تعتبر إشكالية الطرح السياسي للإسلام موضوعا شائكا ومعقدا لما فيه من مخاطر ومزالق كثيرة؛ لأنه يتعرض للبنية الفكرية للحركات الإسلامية المعاصرة.
وقد ارتبط الطرح السياسي للإسلام بمرحلة ما بعد الخلافة متمثلا في التركيز على السياسة كمدخل للإصلاح، أو فلنقل نظرية التغيير الاجتماعي من أعلى، من الدولة ومن خلال امتلاك السلطة والسيطرة على النظام السياسي الذي يعد مفتاحَ التغيير في المجتمع.
وسوف نتناول هذا الموضوع بصورة متدرجة عبر خطوات أرجو أن تكون منطقية في ترتيبها، وأن تؤدي إلى الفهم الأمثل لهذه القضية، دون التركيز فقط على نقد الحركات الإسلامية المعاصرة، أو نقد المدخل السياسي للإصلاح، أو نقد الطرح السياسي للإسلام؛ لأن النقد في ذاته لا يؤدي إلى وظيفة ما لم نحلل لماذا حدث ما حدث؟ وفي أي ظروف؟ حتى نتفهم أولا، ثم ننتقد ثانيا.
النقطة الأولى: تعتبر الفترة من عهد محمد علي إلى الآن فترة ثقافية وسياسية واجتماعية مختلفة عما سبقها؛ نظرا لحالة الانقطاع المعرفي والتاريخي مع التراث، وبدء حقبة ومرحلة جديدة تختلف عن سابقتها، اتسمت بالتقليد والاقتداء والافتتان بالغرب؛ مما أدى إلى ما أطلق عليه مالك بن نبي “القابلية للاستتباع”، أو “القابلية للاستعمار”.
العقلية الحدية.. والثنائيات المتناقضة
في هذه المرحلة اكتسبت العقلية الإسلامية مجموعة من الصفات، منها:
- أنها أصبحت عقلية أحادية واحدة أو قطبية ثنائية ؛ أي إنها لا ترى في الأمور إلا شيئا واحدا، وافتقدت القيمة الوسطية فلا ترى الأشياء إلا على شكل حديات: مع أو ضد، واحد أو الآخر، وبدأت تنظر إلى أحد المداخل، أو أحد الحلول، أو إحدى الوسائل، وتغفل عن الوسائل الأخرى، مع أن المجتمع في ظواهره معقدٌ ومتشابك؛ فلا يمكن الفصل بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني، إلا أن يكون الفصل بالتحليل بمبضع الأستاذ وفي قاعة الدرس فقط.
وقد أدت هذه العقلية الواحدية الحدية الطرفية إلى فكرة الثنائيات المتناقضة: فإما دين أو دولة، وإما أصالة أو معاصرة، وإما حداثة أو تقليدية، وإما سلفية أو صوفية.. فهناك ثنائيات لا نهاية لها على الرغم من أن واقع الحياة ليس كذلك، بل هو كل متصل.
العبث بالمفاهيم.. عربية المبنى غربية المحتوى!
- وحدث خلل آخر هو خلل في المفاهيم ؛ فالمفاهيم التي أصبحت تستخدم في الواقع الإسلامي – والعربي بصفة خاصة – مفاهيم عربية المبنى أو عربية اللفظ، ولكنها غربية المحتوى. وحدثت عمليات من الملء والتفريغ لهذه المفاهيم تستحق الدراسة والرصد.
وأضرب مثالا بمفهوم الدين؛ فهو – كما ورد في اللغة العربية وفي اللغات السامية جميعا – يشمل السياسة، ويشمل الاقتصاد كما في الإقراض والاقتراض، ويشمل الحساب والعقاب كيوم الدين، ويشمل الخضوع والإذعان، ويشمل الاستقرار كما في المدنية، ويشمل مجموعة من المعاني تعني نمطا حياتيا متكاملا، فيه الاقتصادي والاجتماعي والديني والأخروي والعمراني وكل ما هو داخل في المعنى اللغوي لمفهوم الدين.
هذا الفهم للدين الذي كان يحيط بذلك المعنى الشامل تغير اليوم، فأصبحنا الآن نتكلم عنه ونضعه في صورة ثنائية: الدين والسياسة، وأنهما اثنان، بينما هو الأصل وفرعه؛ فالسياسة فرع عن الدين بمعناه الواسع.
وقد حدث لمفهوم السياسة مثل ما حدث للدين؛ فالسياسة تعني – كما يعرفها ابن القيم – “أخذَ الناس إلى الصلاح، وإبعادهم عن الفساد”، أو هي “جلبُ المصلحة ودرء المفسدة”.
يقول ابن عقيل – أحد فقهاء الحنابلة – “لو أنك تقصد أنه لا سياسة إلا ما نطق به الشرع؛ فهذا غلط وتغليط للصحابة. السياسة هي أي فعل يكون فيه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يفعله الرسول، ولو لم يرد فيه نص قرآني”. هذه هي السياسة؛ فهي فعل اجتماعي عام.
وأطلقت السياسة في التاريخ الإسلامي على كل ما يتعلق بأمور التهذيب والتربية والإصلاح والتكوين؛ فنجد كتبا تتكلم عن سياسة الخيل تعنى بأمور تدريب وتمرين الخيل حتى تكون خيلا مهذبة ومدربة، وأطلقت على سياسة الصبيان، ولابن سينا كتاب عن سياسة الصبيان، وهناك كتب أخرى تحمل عنوان “سياسة الموردين” بالنسبة للطرق الصوفية. إلى أن كُتب في مصر كتاب للدكتور مصطفى كساب عام 1870م اسمه “سياسة البقر” يتكلم عن سلوكيات البقر في الطب البيطري.
فلفظة السياسة كانت تعني هذا المعنى الواسع المتسع الذي يشمل التهذيب والتربية والإصلاح، ومن ثم لم تكن السياسة هي الدولة، وإنما كانت السياسة هي الفعل الاجتماعي أكثر من كونها هي الدولة.
الأمر نفسه حدث أيضا مع كثير جدا من المفاهيم؛ فلا نكاد نجد مفهوما من المفاهيم المحورية في حياتنا الثقافية إلا وقد عبث به هذا العبث الذي أحدثه الفكر الأوروبي كمحتوى لثقافتنا المعاصرة رغم بقاء العربية لغة لتلك الثقافة.
أصبح الإنسان العربي يتكلم عن لفظة الدين أو السياسة أو الحضارة أو أي ألفاظ أخرى وفي ذهنه يكمن المعنى الأوروبي.
- إننا كثيرا ما نقرأ التاريخ الإسلامي قراءة غير صحيحة فنتهمه بالكثير ونحن لا نفهم مفاتيح وشفرات فك هذا التاريخ. نحن نتعامل مع التاريخ الإسلامي وفي أذهاننا المجتمع بتنظيماته الحالية الآن، ولكن المجتمع في ذلك الوقت كانت له معادلة أخرى، عناصرها مختلفة، والعلاقة بين عناصرها تلك مختلفة، ونسب تلك العناصر أيضا مختلفة.
من تاريخ الطبقة الحاكمة.. إلى تاريخ المؤسسات
لنأخذ – مثلا – العلاقة بين الدولة والمجتمع.. نجد التاريخ الإسلامي يشهد حالة وجود دولة ضعيفةٍ جدا ومجتمعا قويا جدا؛ فقد كان المجتمع هو المعمل الذي ينتج الحضارة، والدولة هي طبقة هامشية في المجتمع لا تؤثر عليه كثيرا؛ بمعنى أن نقاط التماس بين حياة الإنسان العادي والدولة في حياته اليومية نقاط قليلة؛ فهو لا يحتك بالدولة إلا عندما يدفع الضريبة أو المكوس، أو عندما يقع في جريمة توقعه تحت القانون، وفيما عدا ذلك فهو حر.
أما اليوم فإننا نعيش في دول تربط الإنسان من جميع أعضاء جسده بخيوط تتعلق بها في النهاية بشكلٍ أو آخر؛ فلا يأكل إلا بالجمعية التعاونية، ولا يشرب إلا بالتموين، ولا يفكر ولا يتعلم ولا يتطبب ولا أي شيء آخر إلا عن طريق الدولة. هذه الصيغة لم تكن كذلك دائما؛ فالمجتمع هو الذي كان ينشئ هذه المؤسسات التي تستحق أن يُركز عليها وتُفهم.
فالأوقاف مثلا هي مؤسسةٌ إسلاميةٌ أساسية في هذا المجتمع، وكانت لها أنواع عديدة ومتعددة غطت كل الوظائف الاجتماعية، وهذه الأوقاف الأهلية وُجدت واستمرت وكانت تعطي للمجتمع استقلالية في مواجهة الدولة، وتجعل دور الدولة هامشيا إلى أن ألغيت في مصر عام 1953م، وفي العراق والشام عام 1960م أو قبلها، وأصبحت ملكا للدولة.
والحسبة – كمثال آخر – انتشرت إلى أن كان هناك 124 مؤسسة اجتماعية تطبق عليها الحسبة، ولكل مؤسسة تنظيم داخلي شبيه بنمط الشركات والمؤسسات المعاصرة التي كانت تدار داخليا دون هيمنة من الدولة، وتتعاون مع الدولة في الوقت نفسه؛ فلكل حرفة شيخ للحرفة؛ ينظم العمل بها، ويضع قواعدها، ويصبح وسيط تعاون بين الدولة والحرفة؛ يطبق القواعد، ويعاقب المخالف، ويحافظ على الجودة واستمرار كفاءة السلعة وقيمتها.. الخ. فالحسبة كانت تعتبر الهيئة الرقابية على هذه الوظائف؛ مما يعكس أن هناك 124 فرعا ومؤسسة نقابية أو صنفا من الأصناف الاجتماعية في المجتمع لا تتدخل فيها الدولة لم تنشئه الدولة ولم تكن تديره.
هذا بالإضافة إلى مؤسسات التعليم جميعا، وبالإضافة إلى الفعل الاجتماعي العادي، وبالإضافة إلى عدم ملكية الدولة لأي شيء في المجتمع؛ فلم تكن هناك ملكيات للدولة فيما يتعلق بالصناعة أو بالزراعة أو بالتجارة.
وظل النسق الاجتماعي الإسلامي محافظا على نمطه المتوارث، وهو أنه دولة لها دور محدد هامشي جدا في المجتمع، يقابلها مجتمعٌ قويٌ صحيح في ذاته. فإذا انحدر وضعف جسده؛ فإن ذلك الضعف يكون تلقائيا وليس بعامل قهر أو عن طريق إضعاف الدولة له. ولتأكيد هذه الفكرة نستطيع أن نقول: إن لحظات انحدار الدول في التاريخ الإسلامي لم يصاحبها انحدار في المجتمعات؛ مما يعني أن كلا منهما له خط صيرورة وتطور مستقل؛ فعندما انحدرت دولة المماليك في مصر وانهارت عسكريا أمام الأتراك أخذ الأتراك الصناع المصريين لبناء حاضرة الدولة العثمانية؛ فمعنى هذا أن المجتمع قوي رغم ضعف الدولة وانهيارها، وهكذا.
فإذا أردنا أن نرصد تاريخ الإسلام فلا ينبغي أن نرصد تاريخ الطبقة الحاكمة أو القصر السلطاني أو القصر الأميري ومن يحيط به كما فعل كل مؤرخي الإسلام من الطبري وابن كثير وابن الأثير. بل إذا أردنا أن نفهم المجتمع فلا بد أن ندرس تاريخا ثالثا هو تاريخ المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية في الإسلام، وكيف كان يدار المجتمع اقتصاديا واجتماعيا، ولعل ما أضافه الأمير شكيب أرسلان على كتاب “حاضر العالم الإسلامي” يمثل مقدمة في هذا الشأن؛ ذلك أنه ركز على التاريخ الوسيط ما بين تاريخ الطبقة الدنيا وتاريخ الطبقة العليا، وقدم تاريخ المؤسسات الاجتماعية أثناء الفترة المحيطة بالحملة الفرنسية وما قبلها وما بعدها.
تغول الدولة مع استنبات المفهوم الغربي!
- ومع عصر محمد علي بدأ استنبات مفهوم الدولة الغربي في العالم الإسلامي؛ ففي عام 1805 أُلغيت مؤسسة الحسبة إلغاء كاملا، ثم أُلغي المماليك كقوة اجتماعية، ثم ألغيت نقابة الأشراف كقوة اجتماعية أيضا، ثم ألغي شيوخ الطوائف، وألغيت هيئة العلماء، وطرد محمد علي الشيوخ إلى دمياط، وحدث نوعٌ من الاحتكار للسلطة في يد الدولة. ومنذ ذلك التاريخ بدأت الدولة تتغول على المجتمع.
ففي عام 1812م تم وضع يد الدولة على جميع الأراضي الزراعية، حتى أصبحت الدولة تملك ملكية الرقبة، والفلاح يملك حق الانتفاع، ثم بدأ محمد علي في بناء الصناعة المصرية التي تملكها الدولة، وبدأ في بناء المدارس والكليات التي تملكها الدولة، وبدأ ينشئ كلية الطب والمستشفيات التي تملكها الدولة.
بتعبير آخر: بدأت تنشأ دولةٌ على شاكلة الدولة الغربية الرأسمالية التي تتحكم في المجتمع بدرجةٍ أو أخرى، وتطورت بعد ذلك إلى نموذج وصورة من الدولة مختلفة عن النمط المتوارث، تتبعها علاقة بين الدولة والمجتمع تختلف عن النمط المتوارث، وأصبح المجتمع ضعيفا والدولة قوية، حتى تحكمت الدولة في كل شيء، وخرجت عن نمط علاقتها السابقة بالمجتمع.
ومنذ ذلك الوقت بدأت الإشكالية التي نتكلم عليها الآن وهي إشكالية الطرح السياسي، أو أولوية المدخل السياسي للإصلاح أو اعتباره المدخل الوحيد. ومع هذا النمط من انقلاب العلاقة بدأت تظهر في المجتمع المسلم ظاهرة جديدة، وهي أن الدولة تعني القوة وتعني السلطة والسيطرة والتحكم؛ فأصبح المفهوم أو التعريف الإسلامي للسياسة غير ذي معنى؛ لأنها كانت عِلْمَ مصلحة وأصبحت علم قوة.
وبدأت بعد ذلك تظهر في المجتمع المسلم أنماط من الحركات والمنظمات هي نسخ وتقليد للحركات والمنظمات الغربية، سواء على مستوى الدولة أم على مستوى المجتمع؛ فالدولة تنقل المؤسسات الغربية كما هي، والمجتمع يفعل المسألة نفسها حين يحاول أن يقاوم هذا النقل بنقل ما يضاد هذه المؤسسات.
حل علماني في صورة إسلامية!
النقطة الثانية: في ظل هذه الظروف نشأت الحركات الإسلامية، أو نشأت حركات الإصلاح الإسلامي؛ فأصبحت حركات اجتماعية بكل ما لتعبير “الحركة الاجتماعية” في علم الاجتماع من معنى؛ أي إنها بنتُ هذا المجتمع ووليدته. إنها حركات تنطبق عليها صفات أي حركة اجتماعية في أي مكان آخر، تقوم بالإصلاح في ظل معادلة معينة.
فأصبح لا يمكن الفكاك أو الخروج من أَسر الواقع الذي كانت فيه، وهو واقعٌ يُعلي شأن السلطة والقوة والدولة، ويجعل الدولة هي المدخل الأساسي أو المدخل الأصيل للإصلاح الاجتماعي.
وهذه الحركات أخذت في تنظيمها الداخلي صورة المؤسسة الغربية الهرمية؛ من التدرج إلى النظام إلى انسياب الأمر من أعلى إلى أدنى إلى الرئاسة، ثم بعد ذلك أخذت صورة أكثر قسوة وشمولية، وأصبحت حركات مغلقة يترأسها شخص لا يُخلع حتى يموت، ليس فيها انتخابات داخلية أو ديمقراطية، وليس فيها تداولٌ للسلطة أو المسئولية.
أي إنه أصبحت تنطبق على الحركات أو المنظمات الاجتماعية -إسلامية كانت أو غير إسلامية- مواصفات المجتمع الذي تعيش فيه، والفلسفة نفسها التي تحكم المنظمات التي تديرها الدولة، أو المنظمات التي تدار في المجتمع بأكمله؛ بحيث أصبحت حركات يسري عليها القانون الاجتماعي نفسه.
وشيئا فشيئا تحول المجتمع إلى نموذج آخر، حين أصبح النموذج الغربي هو النموذج المسيطر في داخل النموذج كهيكل وبنية، بينما أصبح الإسلام هو المحتوى الذي يقدم البدائل الفكرية -فقط- داخل هذه التنظيمات ذات الطبيعة الغربية؛ فالإسلام ليس أكثر من بدائل داخلية، لكن طريقة التنظيم طريقة غربية. وهذا لا يعني أنها مرفوضة، وإنما يعني أننا ننبه إلى حدوث نوع من الانقلاب الكلي أو التغيير الكلي الذي أدى إلى زحزحة منظومة قيمية معينة، ونسق معرفي ومؤسساتي معين، وإحلاله نسقا آخر مختلفا عنه مكانه.
هذا النسق الآخر هو نسق يقوم على فهم معين للسياسة وعلى وزن معين للدولة وللمجتمع؛ فوصلنا إلى ما يمكن أن يُطلق عليه علمنة للمجتمع وعلمنة للحلول؛ بمعنى أنه حل علماني في صورةٍ إسلامية؛ لأنه يقوم على المعادلة نفسها والمسلمات نفسها، وهي فكرة التنظيم والسلطة والقوة، فكرة السياسة كمدخل أساسي.
الديكتاتورية المبررة!
ومنذ ذلك الوقت أصبحت المسألة مسألة حركات أو منظمات أو جماعات تقوم على محاولة إحداث الإصلاح والتغيير في الدولة بالمنطق نفسه الذي أصبح سائدا في الدولة؛ فلم يُلتفت كثيرا إلى التغيير من أدنى، وإنما التُفت بصورة أكثر إلى التغيير من أعلى؛ التغيير من الدولة، أو من التنظيم السياسي، وبدأنا نشهد مجموعة ضخمة من الظواهر المتناقضة نتيجة وجود نسقين فكريين متناقضين يتعايشان في مؤسسة واحدة: نسق إسلامي كمحتوى فكري، ونسق غربي كبناء تنظيمي وكمفهوم يدير الصراع الاجتماعي أو يتحكم في معادلة الصراع.
إن وجود مفهوم القوة الغربي مع فكرة الشرعية في الإسلام (شرعية الحكم) أصبح يؤدي إلى ظاهرة ديكتاتورية مبررة نضعها في صورة معادلة: (مفهوم القوة الغربي + الشرعية الإسلامية = ديكتاتورية مبررة).
وانتهت الشرعية -سواء كانت شرعية اتساق مع الدين أو شرعية اتساق مع المجتمع، أو رضا اجتماعي- إلى استبداد جاهل، وأقصد بالاستبداد هنا الاستبداد الفكري قبل أن يكون الاستبداد السياسي؛ لأن أخطر أنواع الاستبداد هو استبداد امتلاك الحقيقة، استبداد امتلاك الفكر. فأصبحنا نجد في كل فترة وأخرى ظهور من يدعي أنه يملك الحقيقة كاملة، وأنه المنقذ لهذا المجتمع، وأنه المصلح الأوحد الذي يجب على الأتباع أن يسيروا خلفه..
وقد أدى نقل التنظيم الهرمي عن الغرب بصورته الموجودة هناك مع فكرة الطاعة لولي الأمر إلى شمولية التنظيم وسلبية الأعضاء الذين لا يعرفون -غالبا- الميثاق الذي ينظم المنظمة التي يعملون بها، وعليهم السمع والطاعة، ومن شذ شذ إلى النار؛ فالتنظيم مع الطاعة يؤدي إلى استبدادٍ قاتل، والطاعة هنا تختلف عن الطاعة في صورتها البسيطة التقليدية القديمة التي لم تشهد مثل هذا النوع من الهرمية والتدرج.
ومع انتشار عقلية التقليد والنقل في المجتمع والثقافة -والحركات الإسلامية جزء منها- ومع التطورات المتلاحقة المتسارعة.. ظهر تخليط شديد؛ فمرة نكون مع الاشتراكية، ومرة مع الديمقراطية ومرة مع الليبرالية، ومرة مع الرأسمالية، ونبرر كلا من هذه الأشياء بتبريرات إسلامية.
وكم من الكتابات والأفكار والقناعات انتشرت في الساحة لا تعبر إلا عن أن العقل فقد القدرة على الاجتهاد والنقد والمراجعة، وهو يقع تحت ضغوط وتغيرات هائلة في المجتمع حتى ينتهي إلى التخبط، مرة إلى أقصى اليمين ومرة إلى أقصى اليسار.
عواقب اختزال الإسلام في السياسة والحكم
ومع ترسخ الاعتقاد في السلطة كمدخل وحيد في الإصلاح من خلال التطورات التي شهدها مفهوم السياسة والعلاقة بين الدولة والمجتمع أصبح المصلح يعتقد أن السلطة هي المدخل الأساسي للإصلاح، وفي الوقت نفسه الذي يقتنع بذلك لا يملك إمكانية الوصول إلى السلطة؛ لأن الوصول إلى السلطة يحتاج إلى قوة عسكرية مسلحة أو التمكن من الفوز في صناديق الانتخابات؛ فهو مقتنع بالمستحيل؛ مما يؤدي إلى عقلية برجماتية انتهازية.. إذ ماذا يفعل من يريد الوصول إلى السلطة ولا يملك إمكانياتها؟ .
لقد كان هدف هذه الحركات الإصلاح الاجتماعي العام الذي يعني أخذ الناس أو تقريبهم إلى صورة فضلى من الإسلام مع استصحاب التقليد. فعند فقدان المجدد (المجدد هو الذي يحدث تجديدا نوعيا في البنية الفكرية، والمصلح: هو القائد الاجتماعي الذي يسعى إلى إصلاح حال المجتمع ) نصير إلى الانسحاق في الماضي، وننفي صيرورة الزمان.. إننا نريد أن نصلح الحال الذي نعيش فيه، وهو حال معقد جدا، ولكننا لا نملك إمكانية التجديد الفكري التي تتواكب مع هذا الزمان..
فماذا نفعل؟ إنه لا مفر إلا اللجوء إلى الماضي ومحاولة البحث فيه عن بدائل أو عن إجابات لأسئلة معاصرة، وأن نحمل التاريخ همومنا ومشاكلنا، ونسأل ابن تيمية مثلا أن يجيب على سؤال الحزبية والمشاركة السياسية، ونستفتيه في دخول البرلمان والائتلاف الحزبي، وتداول السلطة، والتعايش مع العلمانيين والماركسيين في مجتمع واحد أو سحقهم، وابن تيمية لم يعاصر هذه الظواهر ولم تخطر له ببال ليجيب عليها.
ثم جاء اختزال الإسلام في السياسة والحكم، وعدم القدرة على تفعيل الجماهير؛ ليؤدي إلى ظواهر مختلفة من تكفيرٍ ورفضٍ وعزلةٍ وانحسار، وبما أن الجماهير سلبية فإنها إما أن تُكفر، وإما أن ترفض. والجماعة إما أن تُعزل عن الجماهير، وإما أن تنحسر فتصبح مثل جماعة التكفير والهجرة أو غيرها.
وكذلك نرى التخبط الناجم عن اجترار تاريخ الإسلام كقوة دولية واحدة واستصحاب التراث الإسلامي الذي أبدع وأنتج عندما كان الإسلام القوة الدولية الوحيدة، أو إحدى القوى الدولية الكبرى بالمقارنة بهزال وضعف الواقع الإسلامي المعاصر.
وهذا التخبط هو التخبط في العلاقات مع الآخر، وانتقالها من النقيض إلى النقيض؛ فتجد مثلا في دولنا العربية -برغم المعارضة الشديدة لأمريكا- أن البضائع الأمريكية هي السائدة، وفي ظل محاربة فرنسا أن المدارس الفرنسية هي السائدة؛ فنحن ننسحق أمامهم ثقافيا واجتماعيا، ونحاربهم سياسيا مما يدل على نوع من التخبط والانهزام الداخلي.
ثم نأتي إلى ظاهرة ضعف وزن المجتمع أمام الدولة مع الاعتقاد بأولوية السياسة كمدخل للإصلاح؛ الأمر الذي أدى إلى ظاهرة نعايشها جميعا، وهي ظاهرة الانتحار المتكرر للحركات الإسلامية كما حدث في الجزائر؛ لأنها بنيت على اعتقاد القدرة على إحداث تغيير سياسي بمجتمع ضعيف ودولة تمثل الوحش والغول. فبينما لم تكن تلك الحركات تملك الماكينة اللازمة لإحداث أي توازن مع هذه القوة، إلا أنها كانت -وربما لم تزل- مقتنعة بأن السياسة هي المدخل الأساسي للإصلاح مع أن الواقع يثبت عكس هذا الأمر مئات المرات.
فما العمل تجاه مثل هذه الظواهر؟
مجرد نقاط نطرحها للنقاش والتفكير والتأمل:
تهميش السلطة ذهنيا وثقافيا: لا بد من إحداث حالة ثقافية في المجتمع تُهمش السلطة، وتبعدها عن الذهن وتتمثل في إشاعة عدم الاعتقاد في السلطة كوسيلة أساسية للإصلاح، أو كقوة أساسية.
تقوية الفعل الاجتماعي الطوعي والتطوعي من خلال التركيز على الأفعال الطوعية البسيطة، أو فيما يطلق عليه الآن -في الموضة الحديثة- المجتمع المدني.. وعلى الرغم من أننا لسنا في حاجة إلى هذا المجتمع؛ لأن مجتمعنا منذ نشأته وهو يعمل بهذه الطريقة؛ فإن هذا يساعد على تفعيل المؤسسات التطوعية في المجتمع وإعطائها دفعات حتى تهمش السلطة في النهاية تهميشا واقعيا بعد أن همُشت تهميشا ذهنيا وثقافيا.
بناء مؤسسات الأمة، وإعادة التفكير في بناء الأوقاف، وإعادة التفكير في بناء المؤسسات التي تخدم المجتمع بعيدا عن الدولة.
* عن :