع الديمقراطي، كتعبير عن التعدد السياسي والخيار الديمقراطي هو الضامن لعدم إقصاء أي تيار سياسي. الرهان اليوم هو إرساء مؤسسات قوية تحتضن الخلافات وتعكس الديناميكية المجتمعية باعتبار المغرب مجتمعا تعدديا، مؤسسات تضمن تواجد الجميع وتكون مرآة تعكس المجتمع، تعطي للمخالفين حق الدفاع عن رأي الأغلبية، تكون مجالا يحتضن الخلافات بين القيم السياسية. وتبدو اليوم أكثر من أي زمن مضى الحاجة ماسة إلى نقد يحمله كل الفاعلين من التزام بمبادئ الحرية والمساواة للجميع، تكرس لمجتمع ديمقراطي بمؤسسات صلبة نعالج بها الفجوة الكبرى التي تفصل المواطن عن المؤسسات عبر مساءلة النظام الانتخابي والتمثيلي وإخراج السياسة من بعدها الانتخابوي الحساباتي عبر طرح برامج انتخابية على الناخبين.
إن طرح الاتحاد الاشتراكي لمقترح إلغاء العتبة لا ينبغي النظر إليه في إطار الهاجس الانتخابي الذي يحكم بنكيران وعصبته بل يجب النظر إليه في سياق الفجوة المؤسساتية والرغبة في أن تكون المؤسسات مرآة تعكس المجتمع، بالانتخابات كآلية لم تستطع التعبير عن التنوع والتعدد، فالمشكل الحقيقي هو كون المؤسسات مازالت بنية فوقية لا تحفز على العمل من داخلها، إننا معنيون بضرورة توجيه الحركة الاجتماعية إلى المؤسسات ومد الجسور معها والسرَيان أو الاندراج في قنواتها. علينا كقوى حداثية شعبية إدراك أهمية إرساء حدود سياسية جديدة بين الشعب والمؤسسات، فهناك حاجة ماسة إلى حداثة شعبية لمقاومة قوى الانغلاق ومواجهتهم ديقراطيا وشعبيا.