اختار سكان العاصمة البريطانية لندن صادق خان عمدة لهم بعد حملة انتخابية صاخبة شارك فيها أهم الفاعلين السياسيين في البلاد.
وقد اعتبر هذا الاختيار، مفاجأة بالنسبة لبعض متتبعي الشأن السياسي البريطاني من زاويتين:
أولا، كونه من أعضاء حزب العمال الذي واجه حملة شعواء من حزب المحافظين، استعملت فيها كل أساليب الهجوم السياسي وغير السياسي، لتشويه سمعة الرجل ومنع انتخابه على رأس أكبر مدينة بريطانية وإحدى أكبر العواصم العالمية الشهيرة ،لكنه استطاع هزيمة تلك الحملة، ونال أصوات اللندنيين.
ثانيا،كونه مسلما من أصل باكستاني ، يتحدر من وسط اجتماعي فقير،رغم قدرته على الارتقاء الاجتماعي، ومزاولة مهمة المحاماة، وتقلده منصبي النائب في البرلمان، والوزارة سابقا في البلاد.
غير أنه مالا ينبغي السقوط فيه عند محاولة تقييم هذ الانتصار في مطب أساسي، هو: التركيز على عقيدته الدينية، والمبالغة في إبرازها، سواء إيجاباً أم سلبا، ذلك أن عمدة لندن الجديد لم يعتمدها، هو نفسه أساسا، عاملا في ترشحه أو حملته الانتخابية، وإن كان اضطر خلال هذه الحملة، إلى إبراز أن إسلامه، لم يكن عائقا دون انحيازه إلى قضايا الكادحين، وإيمانه بالعدالة الاجتماعية التي رأى أن حزب العمال البريطاني، هو الذي يمكن أن يحققها، أو يقترب من تحقيقها بالنسبة لجميع اللندنيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الأخرى، بما في ذلك الانتماءات الدينية أو العرقية أو الإيديولوجية أو السياسية. ويبدو أنه لولا الحملة التي تم شنها عليه من زاوية عقيدته الدينية، وزعم انحيازه إلى تيارات التطرف الإسلاموي، لما أثار هذا الجانب من عقيدته أصلا، غير أنه كان لزاما عليه تفنيد ادعاءات خصومه، وتخليص الصورة التي يحاولون بثها ونشرها عنه، من شوائب الزيف والتشويه ،لتعطيل مساعيهم في منع فوزه في الانتخابات البلدية.وبهذا المعنى، فإنه بمجرد انتهاء الحملة الانتخابية وانتخابه عمدة ،يكون قوس عقيدة العمدة الدينية ، قد أغلق تماماً، ليتم التركيز على القواعد الدستورية والقانونية، التي على أساسها سيمارس صادق خان مهامه كغيره من المسؤولين البريطانيين الآخرين، بغض النظر عن دياناتهم أو عدم كونهم متدينين.
وهناك بعد آخر في قراءة هذا الاختيار، هو أن الرأي العام اللندني، لم يتأثر كثيراً بالحملات المعادية للمسلمين ،وهي لم تتوقف في أي وقت من الأوقات، وخاصة في الأوساط اليمينية والمحافظة. وهو ما يدعو إلى الاعتقاد أن التيارات المتطرفة المعادية للمسلمين ومن يعتبرونهم أجانب، بشكل عام، لم تتمكن من أن تكون لها اليد الطولى على اللندنيين، رغم تناميها في السنوات الأخيرة. وقد يعود الفضل في ذلك إلى أن الدولة لم تتبن بشكل رسمي مثل هذه الحملات، رغم صدور تصريحات هنا أو هناك لبعض المسؤولين ،يمكن القول أن في خلفيتها مواقف مسبقة من المسلمين في بريطانيا. إضافة إلى أن هناك مقاومة منهجية من قبل حزب العمال وعدد من المنظمات الحقوقية لكل المحاولات الموحية بأن المسلمين هم مصدر عدد من الآفات التي يعاني منها المجتمع البريطاني وخاصة على مستوى انتشار الجريمة ومختلف أشكال العنف. وقد كان لافِتاً للنظر خلال الحملة الانتخابية البريطانية الأخيرة، أيضاً، الهجوم اليميني والمحافظ المنظم على حزب العمال بقيادة جيريمي كوربين انطلاقا من استغلال تصريحات بعض أعضائه البارزين حول ما جرى خلال فترة صعود النازية في ألمانيا وطبيعة موقف هتلر من الحركة الصهيونية عند صعوده مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، حيث اتهم هؤلاء بأنهم معادون للسامية، وذلك في محاولة للتأثير على نتائج الحزب في الانتخابات البلدية. ويتعلق الأمر أساسا بتصريحات عمدة لندن الأسبق كين. ليفينغستون في حوار أشار فيه إلى أن هتلر كان مؤيدا للحركة الصهيونية عندما تولى الحكم، إذ كان يؤيد سياسة الحركة حول هجرة اليهود إلى فلسطين تحت الانتداب البريطاني قبل أن يصاب بالجنون تماماً ويتسبب في تصفية حوالي ستة ملايين من اليهود. وعلى الرغم من أن زعيم حزب العمال قد علق عضوية عمدة لندن الأسبق، وقرر فتح تحقيق حول هذه القضية وغيرها من قضايا التمييز العنصري داخل الحزب إلا أنه رفض بشكل قاطع اتهامات حزب المحافظين بزعامة ديفيد كامرون، حيث أشار جيريمي كوربين إلى أن حزب المحافظين هو الذي يعتبر مرتعا للأفكار التمييزية.
لقد كانت الحملة الانتخابية مرحلة شد وجذب ومواجهات سياسية بين الحزبين الأساسيين ،انتهت إلى بعض التراجع النسبي لحزب العمال في عدد من المناطق، غير أن فوز مرشحه في مدينة لندن غطى، في الواقع، على ذلك التراجع لما للعاصمة لندن من أهمية على جميع المستويات السياسية والمادية، ولإشعاعها الذي ميزها عن غيرها من المدن البريطانية والعالمية. فهل يعني انتهاء معركة انتخاب العمدة ،انتهاء المواجهات السياسية بين المحافظين والعمال؟ ليس ذلك مؤكدا تماماً، وان عبر العمدة الجديد عن أمله في أن يطغى الأمل بالمستقبل على كل شعور آخر كشعور الخوف الذي حاول البعض بثه في مختلف أوساط السكان.
وفي كل الأحوال، فإن مرحلة جديدة من إدارة لندن، قد بدأت فعلا وسيحكم اللندنيون بأنفسهم على هذه المرحلة، على أساس إنجازاتها وطبيعة اخفاقاتها، وهو ما يبدو أن حزب العمال مدرك له تماماً ،كما أن صادق خان مصمم على البرهنة على أنه الرجل المناسب لإنجاز مهام المرحلة الراهنة في لندن، وأساسا على مستوى العدالة الاجتماعية ومشكلات السكن ،ومعضلة المواصلات، في هذه المدينة العملاقة.
ومع كل ذلك، لا ينبغي أن ينسى عامل كون العاصمة ،قد عادت إلى العمال وهم القوة المعارضة الأساسية بعد أن كانت تحت سيطرة المحافظين الذين هم على رأس السلطة التنفيذية، ويملكون الأغلبية المطلقة في مجلس العموم البريطاني. ذلك أن لاختلاف المواقع من الخريطة السياسية في البلاد تبعات كثيرة على مستوى العلاقات الفعلية بين حزبي العمال والمحافظين.