أربعة مصطلحات، إذن مفاهيم للتفكير، ومن تم للتدبير، تختلف في ما بينها، رغما عن تداخلها، غير أنها في الإعلام العام أو الدارج والمبسط، تدرج غالبا وكأنها أمر واحد، وإن كان ثمة اختلاف، ففي الدرجة وحسب، لا في الحقل الدلالي (الاجتماعي-الايديولوجي والسياسي…) لكل منها. والحال أن الأمر ليس كذلك:
1-فالتطرف، يعني أن تدفع بالفكرة أو الموقف… إلى حدهما الأقصى، وذلك لمزيد توضيح أورد فعل في سجال… وعندئذ فقد يكون الرأي أو الموقف سليما أو سديدا، عيبه يكمن في تطرفه، وكما يقول المثل الصيني حول القضيب غير المستقيم، فإذا أنت أردت إقامته، اضطررت إلى إمالته بتطرف عكس وضعه غير المستقيم، وذلك حتى يستقيم.
لا خطر كبيرا من التطرف، وذلك حتى لو مس ما هو ديني وعقدي. المهم ألا يتجاوز الرأي أو ممارسته، إلى استعمال العنف من أجل فرضه. فعندئذ ينتقل تلقائيا إلى أمر آخر، وتاريخ البشرية، ومنه تاريخ المسلمين، زاخر بحالات أفكار وأفراد وجماعات… تطرفت، ولكنها التزمت سبل الدعوة السلمية والحوار.. فلم ينتج عن ذلك منها أخطار على المجتمع وعلى استقراره وتعايشه وحوار مكوناته…
إن فني الهزل والسخرية في المسرح أو الصحافة، والرسم بالكاريكاتير… يقومان على التطرف في إبراز الملامح أو إظهار العيوب. فلا ضرر منهما لأجل ذلك.. إلا أن يصلا درجات التشهير والقذف أو السب، فذلك يعتبر أمرا آخر يعاقب عليه القانون. من أجل سيادة النظام، بديلا عن الفوضى…
أما المبالغات، والتي قد تقتضيها بعض أنواع البلاغة، فإن حالاتها أكثر من أن تحصى أو تستحق الوقوف عندها في الخطابة والأدب… ولا أحد يشتكي من تطرفها، بل إنها أحيانا محبذة كما في الملاحم والأساطير والخرافات وأدب الهجاء…إلخ.
2-أما العنف، فلا يوجد ولا يتصور تاريخ بدونه.
العنف مستويات وأنواع ودرجات، غير أنه يمكن الحديث عموما عن نوعين منه رئيسيين: عنف مشروع، ضروري أو اضطراري، وعنف غير مشروع فاسد وظالم وعدواني..
إن العنف الذي يضطر إليه الآباء أحيانا اتجاه أبنائهم مثلا أو المدررون والمعلمون…، هو عموما غير محبذ ولا عقلاني، غير أن ممارسته في درجاته الدنيا مثل رفع الصوت أو التهديد.. لا تعتبر جريرة، ونفس الأمر في جميع حركات الاحتجاج المجتمعي أو الاجتماعي. فأن يرفع طفل صوته تظلما، فهذا عنف مشروع، فما بالك بالنضالات النقابية، فهي جميعا أشكال أو درجات من العنف، فالإضراب ووقفات الاحتجاج والتظاهر… كلها عنف، غير أنه مشروع وقانوني، أما نضالات الشعوب المقاومة للاستعمار وللعنصرية… فهي جميعها مشروعة حتى لو كانت مسلحة وتؤدي إلى تخريب وإلى قتل للأمنيين وللعسكريين… لا للمدنيين والمنشآت المدنية بالطبع.
ولا حاجة للتذكير، بأن نشأة الدين، وقيام الدول، قاما على مشروعية العنف من قبلهما، وقد يأخذ العنف صيغة “لا عنفية” شكلا، كما كان عليه حال دعوة السيد المسيح مثلا في القديم. أو استراتيجية غاندي المعروفة، والتي اقتدت بها الحركة الوطنية في المغرب. وذلك عن طريق ترديد “اللطيف” في المساجد، الأمر الذي دفع بالمستعمر الفرنسي إلى تشريع القانون المشهور بـ”كل ما من شأنه” أن يؤدي
إلى العنف.
بهذا المعنى أيضا، يمكن اعتبار الكثير جدا من استفزازات الاستعمار والإدارات التابعة له. أنواعا من العنف الرمزي. والذي لا يقل خطرا أو تأثيرا عن العنف المادي. وذلك من خلال وسائط ما يسمى بالثقافة الجماهيرية في التعليم والإعلام والمساجد والشارع العام والاستعراضات وبعض “الفن” وبعض الخطاب الحزبي…
3-أما الإرهاب: فهو عنف منفلت، فردي أو جماعي، يصدر عن الإدارة (=الدولة) أو عن المجتمع نفسه، وضدا على جزء من المجتمع وعلى إدارته. يتغيى أهدافا سياسية ظالمة وفاسدة، كما قد تكون “عادلة”، رغم أن وسيلتها ليست كذلك. وهي لذلك تنتهي إلى الاخفاق دائما
إن الأداة الرئيسة للإرهاب، هي الاغتيال و/أو التخريب والتحريق، لا لذاتها، بل لما يتصور الإرهابي أنه فعل مؤثر وناجع ومختصر… لأجل تحقيق أهدافه ذات الطبيعة “السياسية”، وبالطبع فلا يلزم عن ذلك أن يكون المنفذ واعيا بأهداف المخطط والممول للإرهاب.
فساد استراتيجية الإرهاب في مجمل التاريخ المعروف للإنسانية، آت من وهم أن الأنظمة المختلفة تقوم أساسا على الأشخاص (القيادة) أو على بعض المقومات المادية لقيامها، ومن تم يمارس ضدا عليهما، أو على من يرتبط بهما من أفراد المجتمع، جرائم إرهابية بقصد إضعافهما وتسهيل مهمة بلوغ سلطة الحكم، وذلك دونما حاجة إلى رهان على المجتمع نفسه، والذي يتصور (يتوهم) الإرهابي أنه بذلك يقدم له خدمة، حين يخلصه من حكامه، الذين يعتبرهم ظلمة، أو مستبدين أو حتى مستعمرين…
المستفيد الرئيس من الارهاب، هي غالبا الإدارات المستهدفة به، تزداد منعة، تبرر قمع الحريات، وتعوض بتضخم الأمن وميزانياته، برامج التنمية.. والمستفيد الأكبر، فوق ذلك هم تجار الأسلحة وسماسرتهم، أمراء الحروب وتجار الدين، أما الشعوب فهي الخاسر الأكبر دائما من الارهاب.
الإرهابي في أعماقه، محتقر للشعب، تماما مثلما يعتقد ويتصرف الحكام الذين يرهبهم. وتلكم نقطة ضعفه القاتلة، وأيضا فالإرهابي بدون برنامج، يقتصر على الاعتراض ولا يمارس المعارضة. فهذه تشترط قاعدة اجتماعية منسجمة، ومصالح مشتركة وبرامج تاكتيكية لخدمة أهداف استراتيجية معلنة وواضحة.
الإرهاب انحراف سياسي، قد يصيب جزئيا ومؤقتا، الحركات المشروعة للمقاومة الدينية أو الوطنية ضدا على الاستعمار، (الجزائر-المغرب-فلسطين…) غير أنها سرعان ما تنتقده وتتجاوزه… وإلا انتهت إلى الفشل كما وقع في كثير من حالاتها القديمة والوسيطة كما الحديثة والمعاصرة.
لم يحدث في التاريخ أن نجحت حركة إرهابية في بلوغ الحكم، وإذا حصل، (القرامطة) فإنها سرعان ما يرتد عليها أسلوبها، فتنفجر بتناقضاتها الداخلية، وتنتهي إلى إرهاب ضد بعضها البعض.
أكثر الطبقات والفئات الحاضنة لإيديولوجيا الإرهاب، هي في الغالب تلك التي لا دور لها، أو لا مستقبل لها، في دورة الإنتاج الاجتماعي: البورجوازية الصغيرة وعموم المهمشين في المدن، والذين لفظهم عموما الاحتكار الرأسمالي للأراضي الزراعية… فنزحوا نحو هوامش المدن، وعاينوا بل وعانوا من ويلات العنف والظلم والاحتقار… الاستعماري والطبقي السفيه..
ولا يهم بعد ذلك، نوع الخطاب الإيديولوجي الذي يرفع من قبل الإرهابيين، تبريرا وتحشيدا وتحريضا على جرائمهم. فهو خليط غالبا بين الفوضوية والشعبوية وخطابات التدين الوثني وخاصة منه عبادة الأشخاص (=الأمراء).
السلوك الإرهابي، هو سيكولوجيا، تصرف انتحاري، يعكس اجتماعيا حالات انحلال وتفكك وانعدام للأمل.. بالنسبة لفئات اجتماعية مهمشة وهشة ومقصاة من دورة الإنتاج الاجتماعية-السياسية والثقافية..
الصراع السياسي موضوعه الحكم دائما، وذلك بين من يحاول بلوغه، ومن يحاول المحافظة عليه في إدارة الدولة، وهؤلاء، قد يتوسلون أيضا بالإرهاب أداة للمحافظة على الحكم.
فإذا كان إرهابيو المجتمع لا يفلحون في بلوغ الحكم عن طريق الإرهاب، بل هم يعرقلون بلوغه من قبل بدائلهم الشعبية والثورية، ويؤجلون الثورات (تركيا-إسبانيا والولايات المتحدة… في القرن الماضي). بل إن الإدارة (الأمنية خاصة) قد تبادر هي نفسها إلى اصطناعه، وإلى تسهيل مهامه، بل وإلى التحريض عليه أحيانا، سبيلا لتحريف إرادة المجتمع، وإفسادا لاستراتيجية الثورة… (وهو ما يتعمد إليه الاستعمار دائما). فما معنى هذا الاستفزاز اليومي الفرنكوفوني مثلا، وتوظيف التدريج ضدا على اللغة الفصحى الموحدة والموحدة. وهذا التشجيع على المخدرات وعلى العفن في الفنون وعلى تشويه الذاكرة ومحاولات محوها من قيمها ورموزها… أليس هذا ارهابا ثقافيا وقيميا. أكثر من ردود فعله الارهابية اللاحقة عليه (؟!)
فإن إرهاب الإدارة يفلح غالبا من حيث أهدافه التاكتيكية، سواء منه ذلك الموجه لخصومها في المجتمع، وذلك عن طريق الاغتيالات غالبا (المهدي وعمر…) أو الاختطاف، وحتى الاعتقالات الجماعية بدعوى المؤامرات مثلا، كما حدث في المغرب غير ما مرة، وخارجه أيضا كثير..
إن إرهاب الدولة، على خصومها وأعدائها أو بين مكوناتها، يكون له مردود مباشر، ولو أنه قد يكون مؤقتا. إن اغتيال لومومبا أو عرفات مثلا يسمح بتفسير الكثير مما ترتب عليهما، وكذلك الأمر بالنسبة لحالات اغتيال كينيدي الذي سمح بتصعيد العدوان على فيتنام، وذلك بمبادرة من قيادة “المجمع الصناعي العسكري” الأمريكي. (جونسون) وكذلك الحالات اللاحقة في (اندونيسيا – غانا – مالي… شيلي ثم أخيرا يوغوسلافيا) إرهاب الإدارات الرجعية والاستعمارية (إسرائيل اليوم) إذن، هو أخطر من الإرهاب السياسي الصادر عن المجتمع، وذلك من حيث آثاره الاجتماعية والسياسية وعواقبه الكارثية.
بؤس الوعي الإرهابي يصل مداه، عندما تنتهي به وسائله، إلى النقيض المطلق لأهدافه المعلنة. إنها الحالة النموذجية للتراجيديا، وذلك حين يقدم خدمات جليلة لـ”أعدائه” المفترضين، ويعادي ويعتدي على من يفترض أنهم قاعدته الاجتماعية وهدفه “الثوري” أقصد الشعب.
4-ظاهرتا الإرهاب والتوحش، ليستا حديثين، بل بالعكس، ولقد تداخلتا في التاريخ، بحيث يصعب التمييز بينهما في النظر كما في الممارسة، ومع ذلك فهما أمران مختلفان رغم تقاطعهما بل وأحيانا تطابقهما.
الإرهاب عنف وتخريب للمدنيين وللمدينة… يستهدف غاية سياسية (=الحكم)، أما التوحش فهو عنف أهوج، لا منطق له ولا غاية، سوى العنف نفسه، هذا مع أنه يمكن، بل ويسهل توظيفه من قبل الإيديولوجيا، والتنظيمات الإرهابية وذلك لخدمة أهدافها “السياسية”.
في التوحش، ثمة التقاء أو تقاطع جملة مفارقات يجب تمييز أطرافها بعضها عن بعض، وذلك حتى يتضح الموضوع وتتضح العلاقة.
تستطيع الإيديولوجيا والتنظيمات الإرهابية توجيه وتوظيف نزعات التوحش، وذلك لأجل خدمة أهدافها السياسية، ويبدو أن لذلك، وكأنهما أمر واحد.
في الماضي العربي الوسيط مثلا، يستطيع المؤرخ اليوم بسهولة، التمييز بين الطاقات التدميرية لـ”الحشاشين”، وبين توظيفهم من قبل الأمراء، أو الحكام
أو التجار، أو حتى الدولة نفسها أحيانا، ضدا على أخصامهم ومنافسيهم سياسيا
أو تجاريا… على النفوذ.
ونفس الأمر بالنسبة لإيديولوجيا اليهودية المحرفة، ذات النزوع العنصري والعدواني المتوحش بالنسبة للأغيار (الأعداء دائما) مقارنة إلى الإيديولوجيا السياسية للصهيونية، والتي هي بدورها نتاج إيديولوجيا الرأسمالية الاحتكارية-الاستعمارية الغربية. فهي توظف طاقات التوحش “المتدين” لخدمة أهداف سياسية، وبوسائل إرهابية.
وكذلك هي الحالة اليوم، عندما نلاحظ هذا التوظيف الرأسمالي الغربي وملحقاته في المنطقة (الخليج-تركيا وإسرائيل) لجماعات التوحش الوظيفية (الشيشان ومن جاورهم من بقايا التتار…) فضلا عن ضحايا الاستعمار وتوابعه “العرب”، من المهمشين والمفقرين ماديا وعقليا وأخلاقيا والمحيطين سكنا بهوامش المدن العربية (والافريقية كذلك.)
في جميع تلك الحالات وأمثالها، لابد من وجود طرف ثالث، يقوم على ربط المفارقات ولحم المتناقضات، إنهم دائما، التحالف “المقدس” بين تجار التدين وتجار الحرب، الأمراء والوعاظ، وهؤلاء لا يمكن أن يخدعهم أحد من خارجهم؟، إنهم تجار يستثمرون تجاريا وماليا… في السوق المذرة أكثر من غيرها في زمن الاستبداد والاستعمار، سوق التدين، متداخلة ومتكاملة مع سوق الدماء والخراب، شرط التضحية بالمعدمين، جسديا، وتوظيفهم بذلك سياسيا، هي أمور تتطلب أولا، تغليطهم إيديولوجيا، وتضليلهم دينيا، وتحريف تدينهم نحو “جهاد” يضمن لهم في الآخرة ما حرموا منه في الدنيا… وتلكم وظيفة السدنة غالبا: الأحبار والرهبان وفقهاء الحروب…
راهن العالم، في ظل سيادة الرأسمالية المتوحشة، وخاصة في زمن أزماتها المتفاقمة، ومحاولاتها للتخلص منها عن طريق ترحيلها نحو المستضعفين، يوفر بيئات وتجمعات بشرية محتضنة لشروط التوحش ومنتجة له، ذلك لأنه النمط السائد لمعاشهم اليومي. وذلك فضلا عن التحريض عليه بالاستفزاز اليومي لهوياتهم وقيمهم. والدعاية في أوساطهم في المقابل، للعنف ولوسائله كأداة للرد المطلوب من قبل نفس الرأسمالية وأذنابها في ادارات مستعمراتها الجديدة والمتجددة، أقصد نشر ايديولوجية التطرف والعنف والارهاب وصولا إلى التوحش. حيث تعيد توظيف جميع ذلك:
1- للضغط والتشويش وعرقلة أهداف التنمية والديمقراطية لدى ادارات الدول الوطنية الممانعة والمقاومة. وفي الأقصى إسقاطها.
2- تخريب البنيات، وتفكيك الروابط المجتمعية والاجتماعية… والاستثمار لاحقا في إعادة بنائها.
3- بيع الأسلحة والذخائر وكل مستلزمات حروب الفتن والفوضى.
4- خلال ذلك، ودائما، يستمر هدف “تقليل الأفواه” كثابت استراتيجي في المخطط الامبريالي-صهيوني والرجعي في أوساط المستضعفين.
“الداعشة” الاجتماعية- الثقافية. حالة عامة منتشرة وسائدة ، ولدى جميع الطبقات تقريبا، لا تحتاج من أجل تحويلها وتسييسها “ارهابا” وفوضى عارمة. سوى مخابرات أجنبية وحفنة دولارات وحزمة أسلحة وذخائر، وأمراء حرب وخطاب “متدين” لمشايخ وفقهاء مأجورين، وتشتعل الفتنة وتنفجر التناقضات الكامنة، الحقيقية منها والمصطنعة.. وجميع ذلك، تستطيع القوى الاستعمارية توفيره، وذلك حينما تقرر وحينما تريد، ولا تقيم حينها اعتبارا لاحتمالاته ومآلاته. حتى ولو بالارتداد عليها لاحقا. الاعتبارات السياسية، هي ما يحسم في الاسبقيات. وإلا فإن جميع المستضعفين في العالم مستهدفون، وعلى التوالي: إلغاء الدول (=الجيوش) تفكيك المجتمعات، تخريب الثقافات وتقليل الأفواه. وسيادة الرأسمالية المتوحشة
التوحش بين عصرين
(البدائي والراهن الاستعماري)
1-يحتاج موضوع ظاهرة التوحش إلى وقفة استرجاع معرفية تاريخية.
في البدء، ومنذ 6 ملايين عام، كانت أصولنا محض حيوانية، استمرت متوحشة، رغم المشي على القدمين ثم اختراع الأدوات (3م) من قبل “الآدميين” أشباه البشر عصرئذ، ثم الإنسان المنتصب الخارج من الغابة، (1,5م) وهو سلفنا المباشر، ثم بداية النطق (مليون عام) واكتشاف النار (نصف مليون عام) واختراع اللغة (50 ألف عام)… وذلك قبل، ومن أجل، أن يتأكد اختراع الإنسان العاقل، العضو في أسرة، العامل والمدجن والمزارع والمؤسس للدين وللأخلاق والقانون والفن، والمخترع للكتابة وللدولة، وذلك في حدود 10 إلى 20 ألف عام قبل بداية التاريخ.
ماذا يساوي إذن، تاريخ التمدن، نسبة إلى تاريخ التوحش (؟!)
لقد كان تجمع (وليس اجتماع) البشر البدائي في شكل قطعان متلاحمة داخليا، متعادية وعدوانية خارجيا. والقاعدة عندها، هي النهب والقتل والتخريب، (إذا لم تقتل قتلت)، على عجل ودون رحمة… الحقيقة والحياة والاعتقاد… توجد في القطيع. أما “الآخر” (=الأغيار) فهو أبدا خطر قاتل، هو الغنيمة الغذائية والجنسية (العبودية أتت لاحقة). وكان التقطيع الجسدي لـ(الكافر) شعيرة، لقد كانوا يقتلون ولا يقاتلون (أخلاق الشجاعة لاحقة أيضا في الزمن) ودائما من خلف أقنعة(؟!).
على رأس القطيع، إله معبود، إنه الأب الأكبر والأقوى، مطاع بشكل مطلق، بما في ذلك إطاعة الأمر بالانتحار حرقا أو تغريقا.. عند الاحتياج، وذلك كان مصدر قوة القطيع (التجانس المطلق)، ومقياس التفاضل والغلبة بين التجمعات تلك.
(نستطيع أن نعاين بعض ذلك “الإرث”، في الكثير من تعاليم كتب التوراة، خاصة النزعة الاستعلائية، والعنصرية-الاحتقارية والتكفيرية لـ”الأغيار” (=الآخر)، ذلك مما احتفظ به “الأحبار”من الوثنية، في العقيدة اليهودية خلافا لتعاليم موسى).
وأكثر ذلك نستطيع بسهولة معاينته في عقائد وممارسات الإرهاب المتوحش من ذلك مثلا:
1-المظهر الخارجي المتوحش للتخويف: الشعر غير الحليق / التمظهر بالعضلات والتسلح / التحرك في شكل قطيع / السكن في الغيران والحفر والكهوف…
2-الغرائزية الجنسية المنفلتة / اعتبار المرأة غنيمة حرب / الاغتصاب والتعدد، وتشهي الابكار، وخاصة منهن الطفلات والمراهقات.
3-نزعة القتل بالتقطيع وبالتحريق (تعبد بدائي) ثم بالذبح (وهو لاحق وأرحم عندهم) فضلا عن تخريب ما لا يمكن اغتنامه (=نحكم أو نقتلكم).
4-الاعتقاد في الجماعة (=التجمع) واعتبارها الحقيقة والفضيلة… مطلقا (=شعب الله المختار) واحتقار وتكفير الخارجين عنها جميعا (=الأغيار) واحتكار الحق في تخييرهم من قبل الأب الأمير، بين: الإدماج أو الاستعباد أو التنكيل (=التقتيل، النهش والتمثيل بالجسد).
5-مصدر الوحدة، وسر المِنعة والقوة، هو الانضباط المطلق للأمير (عبادة الأحياء) والتي هي تاريخيا،عبادة سابقة، وأكثر همجية، مقارنة إلى عبادة الأسلاف، الموتى والقبور (لاحقا الاقتصار على تقديسهم أو احترامهم) وهذا بعض سر تخريبهم وتفجيرهم اليوم، لمقامات الأولياء والصالحين، والذي اختلط لديهم ب”الوهابية” أو حتى “التيمية”، وهو تدليس أيديولوجي مقصود ومدبر، من قبل صناعهم وأمرائهم (ابن تيمية ثم ابن ع. الوهاب.. كانا ضد تقديس الأحياء (وأحرى عبادتهم كما تمارس داعش)، أكثر من حربهما لتقديس الأسلاف و”التعبد” للقبور).
6-النزعة الفوضوية، (دون تنظير) عمليا العودة إلى منطق الغابة، حيث الغلبة للأقوى، لا لقانون ولا لإدارة ولا لأخلاق.. وذلك ما تعنيه في الممارسة “دولة” الدين أو الشريعة أو الخلافة أو “لا حكم إلا لله”…إلخ.
7-تخريب عنيف، مادي ورمزي، لكل ما يذكر بتأسيس التاريخ والمدنية والحضارة، أي لكل ما كان سببا مباشرا، في التاريخ، للقضاء على التجمعات والقبائل المتوحشة وعقائدها الوثنية وممارساتها الفوضوية (تخريب الآثار الحضارية العمرانية في الشام والعراق…، وذلك بوهم أنها “أصنام”؟ ! مع أنها أحيانا، تماثيل فقط للزينة !).
8-ضد المِلكية، إذن عمليا ضد العمل وضد الأسرة، ويبررون النهب والسرقة.. بأنها غنائم حرب ضدا على “الكفار” و”المرتدين” (=الآخر/الأغيار)…إلخ.
9-سيادة أنماط التفكير ما قبل ديني (وأحرى ما قبل علمي): السحر والخرافات و”أساطير الأولين”، والاعتقاد في إمكان حدوث الخوارق والمعجزات… كيف لا وهم على يقين مطلق بأن الله معهم (فهم شعبه المختار) يساعدهم، ومفاتيح الجنة طوع أيديهم لذلك، للكسل والتبطل والاستهلاك غير المنتج والافتضاض المتكرر لفروج “الحور العين”.
10-تمة أيضا حالات تذر حاليا بقرنها، مآلها أن يتسع نطاقها لممارسات طقوسية (تعبدية) للتخدير، سواء خلال التعذيب والتقتيل، أو الممارسة الشبقية للجنس، وكذلك الممارسة الجماعية له (التهتك)، وإن كان ذلك يمارس حاليا عن طريق تيسير “مسطرة” الزواج والطلاق بما يسهل “التهتك” عمليا. وهو ما يذكر بمؤسسة “الشامان” في العصر البدائي المتوحش.
[ تبقى مسألة تفسير ظاهرة بعض المشاركات الرمزية عدديا، لبعض أبناء الأسر العربية أو الغربية الموسرة، وهذه عموما تدخل في باب التوحش الرأسمالي من جهة، والأمراض والعقد النفسية أو الاختلالات العقلية… التي تنتشر كثيرا جدا في تلك الأوساط اليوم (مرض القرف / الاتساخ والإهمال/ التبطل / الميل نحو العنف والمخاطرة/اغتيال الأصول/ الشبق والاغتصاب وزنا المحارم…إلخ.]
*
الحضارة قشرة رقيقة، تكبت عمقا من التوحش، فإذا استفزت القشرة، ومورست عليها محفزات: اقتصادية-اجتماعية-سياسية وأخلاقية… انفجر المكبوث فرديا أو جماعيا، وذلك في صيغ من الكراهية والحقد والثأر والاستعداء والانتقام… خاصة إذا وجد من يرعاه ويغذيه ويحرض عليه ماديا وإيديولوجيا بخطاب “ديني” تسويغي وتحريضي.
ولقد تولى كبر ذلك اليوم الاستشراق الأمريكي، خاصة منه برنارد لويس ومدرسته، والذين وقفوا طيلة سنوات طوال وبإمكانيات “علمية” ضخمة، على الحفر في الذاكرة الإسلامية، والتنقيب فيها عما يمكن بعثه وإعادة إنتاجه في صيغة ملائمة للعصر و”مشروعة” في تاريخ التدين، ووجدوا في نماذج الخوارج والإسماعيلية (القرامطة والحشاشون…) كنزا ثمينا، ورصيدا ثرا من طاقات التخريب والتقتيل والتحريق…
ووضع السنة اليوم، يكاد يطابق وضع الشيعة في العصر الوسيط وذلك خاصة من حيث إحساسهم بافتقاد الدولة “الشرعية”: الراعية والحامية، وما ينتج عن ذلك تلقائيا من تفريق وتفقير واستضعاف… خلاف حالة “الشيعة” اليوم، الذين خرجوا من وعي وممارسات “التقية”، وأضحوا أكثر عقلانية وأكثر ثقة بأنفسهم واستعدادا لمواجهة التحديات، مقارنة إلى مذهب أشقائهم ومنافسيهم “السنة” (؟!)
لنر الآن، وعلى سبيل المقارنة والتناظر، إلى الوضع الراهن والمتوحش، للرأسمالية، وهي في مرحلة ما بعد الانحطاط، مرحلة التفكك والاحتضار. مظاهر ذلك تكاد تكون بلا حصر، وتشمل بنية النظام كله. اقتصادا واجتماعا وسياسة وثقافة وقيما أخلاقية…
1-إذا اعتبرنا العقل والعقلانية والتعقل… من أهم مقومات التمدن والتحضر، فإن حاضر الرأسمالية، يراكم يوميا درجات من اللاعقلانية على جميع المستويات. وأخطرها، يسود على الصعيد المالي والاقتصادي… المتمثل في سيادة الفوضى وخرق القوانين التي وضعتها هي نفسها فضلا عن المضاربات والاحتكار والغش والتزوير والقرصنة وتضخم المديونيات وتجارة السلاح (بالتالي الحروب من جميع الأنواع)،واغتيال الجسد والبيئة والنفخ المصطنع للأرقام، بمعاملات وهمية لا مراجع لها،هي أقرب إلى القمار منه إلى الإنتاج وإلى التجارة…إلخ.
اقتصاديات الفوضى (أو اقتصاديات الظلام) السائدة عالميا، هي المصدر الرئيس لنظرية “الفوضى العارمة” واستراتيجية نشرها وتسييدها ثقافيا وسياسيا، على صعيد دول وشعوب جنوب وشرق العالم.
“تحطيم العقل” هذا، والارتداد عنه في الغرب الرأسمالي، وأيضا لدى أتباعه في الجنوب. هو ما يفسر أيضا إعادة القيمة والاعتبار عندهم، للشعوذة والسحر والخوارق والكهانة والخرافة والتدين الوثني… كما يتجلى ذلك مثلا في الفنون (السينما خاصة) وفي أخلاق وسلوك المجتمعات المعاصرة.
2–النزوع الاستهلاكي الشره، والتخريبي للطبيعة، وذلك على حساب الإنتاج والإنتاجية،وعلى حساب الإنسان وبواسطته (=المأساة) وهو أيضا ما يذكر بحال البشر البدائي أو “الطبيعي” قبيل التاريخي،والذي ارتبط عكس ذلك، بـ”العمل” ومن تم رعاية البيئة والمحافظة على الطبيعة، بما فيها جسد الإنسان طبعا.
النزوع الاستهلاكي، لا يقتصر تخريبه على المحيط الطبيعي فقط، بل يرتد على الإنسان نفسه، فردا وجماعة، يبرز ذلك خاصة في السفه في الصرف، والشره في الأكل، والشهوانية الجنسية الشبقة،مفصولة عن الحب وعن الأسرة، والمتعة المنفلتة… وأقصاها بالمخدرات والمغامرات الجسدية الانتحارية… المباشرة وغير المباشرة (=القرف مثلا) (المخدرات والانتحار.. كانا يمارسان بدائيا كتعبد).
السفه في الاستهلاك، هو الادعى لردود الفعل الاجتماعية المتطرفة والعنيفة.. أكثر من الفوارق الطبقية نفسها. وهو ما يفسر كون الإرهاب مثلا، ينتشر في هوامش المدن الكبرى، أكثر منه في القرى والبوادي، مع أن هذه الأخيرة تعتبر أفقر، مقارنة بهوامش المدن (؟!) حيث الكثير من المساكن، هي أقرب إلى (حظائر) و”كاد الفقر أن يكون كفرا”.
3-تعميق الفوارق بين البشر بدرجات مهولة: بين الدول وبين الجهات داخل كل دولة، وبين الطبقات والفئات، وبين الذكور والإناث، والأقليات، وبين الأجور… (وإثارة أو حتى اصطناع التناقضات الهوياتية المزيفة والمحتضرة: دينية – مذهبية – طائفية – لغوية وقبلية…) وأرقام هذا النمط من الفوضى واللاعقلانية في العلاقات الاجتماعية السوية، المتوازنة والمتضامنة. بلغ درجات قصوى من درك العودة إلى العبودية والحياة الأدنى من الحيوانية، والقتل الممنهج وغير الرحيم،وذلك بالتفقير ونشر الأوبئة والأمراض المعدية… والأغذية والأدوية الفاسدة والمزورة والجريمة المنظمة… فضلا عن إنتاج ونشر الحروب من جميع الأنواع من أجل (تقليل الأفواه) فضلا عن بيع الأسلحة وذخائرها…
هذا الوضع فاحش البؤس، والمناقض مطلقا للإمكانيات الموضوعية لإسعاد البشر وحفظ الأرض (تطور العلم والتقنيات)، لا يمكن “الإقناع” به وتسويغه بأية ايديولوجية دينية أو غيرها. ولذلك يسود العنف الممنهج والمعمم، العالم المعاصر.
4-العنف إذن، هو الأداة الأنجع لفرض وضع التفاوتات المجحفة والظالمة والسائدة في عصرنا، نجده، فضلا عن الحروب وتجارة السلاح والجريمة المنظمة أوالفردية التلقائية… في جميع مظاهر الاجتماع البشري الراهن. وذلك انطلاقا من الأسرة (تعنيف النساء والأطفال) إلى المدرسة والشارع ووضعية العاطلين والأقليات… مع التطبيع الأخلاقي معه. خصوصا عن طريق ما يسمى بـ”الثقافة الجماهيرية”في السينما والغناء والرقص وبعض “الرياضات”… إلخ.
العنف الراهن، لا يقل همجية عن عنف أجدادنا المتوحشين، بل هو يذكر به(؟!)
5-يمثل تأسيس مفهوم “الثقافة” في بداية العصر الحديث، وعلى أيدي “المثقفين” البورجوازيين، حدثا جبارا في تاريخ الإنسانية. ذلك لأنه ولأول مرة، يحدث أن تصبح المعرفة وحملَتها، غير محتكرة من قبل إدارة الدولة وكتابها. بل في خدمة المجتمع المدني (=البورجوازي) الحديث. ومن ثم، لا تقتصر المعرفة على تفسير العالم (=تكريسه) بل وتسعى إلى تغييره أيضا (=المعارضة). وهو ما يعنيه الإصلاح الديني ثم “الأنوار” وما تلاهما من إصلاحات ومن ثورات…
هذا الامتياز الثوري (=الثقافة)، تخلت عنه بورجوازية اليوم، السائدة منها والتابعة، وتحولت معه (الثقافة) إلى محض أشكال بدون معنى، بل ومحتقرة للمعنى، منشغلة بنشر العبث واللامعقول والعجائبي الخارق… وإعادة إنتاج الخرافة و”أساطير الأولين”، والاهتبال بالجسد العاري والمثير جنسيا، أو المتسخ والممزق الهندام،أو المفتول العضلات… على حساب العناية بالعقل والعواطف، “ثقافة” غرائزية عنيفة ومخيفة، تستثمر في الرعب والعنف والقذارة… تعليم منفصل عن الثقافة وعن التربية، بالتالي عن الأسرة والمجتمع، مربوط أساسا إلى سوق، يعيد إنتاج العطالة والجهالة يوميا، وإعلام يروج للاستعراض والإشهار والتضليل والبهتان وحتى الكذب. “ثقافة” تخلط عن عمد بين الفردانية والأنانية، وبين التنافس والتناحر، وبين الراحة والتبطل، وبين الطمع والطموح، وبين الحرية والفوضى، وبين الجنس والتهتك، وبين السعادة والمتع الانتحارية: الكسل/ القمار/ المخدرات/ الجنس المثلي/ زنا المحارم…الخ.
6-تهويد القيم، خاصة منها سيادة العنصرية، سواء بالمركزية الغربية (=شعب الله المختار) أو الخطاب السائد عن مفهوم “الآخر” (=الأغيار) استصغارهم واعتبارهم كفارا، وبالتالي أعداء، واحتقار المرأة وتهميشها وتسليعها، وكذلك بقية المستضعفين من العاملين والعاطلين والفقراء والغرباء أو الأجانب (=المهاجرين) والمختلفين في التقاليد والعادات والجماليات…(=الفلكلور). وتحريف وإفساد “النخب” بالمنح والجوائز والأسفار.. والنشر والمؤتمرات “العلمية” والألقاب والدعاية…
أو تهميشها وتهديدها عند الممانعة وأحرى المقاومة…
7-إن استهداف الشعوب والأمم، وبالتالي الجيوش والدول، ومن تم إلغاء الحدود الوطنية (ومنع توحيد الأمم القومية وحقها في السيادة والدولة..) وانفتاح الأسواق الوطنية لسلعها والتسليع المعمم على الإنسان وقيمه وكرامته… هو ما يفسر هذا الانحدار والانحطاط، بل ومحاولات اغتيال “السياسة”،إذن اغتيال إدارات الدول، إذن النظام العام… ما يعني سيادة الفوضى العارمة في عوالمنا المستضعفة.
إن ما يلاحظ في المغرب مثلا من “صعود” وانتشار تجار السياسة، وانحطاط خطابهم، وسيادة المناورة والكذب والبهتان على ممارساتهم… هو جزء من كل، وفرع عن أصل. يوجد في النظام الرأسمالي العالمي المتوحش، في مراكزه، لا فقط في الأوطان التابعة له، وأحرى في الزعماء الذين هم اليوم غالبا، محض كراكيز(؟!)”.
لقد انحط العمل السياسي من التطوع إلى الاحتراف، ومن تم احتكاره بين أقلية، تمارس سياسة “الأشياء” في السوق، لا سياسة الأوطان والإنسان، وتستحيل السياسة بذلك إلى محض “لعبة” وبهتان وبلطجة وعصابات وديماغوجية وزندقة وقذف وسب… وتصبح أقرب إلى مسرح التهريج، منها إلى العمل العام والنبيل، كما هو مفترض فيها ومنها.
8-إن الخلفية الفلسفية والقيمية لذلك النمط من الممارسة “السياسية”، يكمن في نشر العدميات واللاأدرية والعبثأواللامعنى وأخلاق العنف والزندقة والفوضى(=الكلبية) والسفاح والتبطل والمخدرات والحس الانتحاري وتحبيب الشر وعواطف الحقد والكراهية والضغينة والحسد…
إنها وغيرها، هي تقريبا مضمون وهدف، خطابات وممارسات قادة الأنظمة الاستعمارية وتوابعها المستبدات. وأيضا جيوشها الايديولوجيين من الأساتذة والأدباء والفنانين والإعلاميين المأجورين… كما نعاين ذلك ونعاني منه، في مراكز “البحوث” والمعمار والشارع والموسيقى والرقص والهندام والمقررات الدراسية والسينما والتلفزة…الخ.
عندما يوضع الأفراد وحتى الجماعات، ودون حماية، في شروط التوحش، فإنهم يتصرفون تلقائيا كمتوحشين(؟!)
9-رأسمالية التوحش، والتي تحن إلى “أصولها” في التجمعات البشرية لما قبل الدين والحضارة والتاريخ… نحو عبادة الأحياء والأشياء (=الفتيشية) والعنف كشعيرة تعبدية… والفوضى… تستهدف في الأقصى من سلوكها ومضمراتها. تفكيك الأسرة والعائلة، وروابط الحب والمحبة والجيرة والصداقة… وقيمها في التضامن والتعاون والتآخي…
إن الأسرة هي التجسيد المادي للدين (الفطرة) والمحافظة عليه بها، من خلال إعادة إنتاجه في كل جيل، هي البوثقة التي تنصهر فيها كل مكتسبات الإنسانية في التمدن والتحضر، وأيضا فإنها النموذج المصغر للدولة وللنظام ولمقتضياته في التكافل والتعاون والتماسك والمقاومة. إنها ما حوفظ عليه وتكرس من القيم والفضائل، التي أهلت البشر لكي يصبح إنسانا عاملا وعاقلا، ومن تم لكي يدخل التاريخ ويصنعه، بالعمل وبالخيال وبإرادته الجماعية المنظمة والهادفة.
تجتمع الأسرة على الإنتاج المتضامن، وعلى الاستهلاك غير السفيه، وعلى الحب والمحبة وعلى الوفاء والإخلاص، لا عنف ولا حقد ولا حسد، كالجسد الحي يشتكي بعضه لبعض، ويسند بعضه بعضا، وأي خلل في عضو، يؤثر سلبا في بقية الأعضاء، وبالعكس، ذلك هو الدين القويم. الفطرة التي دعا إليها جميع الأنبياء والأولياء والحكماء والرسل.
الذي يستهدف النظام والدولة والدين… لابد أن يستهدف الأسرة أولا، وذلك مثلا، عن طريق تشجيع الطلاق والتطليق (=المدونة) والعزوبية والإنجاب خارج الأسرة عن طريق التهتك، والسفاح والإجهاض والشبق والجنس المثلي أو مع الحيوانات والفردانية الأنانية (=النرجسية)… (والنقاش المغلوط حول الإرث؟!)
كل تفكيك للروابط الأسرية والعائلية، وما يرتبط بها في الاجتماع البشري (جيرة- صداقة- زمالة…) هو مساهمة في تفكيك النظام العام المجتمعي والاجتماعي-السياسي. وأيضا، فإن كل إخلال بالنظام العام، وإضعاف لإدارة الدولة وتبخيسأو تحريف لأدوارها… وتضخيم لأدوار “المجتمع المدني” على حسابها،يؤدي حتما إلى تخريب الأسر وتفكيك المجتمع وبالتالي المدنية والحضارة والسلام الوطني ومن تم العالمي أيضا.
10-لقد كانت أخطر لحظة تحول للرأسمالية المعاصرة نحو التوحش، في ألمانيا الثلاثينيات (=النازية) وإيطاليا… ومباشرة بعد هزيمتهما في الحرب العظمى2. ورثتهما الإمبريالية الأمريكية (ناغازاكي… فلسطين، فيتنام، يوغوسلافيا، العراق ثم الشام…إلخ). وهي اليوم العدو الرئيس والمركزي للبشرية جمعاء.
وإذا كان كتاب “كفاحي” لهتلر قد نظر للتوحش النازي، فإنه، وبعد حوالي 20 عاما،سيبادر الأمريكي (ايرفينغ كريسطال) إلى تجميع كل دعاة نهاية أو فشل “الليبرالية الاجتماعية” حوله، داعيا إلى فلسفة “المحافظة الجديدة” بمقاله الأشهر “اعترافات الحقيقة” وذلك منذ العام (1950) ثم تكفلت لاحقا مجلة “كومانتري” وناشرها “نورمان بودهيريتز” (1960-1995) وكان من نتائج ذلك الخطاب: ريغان وتاتشر ثم بوش2. ولاشك أن لها في نحلة الماسونية العتيقة، جذورا أيضا.
إن الفوضى الخلاقة (أو العارمة) ومنها فرعها في العالم الإسلامي “القاعدة” ونسلها. تراهن على أن نشر الشر هو سبيل لبروز الخير، ومن تم فإن نشر الفوضى والخراب… هو السبيل لإقامة النظام، وتعافي الانسجام والتناسق(؟!). وبالطبع فإن الذي تولى تصريفها عربيا وإسلاميا، ومن تم إعادة إنتاجها من خلال “تأويلات” مغرضة للعقيدة وللشريعة الإسلامية. هو جهاز الاستشراق الأمريكي الضخم، ومخابراته الثقافية المنتشرة، وعلى رأسه برنار لويس (وهنري ليفي). أما عواقب ذلك، فهي معروفة في عراق 2003 والصومال ويوغوسلافيا…إلخ ثم في كوارث ما يسمى بـ”ربيع” العرب 2011 وحتى يومه، وذلك بعد تجريبه “الناجح” في أوربا الشرقية…
إن الفوضى قبل أن تكون “نظرا” (كوندا ليزارايس) هي أولا وأساسا، راهن الرأسماليات في شروط الأزمات العامة لأوضاعها جميعا، إن مجموع الاقتصاد الإسمى أو الصوري لأسواقها، يضاعف حقيقة الاقتصاد الفعلي، إنه نظام مفلس إذن، مغشوش ومزيف. يستهلك ما لا ينتجه (سفيه) ويراهن على النهب والربا الفاحش والحروب والتزوير والقرصنة والمخدرات والقمار وعبادة الأشياء والأحياء، وتخريب الطبيعة والذاكرة والثقافة والجمال، وشراء الذمم وإعادة إنتاج النخاسة… ومحاربة الدين (بالتدين) وتفكيك الأسرة…
*
جملة ذلك وغيره، هو ما يفسر:
1-التشابه، وأحيانا التطابق بين مرحلة التوحش البشري لما قبل التاريخ، والتوحش الرأسمالي المعاصر، وخاصة منه الراهن.
2-ليس توحش الرأسمالية السائدة في مراكزها وتوابعها (الخليج مثلا) سوى لحظة من حالات إفلاسها ومرحلة من انحطاطها، أو حتى احتضارها المتدرج، والذي يعكس تراكم وتوالي أزماتها العميقة والشاملة… ومن تم تقاذفها (=الأزمة) في ما بين دولها وقطاعاتها (مدنية- عسكرية- عقارية- مالية- صناعية- فلاحية-تجارية…) حول من يؤدي، أكثر من غيره، فاتورة الخروج منها، ثم لاحقا، توافقهم جميعا على تصديرها نحو دول وشعوب الجنوب. وذلك في شكل استعمار جديد وايديولوجيته المسماة “ما بعد الحداثة” والتي تعني “ما بعد الاستعمار القديم”وذلك عن طريق “تجديده” بدل التحرر منه والقضاء على أدواته وآلياته جميعا…
3-نزوع المجتمعات المعاصرة في المقاومة،إلى مزيد التشبثبالدين وبالتدين/وبالأسرة/وبإدارة الدولة/ وبالنظام ولو كان ظالما/ وضد الاختلاف،والتعدد (فما بالك بالتنوع)/ والخوف من الحريات الفوضوية ومن الفردانيات الأنانية، والغرائزية المنفلتة، والسفور، ومن الفنون المتحررة… إن ما يفسر “المحافظة” والنزوع نحو التقليدانية في المجتمعات الفقيرة والمستضعفة… هو التوظيف المتوحش لليبرالية: سيادة السوق، وإدارة تفكيك كل قائم، ونشر الفوضى في جميع المؤسسات والقيم…
4-التوحش في المجتمعات المعاصرة، لا يقتصر على إداراتها “السياسية” بل الأخطر، أنه يعم خلاياها الصغرى وأفرادها، بل و”نخبتها” الثقافية والفنية كذلك أحيانا. إن “الداعشية” اليوم حالة عامة واستعداد ثقافي، لا يحتاج لإشعاله عنفا، سوى تدبير إرهابي خارجي، إلى كلاشينكوف، ودولارات وإعلام مغرض (قنوات…) وصاحب عمامة مرتزق… ثم ينفجر(؟!)
فقه التوحش التكفيري والعدمي المتأسلم … هو صناعة مخابرات “علمية” تعيد إنتاح عموم التدين، وخصوص التأويل الوهابي المتسعود له،والذي لا علاقة له،لا بالدين ولا بالوهابية. بل هو الوجه الآخر للتأويل الصهيوني لليهودية، بما كيفهالاقتراف بدعة الدولة “الدينية” والتي لا يمكنها اليوم أن تكون، سوى رجعية، استعمارية ومتوحشة.
5-ارهاب الدول الاستعمارية الجديد هذا، يعفيهم من التدخل المباشر، وبالتالي من “التضحية” بمواطنيهم الذين يتناقصون، وبأموالهم التي تتآكل، مراهنين على قتل الضحاياللضحاياعندنا، واقتراض الأموال لأجل ذلك من مصارفهم، وتخريب المنشآت العمرانية، حتى تأتي شركاتهم لاحقا لإعادة بنائها، وتقليل الأفواه، وتهجير الكفاءات نحو مجتمعاتهم الشائخة…، عمليا نحن في شروط حرب كونية، ولكن دون أن يتورط فيها الاستعمار، سواء في مسارها وأحرى في عواقبها. وهذا هو بعض أهم “جديده”.
6-وكما حدث في الحرب العالمية 2، حيث انتصر تحالف العقلانية الليبرالية (تشرشل- دوكول) والنفعية الأمريكية (روزفلت) واشتراكية الدولة السوفياتية (ستالين) على التوحش النازي- الفاشي… فذلك هو ما سيحصل اليوم، ضدا على لاعقلانية وأنانية رأسمال المالي وأدواته العسكرية المتوحشة، وذلك عن طريق تحقيق تحول ديمقراطي في العلاقات الاجتماعية-السياسية في الغرب أولا ثم في العلاقات الدولية تاليا، وهو نفسه شرط وسبيل تحقيق انتقالاتنا الديمقراطية المتعثرة، بل والمعرقلة حتى الآن من قبلهم أساسا، ثم من قبل أتباعهم في أوساط حكامنا الرجعيين والمستبدين والفاسدين… المدعومين أساسا من قبلهم،وهذا بالضبط هو ما يجعل الاستعمار “جديدا”، مقارنة إلى سابقه الذي كان يحكم مباشرة، لا بواسطة العملاء في الإدارة كما في المجتمع “المدني”.
“عود على بدء”
ظاهرة “عود” التوحش هذه، وقفت عندها، ملاحِظة ومفسرة، بعض علوم الإنسان والفلسفات الحديثة. ومن ذلك استرجاع نيتشهلأسطورة “العودالأبدي”، لفهم بعض الظواهر المعاصرة له.وكذلك هو الحال بالنسبة لمجمل مدارس التحليل النفسي، ومفهومها عن المكبوت، خاصة منه الجماعي (يونغ) وأخيرا وخاصة أطروحة (علامة الأديان)المعاصر الشهيرة عن “الحنين إلى الأصول” (عنوان كتابه – الخلاصة). إن الإيديولوجيات الرجعية والطبقات المحتضرة والدول المنحطة… تحن إلى “الأصول” الملائمة لمصالحها في التاريخ أو حتى في “ما قبل التاريخ” إذا احتاجت إلى ذلك، وهو حال الرأسمالية الاستعمارية اليوم.
مرجع طرحي، هو من طبيعة تاريخية، وحيث أعتبر أن الزمن التاريخي يتقدم ولا يرتد، ولكن ليس في شكل مستقيم، ويرتقي ولا يتكرر، ولا يدور حول نفسه أو يراوح مكانه، وأن أقرب شكليساعد على تصوره، هو الحلزوني
أو اللولبي، المتصاعد والمتوسع، فإن ذلك يسمح بتوقع أن تتناظر، بالتالي أن تتشابه نقط أعلى منه، بنقط أدنى، شكلا وموقعا فقط. أما من حيث المضمون والدلالة والوظيفة… فيستحيل أن تكون متشابهة وأحرى متطابقة أو متكررة أوعود… بل تقدم ورقي حتميان.
أما “الربيع” إياه، فهو “عابر في زمن في زمن عابر”، ورحم الله درويش، متنبي عصرنا ووصيته الأشهر “أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا”.
منذ مستهل القرن الماضي (1916) نبهت (روزا) البشرية، إلى مفترق الطرق الذي نعيشه حاليا “اشتراكية أو بربرية” (ثم أكدها لاحقا كاستور ياديس والمجالسون..) فعلى الجميع لذلك، أن يتحملوا مسؤولياتهم.. الرأسمالية لا يمكن أن تستمر إلا كتوحش وهمجية.